ثقافه وفكر حر

أميركا الإسكندنافية.. أسطورة اكتشاف العالم الجديد وأصولها الدينية والعنصرية

في الخيال الشعبي، كانت القصتان الأكثر شيوعا عن “اكتشاف” أميركا هما أن كريستوفر كولومبوس -الذي أبحر إلى العالم الجديد تحت العلم الإسباني- وطأ أراضيها عام 1492، وأن الفايكنغ أو الإسكندنافيين قد وصلوا قبله بنحو 500 عام على اكتشاف العالم الجديد.

قصة الفايكنغ في أميركا الشمالية -سواء كانت حقيقة أو خيال- ظلت متداولة بشكل مكثف، جنبا إلى جنب روايات أخرى عن التوسع الغربي للإسكندنافيين عبر شمال الأطلسي في القرنين العاشر والحادي عشر، وصولا إلى الأساطير والافتراءات حول وجودهم هناك التي تطورت في القرون الأخيرة. والفايكنغ شعوب جرمانية نوردية عملوا في الملاحة البحرية والتجارة، إلى جانب ما اشتهر عنهم من حروب وغارات.

وفي الكتاب الصادر حديثا عن مطبعة أكسفورد بعنوان “أميركا الإسكندنافية: قصة الأسطورة التأسيسية” يناقش المؤلف غوردون كامبل، أستاذ دراسات عصر النهضة بجامعة ليستر، أسطورة “اكتشاف” الفايكنغ لأميركا الشمالية.

ويتناول الكتاب الجذاب مفهوما أعقد بكثير من مجرد الإجابة عن سؤال من اكتشف أميركا أولا؛ إذ يناقش مسألة الأصول الأميركية وأسئلة من قبيل “من أول البشر الذين سكنوا الأميركتين؟ وكيف وصلوا إلى هناك؟ ومن هم أول زوار عبر المحيطات إلى الأميركتين؟” معتبرا الرحلات الإسكندنافية الفعلية منذ نحو ألف عام ذات دور صغير فقط في ذلك التاريخ الثري.

أميركا الإسكندنافية

يحكي كتاب “أميركا الإسكندنافية” قصتين: الأولى، قصة التوسع الغربي الإسكندنافي عبر شمال الأطلسي في القرنين العاشر والحادي عشر، الذي انتهى بعد وجود عابر وغير موثق على شواطئ البر الرئيسي لأميركا الشمالية.

والقصة الثانية هي بناء رواية وسردية غربية وتعزيزها من الكنديين والأميركيين الذين يريدون أن يكون لأميركا أصول بيضاء في أوروبا الشمالية، والذين يريدون بالتالي أن يكون الفايكنغ، وليس كولومبس، هم من “اكتشفوا” أميركا. وفي مسعى لتطوير هذه الأطروحة، كان أصحابها مستعدين لتحريف الأدلة، من أجل دعم ادعاءاتهم القائمة على أيديولوجية التفوق العنصري وأفكار القومية البيضاء.

يتتبع الكتاب ملحمة الإسكندنافيين عبر المحيط الأطلسي الشمالي إلى أميركا، محاولا وضع الأمور في نصابها الصحيح فيما يتعلق بفكرة أن الفايكنغ اكتشفوا أميركا، معتبرا أن الرواية الرائجة بشأن ذلك تشتمل -مع التاريخ القائم على الأدلة وعلم الآثار- على قصص من التاريخ المزيف والاحتيال الصريح. وفيما بينهما، هناك مساحة كبيرة من عدم اليقين والقصص الملحمية التي قد تحتوي على شظايا من الحقيقة، وشخصيات قد تكون تاريخية جزئيا، وعلم آثار حقيقي يمكن تفسيره على ضوء خيال الملحمة، ودليل مجزأ قابل للتفسير المسؤول وغير المسؤول.

غوردون كامبل ليس متخصصًا في اللغة والثقافة الإسكندنافية، ولكنه أستاذ فخري وزميل في دراسات عصر النهضة ويحظى بمجموعة واسعة من الخبرات والمهارات التي يستخدمها جيدا في هذا الكتاب، مما مكنه من وضع كتابه في سياق أوسع مقارنة بمعظم الإسهامات السابقة في هذا الموضوع.

يلخص الفصل الأول “اكتشاف أميركا” تاريخ سعي أميركا إلى اكتشاف أصولها؛ إذ تبين للمؤلف أن تمجيد كولومبوس الذي بدأ في أواخر القرن الثامن عشر يمثل مشكلة للبعض لأنه كان كاثوليكيا، مما أدى إلى تبني فكرة وصول الفايكنغ ليكونوا بديلا بروتستانتيا.

وتحولت كل الدول الإسكندنافية إلى المسيحية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، لكن -في الكتاب- تم تقديم هذه النظريات المتنافسة ضمن مناقشات أوسع حول السكان البشريين الأوائل وكيف وصلوا إلى هناك.

وبينما يعتقد بعض السكان الأصليين أنهم قد نشأوا في الأراضي الأميركية، طرحت مجموعات أخرى من غير السكان الأصليين نظريات مفادها أن الأميركيين الأصليين يتحدرون من الكنعانيين واليهود والفينيقيين والمصريين والرومان والأفارقة، وغالبًا تكون تلك الفرضيات مدعومة بأدلة مزيفة، ويقول المؤلف إن تبني هذه النظريات كان بهدف حرمان الأميركيين الأصليين من “شرف المطالبة بالأسبقية في أميركا”.

الزائرون الأوائل

وكذلك، كان هناك دافع أيديولوجي مشابه وراء الاهتمام بتحديد هوية الزائرين الأوائل عبر المحيطين.

كان سؤال مكتشف أميركا (كولومبوس أم فايكنغ؟) متشابكًا مع نظريات مختلفة تقترح الزوار الأيرلنديين والأسكتلنديين والويلزيين والصينيين والأفارقة وغيرهم من أوائل الزوار.

لكن الأهم من ذلك كله، أن رواية اكتشاف الإسكندنافيين لأميركا كانت متورطة في مفاهيم عنصرية عن التفوق والاستثنائية الأنغلوساكسونية، مدعومة بـ”دم الفايكنغ”، بحسب المؤلف.

في القرن التاسع عشر، مع تزايد الهجرة من العديد من الأراضي، استحوذت الدولة التي كان يهيمن عليها مواطنون من أصل إنجليزي على أدلة مزعومة آنذاك (سواء كانت حقيقية أو مزيفة) -أن الفايكنغ أول زوار- لأسطورة شمالي أوروبا البروتستانتية.

تم توجيه هذه الأسطورة ضد السكان الأصليين في القرن التاسع عشر، وضد المهاجرين الأيرلنديين والإيطاليين وغيرهم في القرن العشرين.

يُعد الفصلان الأول والأخير، اللذان يلخصان نمو هذا “الإحساس بالهوية المتفوقة عرقيا وثقافيا”، إسهام المؤلف الحقيقي في التأريخ لاكتشاف أميركا، حيث قام بتمحيص ونقد أدلة الرواية المتداولة عن الهجرة الإسكندنافية إلى آيسلندا وغرينلاند وما تلاها من توغلات في كندا، بحسب العرض الذي قدمته جوديث يش أستاذة دراسات الفايكنغ بجامعة نوتنغهام لموقع “هيستوري توداي” (History today).

ويناقش الكتاب بعض الأدلة، مثل النقوش المكتوبة بأشكال مختلفة من الأبجدية “الرونية” (لغة نوردية قديمة) كما هي مستخدمة في الدول الإسكندنافية، التي تكشف عن العديد من الطرق المختلفة التي عزز بها الأميركيون -بعضهم بحسن النية والبعض الآخر بتزييف متعمد- الأسطورة الرائجة عن أميركا الإسكندنافية بأخبار مزيفة، مؤكدا أنه لا يعود أي من هذه النقوش إلى عصر الفايكنغ أو العصور الوسطى.

حجر كنسينغتون في مينيسوتا، على سبيل المثال، يكشف عن معرفة المهاجرين السويديين باللغة الرونية في القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فإن العديد من الناس -بمن في ذلك بعض المتعلمين جيدا- يتمسكون بعناد بمعتقداتهم التي لا أساس لها من الصحة بأن هذه قطعة أثرية من القرن الرابع عشر، وتوثق وجود زوار إسكندنافيين إلى مينيسوتا، بحسب المؤلف الذي ينفي ذلك الادعاء.

ينطبق هذا على الكثير من “الأدلة” التي استخدمت لتعزيز تصورات وروايات مسبقة.

قد يتجادل المتخصصون الإسكندنافيون حول بعض تفسيرات كامبل، مثل رفضه بشدة أدلة الملاحم الآيسلندية المتعلقة بالرحلات المزعومة باتجاه الغرب؛ صحيح أنه قد تم الإفراط في تفسيرها في البحث عن أسطورة تأسيس أميركا، ولكن إذا تمت قراءتها بالطريقة الصحيحة، فلا يزال لدى الإسكندنافيين كثير من الإسهامات المهمة لفهم فترة ما قبل كولومبوس في غرب شمال المحيط الأطلسي.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق