يتعاظم الميل لتأييد دور التراث الثقافي في تحقيق المصالحة وتعزيز الشعور بالهوية، وإعادة البناء الاجتماعي في مرحلة ما بعد النزاعات المسلحة، وإن كان هذا الدور لا يزال محلَّ جدالٍ لم يتم الفصل فيه بشكل مطلق على المستوى الدولي.
وقد برز هذا الموضوع كمسألة إشكالية منذ منتصف القرن الماضي، الذي شهد حروباً ونزاعات مسلحة دموية بدءاً من الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى العديد من الحروب الأهلية التي قامت في دول مختلفة من العالم، على خلفية انقسامات مجتمعية إثنية أو دينية. وكان أن أدت هذه الحروب في كثيرٍ من الأحيان، على المستوى الثقافي، إلى تدميرٍ جزئيٍ أو كليٍ للمعالم الثقافية المبنية في مناطق النزاع ونهب القطع التراثية وحرق المكتبات، جرّاءَ الاستهداف المقصود أحياناً للتراث الثقافي، أو غير المقصود أحياناً أخرى.
• ثقافة السلام
يسجل مفهوم التسامح حضوره في عمق التجربة الانسانية منذ ظهورها في القرون القديمة حتى عصورنا الراهنة في اطار الزمان والمكان والمراحل التاريخية التي مر بها مفهوم التسامح. وهناك فقهاء التاريخ والفلسفة حاولوا تحديد مفهوم التسامح من خلال تجاربهم العلمية والتي انعكست من خلال الفقه اللغوي للفظة التسامح ما دامت تعني بمفاهيمنا العربية الكرم والسخاء والجود والمساهلة. فهناك تطور لمفهوم التسامح عبر الحقب الزمنية المتتالية حتى اصبح يعني احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية الدينية الى أن وصل بالبعض الآخر أن يقول بأن التسامح يعني قبول آراء الاخرين وسلوكهم على مبدأ الاختلاف ، وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف، ويعد هذا المفهوم من أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي. وعبر التاريخ وردت قيم التسامح والحقوق الانسانية في الحضارات القديمة في شريعة حمورابي، كما وردت في الوصايا العشر وسجلت اجمل حضور انساني في الادب الاسلامي. ان التسامح ليس فضيلة اساسية تمليها التعاليم الدينية والفلسفية العظيمة، ولكنه بالاحرىيمثل استجابة للمتطلبات الاجتماعية والسياسية في اوقات الاضطرابات الايديولوجية الكبيرة. وغني عن القول، فأن المفهوم المعاصر للتسامح يقوم على مبدأ الديمقراطية وحقوق الانسان العالمية، حيث ربطت وثقية اعلان المبادىءالعالمي الصادر سنة 1995 بين التسامح وحقوق الانسان والديمقراطية والسلم وبالتالي ارتقت بالتسامح الى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي.
ان مفهوم التسامح في عصرنا الراهن يتضمن النقاط التالية:
• التسامح هو مفتاح حقوق الانسان والتعددية السياسية والثقافية والديمقراطية.
• قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع.
• التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الانساني، والحريات الاساسية للاخر.
• ان تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الاخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الاخرين.
وواضح مما ذكر أعلاه بأن هذه المعاني المتعددة الابعاد تؤسس التصور الجديد للتسامح الذي تربطه علاقة ضرورية بين حقوق الانسان والديمقراطية والسلم، وهذا يجعل مفهوم التسامح الجديد يتجاوز حدود الدين والفرد ليصبح حقاً ينبغي الدفاع عنه وحمايته قانونياً، لكل حقوق الانسان الاخرى. فالتسامح يعتبر شرط ضرورة للسلم ما بين الافراد كما بين الشعوب وهو بمثابة التوابل اللازمة لكل ثقافة للسلام. فالتسامح هو قبول الاخر على علاقة وعلى اختلافه والاعتراف بحقوقه في الوجود والحرية والسعادة. ان عدم التسامح يؤدي الى موت الفكر وغياب الديمقراطية والغاء حقوق الانسان، لان غياب التسامح يؤدي الى غياب القدرة على الاكتشاف وذلك لان الاكتشاف يزعزع الثوابت المؤكدة، ويؤدي ايضاً الى قهر امكانيات الاختراع لان الاختراع يرفض الاشكال القديمة، وهو رفض للديمقراطية لان الديمقراطية تنطوي على الحرية والحوار وتبادل السلطة.
وعلى ضوء ما ذكر اعلاه، فأن مفهوم التسامح يرتبط ارتباطاً عميقاً بمفهوم السلام فالسلام هو لازمة طبيعية لمفهوم التسامح فإذا كان السلام هو غياب الحرب وجود الامن فان هذا يعني وجود التسامح كضرورة حيوية لمفهوم السلام. وهذا يعني في نهاية المطاف ان التسامح والسلام هما مفهوم واحد بوجهين متشابهين الى حد كبير. فالعنف هو نقيض التسامح، وذلك لان التسامح هو التصور الذي يتنافى مع اي ممارسة للعنف والتسلط والعدوان.
لذا، يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير في رسالة التسامح: “لقد وجد الدين ليجعلنا سعداء في هذه الحياة الدنيا وفي الاخرة، ما المطلوب كي نكون سعداء في الاخرة؟ ان نكون صالحين. وما العمل كي نكون سعداء في هذه الدنيا في حدود ما يسمح به بؤس طبيعتنا؟ ان نكون متسامحين.
• ثقافة الحرب
إن جميع مؤرخي التاريخ ينظرون الى الحرب على انها ظاهرة تاريخية لازمت الشعوب منذ القدم, حيث تكرر حدوثها بشكل شبه مستمر اي منذ صراع قائين مع اخوه هابيل وحتى ايامنا هذه. واذا تبحرنا في سنوات القرن التاسع عشر فنجد هذه السنوات لم تخلى من حروب اوروبية او افريقية او اسيوية او امريكية مع اختلاف هذه الحروب بين بعضها من حيث الاسباب الاجتماعية او الاقتصادية او السياسية او القومية او العقائدية وكذلك من حيث الوقائع و الاسلحة والاساليب المستخدمة ايضاً في هذه الحروب. اما في القرن الحالي فقد عرف العالم الذي نعيش فيه مئات الحروب الكبير والصغيرة وخاصة الحربان العالميتان الاولى والثانية اللتانكلفتا البشرية ما يزيد عن (70) مليون من القتلى. ومن المعروف في الازمان القديمة كانت جميع وسائل الحرب مشروعة بالنسبة للفريقين المتحاربين, لذا كانت تتم خلال الحروب القديمة أبشع انواع الجرائم من تمثيل, وابادة بالجملة .. الخ بدون اي تمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين من شيوخ ونساء واطفال.
فقد اشتهر الاشوريين مثلا باستخدام اضخم الالات والعدد الحربية لاسقاطالمدن التي يحاصرونها, وكانوا يقبضون على من بقي حيا من المقاومين بعد سقوط مدينتهم ويعدمونهم بأبشع الاوسائل ويعلقون جثثهم على ابواب المدينة لفترة من الزمن.
وعرفت القسوة نفسها عن الفرس وعن الكلدانيين عند اكتساحهم لمدينة القدس وعن اليونان والمكدونيين حيث يقال ان السكندر المقدوني امر بأعدام(4000) اسير من اهالي صور جزاء لهم على مقاومتهم له وعدم استسلامهم. ورغم ان الرومان حاولوا الحد من الصلاحيات المطلقة لقادة جيوشهم في الحرب (بعض مواد قانون الالواح الاثنى عشر مثلاً) فان تصرفات هؤلاء القادة بقيت تعد ضمن اقسى ما عرف العالم القديم من اجراءات تعسفية ضد سكان الاقاليم المفتوحة.
لكن كما نعرف فان الفلاسفة الهنود والصينيون قد اهتموا في معالجة قوانين الحرب وادخال شيئ من الروح الانسانية في حروب ذلك العصر, حيث عبر الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس), يصوغ كثيراً من الوصايا في هذا المجال, كما ان الفيلسوف الهندي (مانو) قال في التشريع الذي يحمل اسمه ضمن ما قاله (على المحارب الا يقتل عدوا استسلم ولا اسير حرب, ولا عدواً نائماً او أعزل, ولا شخصاً مسالماً غير محارب, ولا عدواً مشبكاً مع خصم اخر). ولكن بالرغم من هذا كله فان الحروب التي انطلقت من وسط وشرقيآسيا كانت كانت دوماً حروباً بلا رحمة سواء في ذلك الحروب التي قادها جنكيزخان أو هولاكو أو تيمورلنك. لكن الاديان السماوية لعبت دوراً كبيراً في ادخال الروح الانسانية الى الحرب .. أما بالنسبة للاوروبيين فقد كادت القرون الوسطى ان تنتهي وهم يطبقون في حروبهم شرائع كيفية تختلف باختلاف القادة الذين كانوا يرأسون الحملات العسكرية, فنرى مثلاً في حروب القرون الوسطى وخاصة في الحرب المائة عام التي نشبت بين بريطانيا وفرنسا خلال القرن الرابع عشر.
اما بالنسبة للفقهاء (القانون الكنسي) فقد انصرفت جهودهم الى التمييز بين (الحرب العادلة والحرب غير العادلة). وهكذا لم يكن هناك اي تمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين في الحروب الاوروبية القديمة, ويظهر هذا جلياً في البيان الذي اصدره الملك فرانسوا لما اعلن الحرب على الامبراطور الاسباني شارلكان ( اعلموا اننا نعلن ان الامبراطور المذكور واتباعه ومجموع رعايا البلاد التابعة له هم اعداء لنا ولمملكتنا ولمقاطعاتنا ورعاياها, وباعلاننا هذا نعطي الموافقة لجميع هؤلاء على استعمال السلاح ضد الاشخاص المذكورين اعلاه في الحرب بحراً وبراً).
واول محاولة جرت في اوروبا لإدخال فكرة حماية غير المقاتلين في الحروب قام بها أحد رجال الكنيسة الفرنسيين وهو الكاردينال بيلا رمان (1542 – 1621) الذي يقول في أحد كتبه: –
” ان غير القادرين على الحرب كالقاصرين والنساء والشيوخ والعجزة الاخرين يجب عدم المساس بهم، لان الدوافع الانسانية تدعونا لعدم قتل اولئك الذين لا يستطيعون القتال، وان رجال الدين والأحان والتجار والفلاحين الذين يزرعون اراضيهم يجب عدم اسرهم تمشياً مع اعراف جميع الامم). ولما دخلت اوروبا عصر النهضة وقامت حركة الاصلاح الديني بدأ الفقهاء ورجال الدين بالاحتجاج ضد جرائم الوحشية التي كانت تحدث في حروب ذلك الوقت، وتمكنوا من جعل المسؤولين الاوروبيين يعقدون اتفاقية خاصة عرفت باتفاقية (وتفاليا) التي وضعت حداً لحرب الثلاثين عاماً سنة 1748م.
وقد بلغ ازدهار المبادئ الانسانية ذروته في القرن الثامن عشر بفضل كتابات الفقيه السويسري (فاتلي) والكاتبين الفرنسيين الشهيرين (ونسكيو وجان جاك روسو).
وما يذكرنا به روسو فهو اول من نادى بما يسمى (أنسنه الحرب) في اوروبا،حيث كتب في “العقد الاجتماعي” يقول: “الحرب ليست علاقة بين فرد وفرد او فرد ودولة , بل هي علاقة بين دولة ودولة , والاشخاص العاديون في هاتين الدولتين ليسوا اعداء الا بصورة عرضية, ليس بصفتهم رجالاً ولا بصفتهم مواطنين ولكن كجنود فقط)”.
وقد كان لأفكار هؤلاء الفقهاء الثلاثة وامثالهم اثر كبير في صياغة وبلورة المبادئ التي تبنتها وسارت عليها الثورة الفرنسية منذ عام 1789م وما بعد. وهكذا احدثت الثورة الفرنسية تطوراً ضخماً في شتى مظاهر الحياة, ومن ضمن هذا التطور بلا ريب انتقال بعض مبادئ قانون الحرب من اطار الاخلاق والمجاملة الدولية الى اطار العرف الدولي الذي يجب مراعاته من قبل جميع الدول بشكل ملزم. وقد حاولت حكومة الثورة الفرنسية ان تشجع بقية الدول على ادخال الروح الانسانية في حروبها, فسنت مراسيم خاصة بشأن معاملة اسرى الحرب سنة 1792م.
ومع بداية القرن التاسع ارتفع عدد المطالبين بتدوين القواعد القانونية ومن ضمنها قواعد القانون الدولي بما فيها قواعد قانون الحرب, بعد الصدى الحسن الذي لاقاه تدوين القانون المدني والقانون التجاري في فرنسا سنتي 1804 و1807 على التوالي.
ولكن هذه الدعوة لم تلق الدعم الكافي لها الا بعد نصف قرن, وكان ذلك في مؤتمر باريس البحرى سنة 1856م, ثم باتفاقية جنيف الاولى لعام 1864, وما تبع ذلك من اتفاقيات دولية لتدوين قانون الحرب, واه هذه الاتفاقيات بلا ريب:-
• اتفاقيات لاهاي لعام 1899م و1907م.
• اتفاقيات جنيف المتعاقبة التي تم توقيع اخر مجموعة منها عام 1949م وتم تعديلها في اوائل عام 1977م باضافة ملحق يحوي (102) مادة يضاف الى احكامها.
اذن فالخلاصة ان هناك عاملان ساهما ولا زالا يساهمان في تطوير قانون الحرب وهما:-
• الروح الانسانية.
• الضرورة الحربية.
فإدخال الروح الانسانية في الحرب تنظمه اتفاقيات جنيف المتعاقبة بدءاً من اتفاقية 1864م وانتهاء باتفاقيات 1949م. والضرورة الحربية فتنظمها اتفاقيات لاهاي بدءاً باتفاقيات 1899م وملاحقها وانتهاء باتفاقيات لاهاي لعام 1954م الخاصة بحماية الاثار الادبية والتاريخية والفنية في زمن الحرب
المرجع : الاستاذ الدكتور حنا عيسى