نشاطات
الفرق الذي أحدثه حب الأتراك للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
يقول ابن خلدون في مقدمته “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو الاختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأبصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت”.
هذا التغير الذي يمر بالمجتمعات هو نتيجة طبيعية لعلاقة كونية مطردة أساسها أسباب وأحداث كان لها أثر فاعل في التحول والانتقال من حال سابقة إلى حال لاحقة مختلفة، تهدف من حيث المبدأ إلى الحماية والتأقلم مع الأوضاع الجديدة، وقد يكون مصدرها عوامل من داخل البيئة أو من خارجها، وغالبا ما تكون الحالة التي انتقل منها المجتمع حالةَ استقرار وثبات نسبي بغض النظر عن طبيعة هذا الاستقرار.
وهذا ما يجعل المجتمعات أشبه بالمرآة التي تنعكس عليها التغيرات كلها التي تحدث في المجالات الأخرى المرتبطة بها. ويتضح في بعض جوانب هذه المعادلة أن التغير يكون قابلا للتشكيل ومحاولة التوجيه بأدوات فاعلة ترمي إلى إحداث تغيير محدد في بيئة معينة أو شريحة مستهدفة، فينشأ لدينا على إثر ذلك “التغيير” الفعل و”التغير” النتيجة.
بالنسبة للعرب، بُعث النبي عليه الصلاة والسلام منهم وقد فهموه وأذهلهم القرآن بمعجزاته لأنهم يتحدثون العربية. لهذا السبب، يقوم الإسلام بالنسبة للعرب على القرآن. لكن الإسلام وصل إلى الأتراك عن طريق العلماء وممارساتهم. وبما أنهم لم يفهموا لغة القرآن في المقام الأول، شعروا بعاطفة كبيرة تجاه النبي الذي تعلم عنه أولئك الذين التقوا بهم
الاختلاف والتفوق
خُلِقَ الناس مختلفين، تؤثر المجتمعات على بعضها، في حين تُحدث القبائل والعشائر والجماعات العرقية والعائلات والأفراد فرقا مميزا وجذريا في الناس.
كل شخص مختلف عن الآخر من بين مليارات البشر، ولكل شخص ملامح وبنية جسدية وبصمة وشبكة عين وحمض نووي يميّزه عن الجميع، ومن خلال هذه الاختلافات، يكون التعرف ممكنا في الطب الشرعي.
الله هو الذي خلق البشر وجعلهم مختلفين عن بعضهم بعضا لتتجلى إحدى معجزاته العظيمة. هو الذي خلق مجتمعات مختلفة عن بعضها بعضا حتى يتمكن الناس من التعرف على بعضهم بعضا، ومع هذا الاختلاف نهانا بشكل واضح وصريح عن ممارسة التمييز والفوقية.
وبناء على هذه الاختلافات -التي وهبها الله لنا ولا دخل لنا فيها- نشأ مفهوم التفوق مثل “العصبية الجاهلية” التي تعد من أشكال العنصرية، وهي التفوق المنسوب إلى بعض الجماعات على الحد الأدنى من أوجه التشابه أو صلة القرابة أو الروابط الموجودة بين مجتمعات معينة رغم وجود اختلافات فردية.
تمارس المجتمعات هذا التفوق إما بالعرق أو الإثنية أو الجنس والميول الجنسية أو اللغة أو الطبقة الاجتماعية أو الأيديولوجيا وغيرها.
بدأت الدعوة لديانة التوحيد مع النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي كان والده آزر يصنع الأصنام ويعبدها. وعندما دعا سيدنا إبراهيم عليه السلام أن تكون ذريته من الصالحين، تلقى إجابة من ربه بأنه “لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ”، وفي ذلك تأكيد على أن اتباع طريق الحق لا يكون عبر النسب بل يتطلب جهدا وعملا وثباتا وإرادة. ولنا في ذلك مثال آخر وهو ابن النبي نوح عليه الصلاة والسلام والذي لم تنقذه صلة القرابة مع والده من الضلال.
وقبل ذلك، كان أحد أبناء سيدنا آدم -وهو قابيل- أول من ارتكب جريمة قتل وأول من عُرفت عنه الغطرسة والكِبر. وفي عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، أسلم عمه حمزة، في حين كان عمه أبو لهب كافرا وورد اسمه في القرآن بوصفه رمزا للشرك والقسوة والشر.
الاختلاف الذي أحدثه حب الأتراك للنبي
تتعارض الفلسفة الأساسية للإسلام مع فكرة أن تكون القداسة مستمدة من النسب، على عكس صلة الرحم والإحسان لذي القربى. كما أن الارتباط عن طريق النسب أو القبيلة أو الصفات أو الاختلافات لا يلغي المسؤولية الفردية، ذلك بأن التباهي بهذا الارتباط مهما كان نوعه لن يزيدنا إلا غطرسة وغرورا وجهلا. مع ذلك، من الضروري معرفة الاختلافات التي تميزنا عن الآخرين من أجل فهم أنفسنا وتحديد أنسابنا، لكن دون أن يكون هذا دافعا لممارسة الفوقية أو الشعور بالدونية.
لقد أوضحت أن فهم الأفغان والهنود والباكستانيين وخاصة حركة طالبان للإسلام يقوم على المصادر نفسها، على عكس أولئك الذين يرون أن الفرق بين فهم وممارسة الإسلام في تركيا والدول الأخرى يكمن في اتباع المذهب الحنفي أو الماتريدية. ونظرا لأن فهم الماتريدية في الأناضول متشابك إلى حد كبير مع الصوفية، فإنه من غير المرجح أن يحدث ذلك فرقا كبيرا.
خصوصية حب الأتراك للنبي
إذا أردنا البحث عن فرق، فهو يكمن في الطريقة التي يُعبّر بها الأتراك عن حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام مقارنة بالعرب. هذا ما فهمته مما قالته سيدة من العائلة الملكية تحدثت معها بعد مؤتمر انعقد في المملكة العربية السعودية قبل سنوات، وتحديدا في الفترة التي بدأ فيها الربيع العربي. في مرحلة ما من حديثي مع تلك السيدة المتخصصة أيضا في علم الاجتماع، ناقشنا مواضيع مختلفة من علم الاجتماع إلى العلوم السياسية ومن التأويل إلى التاريخ والعلوم الدينية. وقد قدمت تفسيرا مثيرا للاهتمام و”متعاطفا” لحب الأتراك المفرط للأنبياء ويتبعون نهجا لطالما انتقده الفكر السلفي بشدة.
وحسب قولها “بالنسبة للعرب، بُعث النبي منهم وقد فهموه وأذهلهم القرآن بمعجزاته لأنهم يتحدثون العربية. لهذا السبب، يقوم الإسلام بالنسبة للعرب على القرآن. لكن الإسلام وصل إلى الأتراك عن طريق العلماء وممارساتهم. وبما أنهم لم يفهموا لغة القرآن في المقام الأول، شعروا بعاطفة كبيرة تجاه النبي الذي تعلم عنه أولئك الذين التقوا بهم. بناء على ذلك، فإن الإسلام بالنسبة للأتراك دين يتمحور حول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أكثر من القرآن. هذه نعمة الله للعالم الإسلامي. وحقيقة أن الأتراك فضلوا اسم “مهمت” (Mehmet) بدلا من محمد مستمدة من احترامهم للنبي لذلك استخدموه على نطاق واسع”.
هذا التفرد التركي لا ينطوي على أي ادعاءات بالتفوق أو الدونية، بل يوضح الموقف في حد ذاته. وتذكرني “ندوة مولود وسليمان جلبي حول التقاليد”، التي تم تنظيمها على مدار يومين بالتعاون مع بلدية بورصة الكبرى والأكاديمية التركية للعلوم وجمعية اللغة التركية، بهذه الحكاية.
ويقول سليمان جلبي عن مدينة القدس كمحل لحادثة الإسراء والمعراج في منظومته الشعرية “وسيلة النجاة” التي كتبها عام 1409، متناولا فيها سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
“في طرفة عين
جاء سلطان الخلق
ووطأت قدماه القدس”.