إنجاز فلسطين

بـلاغ سيـاسي لمثقف عـربي؟؟؟ابو منيف -عبر همسة سماء ألثقافه تابعونا

نص المداخلة التي قدمها الاخ عبدالله الحوراني (ابومنيف) في الدورة الخامسة عشر للمجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم، التي عقدت في القاهرة بين 11 و13 تموز (يوليو) 1992 . بصفته رئيس دائرة الثقافة وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية .

الموضوع قديم جداً، لكن قدمه لا يعني أن جوابه سهل ، ولا يزعم أحد أنه يملك حله السحري الجاهز، ومع ذلك فهناك اختيارات أو انحيازات إلى هذه الجانب أو ذلك، والموضوع يتعلق بهموم المثقف السياسي، وشواغل السياسي المثقف، ويتعلق بتقاطع السياسة مع الثقافة.
ونحن، في هذه المرحلة الحساسة من أطوار القضية الفلسطينية، نقف، ربما لأول مرة بهذا القدر من الجدية والخطورة، أمام ما هو قادم من جواب سياسي عن أسئلة تاريخية، فما هو دور المثقف الذي حمل هذه الأسئلة ، وعبر عنها بمختلف أشكال الإبداع ، منذ بدايات القرن حتى يومنا هذا؟.
ويبدو أن الزمن المتاح لنا للتعاطي مع هذه الأسئلة، وتحديد أسلوب التعامل معها والوقف منها، ليس زمنا مفتوحا، بل هو أقصر مما نتصور. فالتحرك السياسي الجاري في المنطقة، وعلى الصعيد الدولي، يوحي بأن حلا ما أصبح على الأبواب ـ أو هكذا يقول المنغمسون في العملية السياسية ـ . ويجري تقديم هذا الحل بشكل احتفالي، ويطلق عليه وصف الإنجاز ضمن المقاييس والموازين القائمة عربيا وإقليميا ودوليا، وبغض النظر إن كانت كلمة “الإنجاز” هي الوصف الملائم الذي يمكن إطلاقه على الحل، وبغض النظر أيضا عن أن أي إنجاز فعلي يتحقق لشعبنا ، بعد كفاحه الطويل، وصبره المرير ، سيحظى بالترحاب اللائق من أبناء شعبنا كافة، إلا أن هذا “الانجاز” إن كان سيعطينا شيئا، فإن الثابت أن هذا الشيء لن يكون مجانا، بل هناك استحقاقات تقترب منا، بنفس درجة اقتراب ما نسميه انجازات.
وإذا كان السياسي الذي فينا ملزما بدفع هذه الاستحقاقات فإن الثقافي الذي فينا يقف على مفترق الأسئلة .. فما هو دور المثقف إزاء ما يجري ويستجد ؟
هل دور المثقف أن يبرر ما يجري؟
هل دوره أن يقول: لا ، ويختفي هاربا بضميره المستريح؟
وماذا عن المثقف الغارق حتى أذنيه في العملية السياسية؟
قبل هذه الأسئلة، المتزايدة والمحرجة، لابد من توضيح ان السياسي ليس متهما، ولكنه في لحظة اختبار، فهو أمام مشروع أو برنامج يتعاطى مع واقع ربما لم يكن له دور في صنعه، وإذا تغيرت الظروف فإنه يتحرك في ضوء ما يستجد، وقد يكون عليه أن يسهم في تغيير هذه الظروف، لكن هذا لا يعفيه في نهاية الأمر من دفع استحقاق ما ، وهذا الاستحقاق الآن مفروض علينا، فهل يحظى السياسي بمباركة الثقافي؟ أم أن على الثاني أن يحاكم الأول، أي أننا بصدد معادلة تلقي على السياسي التعاطي مع اليومي، وتحمل الثقافي مسؤولية المبادئ وحراسة الحق التاريخي؟.
ربما كان رجل الإعلام المنشغل بالتفاصيل اليومية، هو الذي يواكب السياسي، بل إن رجل الإعلام بهذا المعنى هو سياسي يدخل منطقة التكتيك، ويقاتل لإبراز هذا الموقف وتسويغه، والرد على ذلك السؤال وتفنيده . والخطر كله هو في الخلط بين الإعلامي والثقافي، وإن كانت أدواتهما المباشرة واحدة، فالمثقف يضع أمامه هدفه البعيد دائما، ويوظف إبداعه ليحافظ على الهدف الاستراتيجي. أما رجل الإعلام السياسي فهو ـ وإن كان لا يحق لأحد أن يتهمه بالتنازل عن الهدف الاستراتيجي ـ ملزم بتقديم أجوبة بحجم الأسئلة المطروحة، وكثيرا ما يكون في مأزق الطالب في الامتحان، وأمامه سطر صارم يقول : أجب بنعم أو لا..
وإذا ظلت العجلة السياسية تدور ضمن المعطيات الراهنة دون متغيرات دراماتيكية عربية أو دولية ـ ويبدو أن الأمر كذلك حتى الآن ـ فإن السياسي الفلسطيني مطالب بأبهظ “نعم” في تاريخ قضيته، ومهما كابرنا ومهما ماطلنا في تقديم الجواب، فإن استحقاقات، لا علاقة لها بالحق، ستفرض نفسها علينا، دون أي لف أو دوران ، وأيا كانت الكلمات أو التعبيرات التي ستستخدم في وصف الحالة أو تبريرها او تفسيرها، فإن موضوع الاعتراف بالعدو سيكون مطروحا ، وكذلك موضوع التطبيع، لا على المستوى الفلسطيني فقط، بل على المستوى العربي.
قد يجيز السياسي لنفسه، أو قد يجوز له ان يسمي ما يقوم به مناورة تكتيكية في معركة طويلة، وأن يضعه في خانة الهدف المرحلي . !!ربما . لكن تسويغ ذلك والقبول به محكوم بشروط وضوابط أساسها أن تتوفر في المرحلي مقومات الحد الأدنى الوطني، وأن يوظف المرحلي لتحقيق الاستراتيجي في المدى البعيد، لا أن يكون بديلا عنه أو إلغاء له. وبحيث يبقى باب المستقبل مفتوحا، ويظل الجسر بين الحاضر والمستقبل موصولا.
وبهذا المعنى فإن ميدان المناورة أمام السياسي ليس مفتوحا على مصراعيه، وأن حريته في المناورة محدودة، أما الثقافي فإنه محروم حتى من هذا الهامش الضيق في المناورة. إذ ليس في قاموس الثقافة كلمة مناورة. هناك مناورة سياسية، وإعلامية، وعسكرية، ولكن ليس هناك مناورة ثقافية، والمثقف يتعامل مع قيم مطلقة، ولا يمكن تجزئتها إلى أجزاء ومراحل، وهو حامل راية الحق التاريخي، والمدافع الأول عنه، ومهمته ان يستخدم كل أدواته وأشكاله الإبداعية للتعبير عنه، وحمايته، وإحاطته بسور من المحرمات التي تمنع المساس بقدسيته.
وإذا كان على السياسي أن يحرق دمه للبحث عن صيغة أقل الخسائر مقابل أفضل الممكن، فإن الثقافي الذي هو ذاكرة الأمة ووجدانها وحارس روحها لا يمكن أن يكون شريكا للسياسي في ما هو مجبر عليه أو مضطر لعمله، فالعدو، مثلا، يسعى فيما يسعى إليه، إلى تطبيع علاقاته مع العرب، ويعمل على قبر شعار طالما ناضلنا من أجل إعطائه مضمونه الحقيقي ووضعه موضع التنفيذ الا وهو شعار “قومية التحرير” ليحل مكانه شعار “قومية التطبيع”، مما يلغي جدوى البعد القومي أصلا، بحيث تصبح الأرض العربية ساحات متفرقة تنشيء علاقات متفرقة مع العدو الصهيوني، وفيما بينها ، ومن يدري فقد يكون القادم من السواد بحيث تصبح الصلة بين هذا العدو وبين بعض الأقطار العربية، أفضل من صلات هذه الأقطار بعضها ببعض (كما هو حاصل في العلاقة مع العدو “السوبر”)، وفي هذه الحالة التي لا نريد لها أن تكون، ما هو دور المثقف الفلسطيني؟ هل يمكن أن يكون الجسر الذي تعبر عليه عربة التطبيع الإسرائيلية ـ العربية؟ وهل يمكن أن يكون الحصان الذي يجر هذه العربة مطوفا بها البلدان العربية مسوقا بضاعتها؟ وماذا يقول لأشقائه من المثقفين والمبدعين العرب الذين حمل وإياهم راية النضال القومي، وتولى معهم حراسة التراث الثقافي والفكري للأمة؟ وجعلوا معا من فلسطين وقضيتها رمزا للقيم النبيلة في تاريخنا وعصرنا؟
ويزداد موقف المثقف الفلسطيني تعقيدا وصعوبة وهو يرى أن الحل الذي يجري ترويجه ـ هذا إذا قبل العدو ـ يقوم على مقايضة جزء من الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني بجزء آخر منه، وحل مشكلة جزء من السكان على حساب حقوق ومستقبل الجزء الآخر، وتقسيم الشعب الواحد إلى داخل وخارج ووضعهما في حالة تعارض.
إن مسؤولية المثقف الفلسطيني والعربي تمنعه من الانتظار حتى الوصول إلى هذه النتائج من أجل أن يقول كلمته التي هي أمانة الأمة، وإنه ملزم بالتذكير الدائم بأن أبناءنا الذين لم يولدوا بعد، لم يفوضونا بالتنازل عن حقوقهم الوطنية الكاملة، ولهذا سيكتب الشاعر والروائي، ويرسم الرسام، ويغني المغني وينتج السينمائي والمسرحي ما يعمق نهر التاريخ، وما يؤكد مثلنا الشعبي “ما ضاع حق وراءه مطالب”.
إن لنا في عدونا نفسه مثالا، فسياسيوه، على تشددهم يأخذون ويعطون بنسبة ما في المجال السياسي، لكن كتبهم التربوية وإنتاجهم الأدبي والفني ومؤرخيهم لا يتراجعون عن مصطلح أرض الميعاد أو إسرائيل الكبرى.. فإذا كان هؤلاء المتمسكون بالخرافة على هذه الدرجة من التشدد، فماذا عن حراس الروح الوطنية والقومية فينا من مثقفين ومبدعين.
ربما بدا أن الجانب الاستعماري في المشروع الصهيوني، أي دور إسرائيل كأداة للإمبريالية الأمريكية والغربية بوجه عام قد طرأت عليه بعض التغيرات نتيجة للتطورات الدولية مما يوحي للبعض أن المشروع الصهيوني يتزعزع ميدانيا، لكن الجانب التوراتي والتلمودي في المشروع الصهيوني لم يتزعزع، ولهذا فإننا في حلبة صراع وجودي من أعقد عمليات الصراع في التاريخ، وهو ما لن يحله جولة أو جولتان في معترك طويل، ولهذا لا يمكن للمثقف أن يبرر ما يجري ، ولكن لأن من داخل المثقف سياسيا بحجم ما، فإنه من غير المنطقي لاستسهال في عملية الاتهام المجانية ، ولا الانسحاب تحت شعار الهرب بالطهرانية الوطنية والاكتفاء بتميمة : “لا”، إن على المثقف أن يواصل نشيد الروح، ويرسي في الذاكرة الجمعية، وفي وجدان العالم، أن فلسطين العربية لأصحابها العرب الفلسطينيين …
وإذا كانت الظروف والمعادلات السياسية وموازين القوى الراهنة لا تسمح بترجمة هذا الشعار إلى واقع فإن ذلك لا يلغيه، ولا يلغي إمكانية توفر شروط تحقيقه مستقبلا. وهنا تأتي مسؤولية الثقافي في استخدام أدواته ووسائله الإبداعية لتغيير الراهن، وصناعة شروط المستقبل بما في ذلك خلق جيل تحقيق الحلم.
صحيح أن المظهر الخارجي لهذه المعادلة بين الثقافي والسياسي ينطوي على التناقض، ولكنه تناقض العناصر التي تؤكد وحدة الكتلة، وليس معنى وحدة الكتلة أن يريح المثقف ضميره بصرخة في واد يقولها بين فترة وفترة، بل إنه بإصراره على الحق التاريخي يصنع من الوجدان الجمعي قوة مادية ترشد السياسي وتحميه، أو حتى تتصادم معه في لحظة ما، وليس إلا الاحتكام إلى المبادئ، والا تعميق الديمقراطية التي لن يكون هناك معنى لكلمة واحدة مما تقدم، ما لم تكن هي الشرط الأول الذي يحكم علاقة السياسي بالثقافي والثقافي بالسياسي.

مقالات ذات صلة

إغلاق