نشاطات
الترجمة على الطاولة المستديرة| راوية جرجورة بربارة
قراءة في كتاب "نعمل في الترجمة- من التوجّه الفردانيّ إلى الترجمة ثنائيّة القوميّة"- ليهودا شنهاف شهرباني
قراءة في كتاب “نعمل في الترجمة- من التوجّه الفردانيّ إلى الترجمة ثنائيّة القوميّة”- ليهودا شنهاف شهرباني
هل فعل الترجمة خطيئة أم خطأ؟
هل نرتكب خطيئةَ الترجمة ونحن ندرك أنّ ما نرتكبُه فيه من الخطأ ما يستوجب الحكمَ، أم أنّنا نترجم كما يحلو لنا فنعبث بالنصّ الأصليّ ولا نأبَهُ بكاتبه ومبدِعِه الأوّل؟ أم يا ترى نترجم حرفيًّا لا حِرَفِيًّا لنراعي سلطة الكاتب الأصليّ ومفرداتِه وتعابيرَه؟
ما هو شكل كرسيّ المترجم، وما هو شكل طاولته؟
هل طاولة الترجمة مستطيلة بطرفيْن وقُطبَين حضاريّيْن مختلفيْن أو متنازعيْن؟
أم أنّها طاولة مكتبٍ أحاديّة الكرسيّ والخيال والمفردات؟
أم يا ترى يمكن لطاولة الترجمة أن تكون مستديرة بلا زعامةٍ لنصٍّ أصليّ أو كاتبٍ أو مترجِمٍ أو محرّرٍ أدبيّ أو محرّرٍ لغويّ، أو لهيمنةِ سلطةٍ قوميّة على غيرها، أو لسيطرةِ القارئ الآخَر، قارئ النصّ المترجَم على الأسلوب والمبنى واللّغة؟
هل الترجمة هي ملحمة حربيّة فيها صراع قوى بين لغتين وانتماءين وحضارتين على حدّ وصف اللغويّ والباحث الإيديشيّ ماكس فيين رايخ حين قال إنّ اللغة هي “لهجة لها جيشها وأسطول بحريّ قويّ” (الكتاب ص. 104).
هل الترجمة هي فعل خيانة ثنائيّ الجناية؟ فمن جهةٍ نجد للمترجِم صلاحيّات تحت مسمّى “يحقّ للمترجِم ما لا يحقّ لغيره”؛ إذ باستطاعته أن يحذف كلمة أو جملة ليغيّر الفحوى كما فعل كونستنتين مورزي الدراجومان الرئيسيّ للامبراطوريّة العثمانيّة عندما شُكَّ في أمرِهِ بحذف فقرة من مكتوب ألكساندر جُرَّ في أعقابها إلى الإعدام شنقًا (الكتاب ص. 19)، أم أنّ الترجمة خيانة من نوعٍ آخر، عندما يخون المترجمُ النصَّ الأصليّ فيغيّر المفردات، وتسلسل الأفعال والأحداث، وأحيانًا يغيّر نهايات القصص وعناوين النصوص؟ أم أنّ الأمانة المفرَط بها للنصّ الأصليّ، وأن يكون المترجِم كاثوليكيًّا أكثر من البابا/الكاتب هي أسوأ نوعٌ من الخيانة على حدّ قول المترجِم الفرنسيّ نيكولا دي بلانكور؟ (ص. 54) أم أنّ الترجمة يجب أن تأخذ بالتشبيه الذي قالته ليئة غولدبرغ حين شبّهت “الترجمة بالمرأة، إذا كانت جميلة فلن تكون وفيّة”؟
هل المترجم موسومٌ بالخيانة، أم أنّ التمكّن اللّغويّ من لغة الآخَر هو مبعثٌ للشكّ كما جرى مع يهودا شهرباني حين زار الناصرة مع أريج صبّاغ وأليف فرانش وكان يحاول أن يتقن اللهجة الفلسطينيّة بعيدًا عن العراقيّة لهجة بيته، سمع حوارًا في الناصرة أعاده إلى صوابه وإلى لهجته:
- من الرجل؟
- يقولون إنّه بروفسور من جامعة تل أبيب
- هل أنت متأكّد؟ يمكن من الشاباك؟
- لا يبدو لي ذلك، في مثل عمرِه لا يُجنّدونهم في مخابرات أمن الدولة. (الكتاب ص.102)
هذه هي بعض المعضِلات التي يطرحها كتاب “نعمل في الترجمة”، محاوِلًا أن يعرض الحيثيّات المجرَّبة تاريخيًّا وحضاريًّا لتجربة الترجمة من لغات مختلفة، وأزمنة وحضارات مختلفة، علّ ذلك يشكّل لنا البوصلة لتبنّي مسار مدرسة معيّنة في الترجمة. مفصّلًا البُعد التاريخيّ لكلّ ما يُسمّى ترجمة عبر العصور، موثِّقًا إيّاه بأحداثٍ وأسماءِ شخصيّات، وتواريخ ونماذجَ؛ بدءًا من مصر الفرعونيّة ألفَي سنة قبل الميلاد، مرورًا ببروني الذي قاد “ثورة” نحو الترجمة الفردانيّة والثلاثيّة التي يجب اعتمادها وهي مترجم واحد، صيغة واحدة ولغة واحدة، وذلك عكس ما كان متّبعًا قبله في عصر الرينسانس/النهضة والعصور الوسطى حين كانت الترجمة تعتمد الجماعة، ترجمة جماعيّة، لا توحيد فيها لا لمصطلحٍ ولا لتعبير باختلاف المترجم من فصل إلى فصل في الكتاب (ص. 37)؛ وصولًا إلى “دراجومان” العثماني، والمدرسة التي أسّسها في حينه اسحق أفندي اليهودي المتأسلم المتمكّن من لغات عديدة والمؤسّس لمدرسة خاصّة في الترجمة الجماعيّة، بعيدًا عن المدرسة النيوكلاسيكيّة التي تعتمد الفردانيّة في الترجمة، تلك الفردانيّة المعتمَدة اليوم في الترجمة من العربيّة ومن لغات أخرى، حيث يعمل المترجِم في فضائه الخاصّ متّبعا الموديل الغربيّ النيوكلاسيكي، بطريقة يضاعف فيها علاقات القوى السياسيّة الموجودة خارج غرفة مكتبِه؛ فأغلب الترجمات من العربيّة إلى العبريّة عبر ال 150 سنة الأخيرة كما عرضها شهرباني في كتابه، كانت تتّبع نموذج الفردانيّة من يهود ترجموا النصوص العربيّة إلى العبريّة، في وقت لم يكن فيه ،حتّى سنوات الستينيّات، من القرن العشرين، أيّ مترجم عربيّ ترجمَ إلى العبريّة، (ص. 98) عكس النشاط الذي نلحظه اليوم من العرب وعلى رأسهم د. نبيل طنوس قائد الترجمة من العربيّة إلى العبريّة.
إنّ كتاب “نعمل في الترجمة” هو بحثٌ أكاديميٌّ مهمٌّ جدًّا في رأيي، لأنّه لا يوثّق فقط سيرورة الترجمة عبر العصور، بل لأنّه يعرض التصوّرَ الفكريّ لمدرسةٍ جديدة في الترجمة مؤسّسها هو يهودا شنهاف شهرباني، مدرسة سيشهد لها التاريخ، وربّما ستشكّل بدايةً لانطلاقةٍ مغايرةٍ عالميّةٍ لا يحدّها إقليم أو لغة.
الترجمة هي مسألة ثقافيّة وحضاريّة تشرّع لك الأبواب لدخول عوالم جديدة والتعرّف إلى شعوب مختلفة بعاداتها وتقاليدها وتاريخها واجتماعيّاتها حين تقرأ أدبَها وتفتح ما أسماه صديقنا المرحوم سلمان ناطور، “الصندوق الأسود” لكلّ شعب، أي حين تفتح كتبَ ذاك الشعب وتقرأ أدبَه؛ فمن بابل إلى يومِنا هذا كان للتمازج الثقافيّ ذاك الأثر الرهيب على تطوّر البشريّة “واختلافُ ألسنتِكم وألوانِكم، إنّ في ذلك لآياتٍ للعالمين”، ولولا الترجمة كيف كان يمكن لليهوديّ أن يقرأنا وحوالي 1% فقط من اليهود تحت جيل السبعين في الدولة يقرأون بالعربيّة؟ وحسب معطيات المكتبة الوطنيّة لسنة 2014، فإنّ الأدب العربيّ الذي تُرجم إلى العبريّة لم يتعدّ ال 1%، مقابل 65% من الترجمات من الإنجليزيّة، و5% من الألمانيّة، و 4% من الفرنسيّة، و1.3% من الإيديش (الكتاب ص. 100).
وتبقى الأسئلة المتداوِلة في عِلم الترجمة: هل الترجمة الجيّدة هي ما عرّفه فورستر Forster على أنّها الترجمة التي تفي بنفس الغرض في اللغة الجديدة، مثلما فِعْلُ الغرض الأصليّ في اللغة التي كُتب فيها؟ أم انّ عمليّة الترجمة هي ما وصفه Orr بأنّها مطابقة لعمليّة الرسم إلى حدٍّ ما، فيقول إنّ الرسّام لا يستخرج كلّ تفصيلٍ في المنظر، فهو ينتقي ما يبدو أفضل بالنسبة له، وينطبق نفس الشيء على المترجِم، إنّها الروح وليس المعنى الحرفيّ، أم أنّ الترجمة هي كما يراها جودسبيد Goodspeed، هي تلك التي تجعل القارئ ينسى مطلقًا أنّها ترجمة ويعتقد أنّه يقرأ نصًّا بلغته الأم؟ هل الترجمة هي كما نُسب لبياليك “قبلة عبر المنديل”، فلا تحسّ بطعمها ونكهتها؟ وتتمّ الترجمة دون ملامسة وتواصل حقيقيّ مع الحضارة الغريبة؟ أم هي كما وصفها صديقي يهودا شهرباني بأنّها “عضّة عبر المنديل” تُنتِج نصًّا بين بين، بين الأصليّ والمترجَم؟ والأسئلة المطروحة كثيرة، لكن أهمّ الأسئلة التي تعرّض لها الكتاب برأيي هي كيف نترجِم؟ إنّ هذا الكتاب يطرح الحلول المقترحة للخروج من الأزمات الترجميّة.
وبداية الحل كانت مع “مكتوب” ومنتدى المترجمين، ومع هذا الباحث الشهربانيّ الذي أسّس للترجمة مدرسة عالميّة تعتمد البحث والدراسة وتأخذ الواقع بعين الاعتبار، هذا الواقع الذي يشير إلى الفردانيّة، إلى انعدام الحوار اليهوديّ العربيّ على طاولة الترجمة، إلى أنّ أغلب المترجمين لغتهم الأم هي العبريّة، وأنّ المحرّرين الأدبيين واللغويّين لا يفقهون العربيّة، ما يؤكّد العلاقات الهرميّة وعدم التماثل في العلاقات بين اللغتين؛ وعليه جاءت الرؤية الجديدة، والتصوّر الفكريّ الجديد والمأسسة والمنهجة لمسار آخر في الترجمة مسار الثنائيّتين: ترجمة ثنائيّة القوميّة وثنائيّة اللغة.
وكيف وصلنا إلى ذلك؟ يورد الكتاب تجربتين فعليّتين: تجربة ترجمة كتاب نجوى بركات “لغة السرّ” من مترجمتين، العربية كفاح عبد الحليم، واليهوديّة بروريا هيروفتش، إذ عملت كلّ مترجمة على حدة في ترجمة الفصل الأوّل، بعدها التقتا وتحاورتا وأنتج هذا الحوار تصويبات للطرفيْن، وموازنة بين اللغتين وبين الملكيّة على اللغتين، في المرحلة الثانية ترجمت كلّ منهما فصلاً وحرّرت ترجمة زميلتها، في النهاية، كانت الترجمة نتاج عمل مشترك وليس فردانيًّا؛ تجربة أخرى يوردها الكتاب هي ترجمة قصيدة الأسماء لحنا أبو حنّا، مرّة ترجمة يوتام بن شالوم، ومرّة ترجمة د. نبيل طنوس؛ وبعد أن ترجم كلٌّ منهما القصيدة وحده، حرّر كلّ واحد منهما ترجمة الآخر، والاثنان من أفضل المترجمين للشعر في بلادنا، ولنرَ معًا الاختلافات البسيطة الموجودة بينهما في الابتداء بالاسم، في تغيير أماكن الكلمات، في التشديد على الفعل دون الفاعل أو بالعكس، في حرْفيّة الترجمة وفي حِرَفِيّتِها (الكتاب ص.180):
وبعد تجربة نبيل ويوتام، وتجربة بروريا وكفاح أتت التجربة الناضجة الثلاثية في “بلسان مبتورة”، تحرير راوية بربارة، تجربة ثلاثيّة الأبعاد، مترجم عربيّ، محرّر للقصّة يهوديّ؛ أو كاتب عربيّ، مترجم يهوديّ، محرّر للترجمة عربيّ، محرّر لغويّ يهوديّ، ومحرّرة الكتاب؛ والثنائيّة القوميّة واللغويّة تتناوب بين الأطراف المشتركة في ترجمة النصّ الواحد، وطرفٌ ثالث جلب الطرفيْن إلى نوع من التوافق والحوار المستمرّ، إنّه طرف راوية بربارة، محرّرة أكبر مجموعة قصصيّة فلسطينيّة مترجمة إلى العبريّة منذ 1948، إنّها التجربة الجديدة في الترجمة التي تعي أنّ الترجمة ليست ترجمة مفردات ومضامين، بل هي فعل لترجمة حضارات وتقارب لغويّ وسياسيّ يلخّص المحاور الثلاثة:
الترجمة كفعلٍ جماعيّ.
الترجمة كفعلٍ للنقاش والتكلّم؛ من الكلمة إلى اللقاء إلى التكلّم رجوعًا إلى الكلمة.
الترجمة كفعلٍ في العالَم، تلك الترجمة التي تلغي الحدود بين الأدب والحياة اليوميّة، الترجمة التي لا تقوم على أساس القواميس بل على الأساس التاريخيّ للطرفيْن.
فنحو المدرسة ثنائيّة القوميّة، ثنائية اللغة دعوة هذا الكتاب الذي يعمل في الترجمة.