ثقافه وفكر حرفلسطين تراث وحضاره

اللاقط الهوائي

بقلم الباحثة في التراث إزدهار عبد الحليم

اللاّقط الهوائي (الأنتين) ذاكرة عُرِف في البيوت القديمة، وكان يُثبَّت أعلى سطح المنزل، أو كما يُقال فوق البيوت، ليقف شامخاً على عصر السبعينات والثمانينات.
لم يكن مجرد أداة لاستقبال الإشارة، بل كان جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية، يُحكى عنه كما تُروى الحكايات، في ذلك الزمن.
كان تحريك” الأنتين” مهمة تتطلب التنسيق بين أفراد الأسرة،
الناس كانت تعيش وقتها بأبسط الأشياء، تلفاز بالأبيض والأسود، أيام كانت الحياة فيها بطيئة لكن مليئة بمعاني قريبة، وكل شيء كان له طعم، حتى الانتظار.
كنا ننتظر الساعة السادسة مساءاً بفارغ الصبر، حين تبدأ برامج الأطفال والمسلسلات، وكل العائلة مجتمعة حول التلفاز، ننتظر نهاية النشرة المسائية، التي تتضمن أحداثاً بسيطة، وأخبار وحروب بعيدة لا تمسنا مباشرة، مثل الشيشان وأفغانستان، أما أخبار الأردن فغالباً ما كانت تبدأ ب ” استقبل الملك ” وتنتهي ” ب ودّع الملك”’ أخبار أقل دموية، وربما أقل ضجيجاً، لأن قناة الأردن كانت المحطة الوحيدة، المتاحة تلك اللحظات، حين يحين وقت المسلسل، يكون الجميع جالساً بترقب، بينما يتسلق الأخ الأكبر، أو الأطول سطح البيت، ليُعدِّل وضع الأنتين
وسط صيحات النافذة: هيك…هيك أحسن! لاااا رجّع…. حرّك يمين … شمال…لتتضّح الصورة، وعلى طرف السطح، يجلس الأبن الأكبر بصمت، يراقب الغروب، يستمتع بنسمات المساء، وقد خبأ بجيبه قطع الشوكولاتة، ويتذوق بهدوء، كأنها سر المهنة، ويظل يحرّك ولا يمل من التحريك، ليظهر بث القنوات السورية أو اللبنانية والأهم من ذلك: مباريات المصارعة الحرة وتحديداً الى متابعة الأبطال كيري وكيفن.
كيفن فون إريك كان يُعرف بأسلوبه الرياضي والقتالي القوي، وكان هو الناجي الوحيد من أبناء فون إيرك الأصل.
كيري فون إريك ولد عام 1960، وتوفي عام 1993
كان “الأنتين” بصمة من بصمات الماضي الجميل، طوى بين ثناياها الكثير من الذكريات، تحمل براءة الطفولة، وهدوء المساء، وحنين الشيوخ الكبار الطييبين” الذين قضوا أوقاتهم، ببساطة وصبر، يتابعون المسلسلات البدوية، مثل مسلسل “وضحة وبن عجلان”، ومسلسل راس غليص”. والجميل، بل والأجمل، أن أغلب الناس كانوا يتباهون بطول الأنتين، وكأنها معلَم من معالم الفخر الاجتماعي. فمن كان يملك أنتين أطول، كان يمتلك فرصة لللإتقاط محطات أجنبية نادرة، فيصبح محل إعجاب الجيران، ومقصداً لمن يتابع ويهوى الأفلام البوليسية.
كل ذلك عكست أحوال، وظروف المجتمع الذي عاش في هذا العصر، ترابطاً أُسرياً،، وتواصل اجتماعي مع الجيران والأقارب، سادت بينهم روح الترابط.
على عكس ما كان في الماضي، أدّت الوسائل الحديثة في أيامنا، هذه الى تفكك أُسري كبير، حتى داخل البيت، وأحدثت شرخاً واضحاً في التواصل،
حتى أفراد الأسرة، باتوا يعيشون منعزلين عن بعضهم البعض، كلّ في عالمه الخاص، منشغلاً بشاشته الصغيرة، لا حوار، ولا نقاش، ولا تبادل للآراء، وكأن الحياة المشتركة داخل البيت أصبحت فارغة من العواطف، يعيشون نحت سقف واحد، دون روح أو ود.
طغت على عقول الأطفال، فأصبح شيخاً كبيراً بعقل فارغ، لأنه عاش أغلب لحظاته منذ الصغر وحتى البلوغ، والمراهقة، عبر الشاشة الصغيرة. هذه الوسائل محت من ذاكرته لذة الحياة الحقيقية، وأفقدته بهجة الشباب، وأصالة التجارب الأسرية.
نحن الكبار لا نرغب أن نقول: ليت الزمان يعود يوماً، لأن الحياة دائرية ومستمرة.
لكن يمكننا أن نكون أكثر وعياً، حين نرافق أطفالنا في تجاربهم، نثق بهم، نصغي لما يشعرون، وندرك ما يرونه عبر الشاشات الصغيرة، حتى نحميهم ونرشدهم دون أن نطفئ فيهم نور الاكتشاف……… قلم ازدهار عبد الحليم الكيلاني

إغلاق