مكتبة الأدب العربي و العالمي

المنافسة المحتدمة بين النحاة البصريين والكوفيين

في ظل المنافسة المحتدمة بين النحاة البصريين والكوفيين والتي لم تأخذ أبدا طابعا حميدا سيما في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد.

دُعِي سيبويه إلى بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية آنذاك كي تُعقد مناظرة لغوية بينه كزعيم للمدرسة البصرية، وبين الكسائي زعيما للمدرسة الكوفية.
قيل أن المناظرة جاءت بدعوة من يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، وقيل في روايات أخرى أنها حدثت بحضرة الرشيد كما جاء في 《 إنباهُ الرُّواة 》 وغيره ..

قَبِلَ سيبويه الدعوة لأن المنتصر في السجال سيحوز على مكافأة مالية مُجزية، واحتشدت الجماهير لهاته المناظرة يرقبون لمن تكون الغلبة، وخلال المناظرة التي رُويت في عشرات المراجع بعدة أوجه؛ إذ كان الأرجح فيها أنها مؤامرة حبكت للإطاحة بسيبويه.

فحين وصل إلى مجلس البرمكي. كان في انتظاره 《 الفَرَّاء 》و《 أبو الحسن الأحمر 》 تلميذا الكسائي، وقاما باستفزازه حيث سألاه عن عدد من المسائل وكلما أجاب عن واحدة منها قالا له:
– أخطأت يا سيبويه ..

وفي النهاية قال سيبويه للفراء:
– هذا سوء أدب منك.

فرد الفراء ووجهه تلقاء الأحمر:
– يظهر أن في هذا الرجل عجلة وَحِدَّة.

فَعَقَّب سيبويه:
– لست أكلمكما حتى يجيئ صاحبكما ..

فكان من الواضح حسب ما جاء في المراجع أنها كانت محاولة لإخراجه عن طوره والإطاحة بصوابه، ثم حضر الكسائي وناقش مع سيبويه عدة مسائل نحوية، فأظهرا براعتهما اللغوية في النقاش وقوة الحجة إلى أن نشب الجدل اللغوي عند الواقعة الأبرز في المناظرة التي اشتهرت 《 بالمسألة الزنبورية 》 حيث سأل الكسائي سيبوبه:
– كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور. فإذا هو هي أم فإذا هو إياها!!.

فأجاب سيبويه:
– فإذا هو هي، ولا يجوز النصب.

فقال الكسائي:
– لقد لَحَنتَ يا سيبويه، بل الصحيح النصب؛ فإذا هو إياها.

وكان رأي سيبويه هو الصائب، وذلك لأن القاعدة اللغوية تنطبق في قوله تعالى:《 وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ {108} 》. صدق الله العظيم. [سورة الأعراف].

فكلمة هي 《 مبتدأ 》 وبيضاء 《خبرها 》 وليس في اللغة العربية 《 فإذا هو إياها 》.
وبالتالي الرأي السديد كان لسيبويه، والقرآن يُدعِّم رأيه فيه. لكن لم يتقبل كلا الطرفين الرضوخ لرأي الآخر سَواء أكان على صواب أو خطأ، إذَّاك قال البرمكي:
– قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟.

فعرض الكسائي حينها أن يُحضروا مجموعة من الأعراب الأقحاح الذين ينطقون اللغة السليمة فطرة، فوافق على ذلك.
وحينما وقفوا بين يديهما سألهم وزير هارون الرشيد عن صحة القول فرجحوا كفة الكسائي، فطلب منهم سيبويه أن يؤكدوا ذلك وينطقوا الجملة، فلم تطاوعهم ألسنتهم على ذلك وتهربوا من الكلام. وفي هذا إشارة على أن سيبويه محق، ومع ذلك حسمت المسألة لصالح الكسائي، والأرجح أنه أمر دُبِّرَ له.

وعقب هذا الموقف انصرف سيبويه من القاعة مغبونا، وكان الكسائي قد طلب من الوزير البرمكي أن يعطيه مكافأة مالية تقديرا لمشاركته، فأعطاه مبلغا من الدراهم وربما هذا الموقف قد ضاعف الأثر في نفسه.

ومن يتتبع سيرة هذا العالم النحوي الجليل سوف يدرك أنه لا يقبل تخطئته أحيانا حتى عندما يكون مخطئا، فما بالك حين يكون على صواب ويُخَطأ عَمدا.

وقيل أنه بعد الواقعة أبت نفسه الرجوع إلى البصرة، ولم يكن أمامه سوى العودة إلى شيراز؛ داره الأولى ليحفظ ما تبقى له من هيبة ومكانة يراها لنفسه. ولما طار الخبر إلى البصرة قرر تلميذه الأخفش الأوسط، ورهط من تلاميذه ومُريديه أن يقابلوه قبل الرحيل لوداعه ومواساته. وهكذا جرت العادة ..

فَيُروى أن النَّظرَ بن شُميل وهو من تلاميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي حينما عقد العزم على الخروج من البصرة إلى خراسان شَيَّعَه نحو ثلاثة آلاف شخص بين محدث ونحوي ولغوي وإخباري، ويقال أنه حين التقى الأخفش الأوسط بأستاذه سيبويه استأذن منه في نشر كتاب 《 الكتاب 》 لسيبويه ..

وأخيرا فاضت روح سيبويه للقاء بارئها، وقد مات كمدا وقهرا بعد فترة وجيزة من وصوله إلى قريته التي ولد فيها. قيل في عدد من المصادر أنه توفي سنة 180 للهجرة، وكان يومها في 32 من عمره،. مصادر أخرى تقول أنه قد بلغ 38 عاما حين وفاته.

أَيَّن كان التقدير الدقيق لعمره فقد توفي في ريعان شبابه مخلفا وراءه إرثا هائلا في علم النحو .. المسألة الزنبورية إلى حيث ألقت رحلها، ومدرسة سيبويه البصرية هي الباقية.

اللغة قوتها ونفوذها وأهميتها بقوة أبنائها ونفوذهم وأهميتهم على هذه الأرض، مر علينا كيف حفل الخليفة والوزير وَعِليِةُ القوم وعامتهم بلغتهم، بل بصغائر أمورها ودقائقها.
لذا امتد نفوذها من أدنى الشرق إلى أقصى الغرب سابقا، وتتوارثها الأجيال إلى يومنا هذا، وقد فرضت نفسها على هيأة الأمم المتحدة من بين ست لغات عالمية.
ولا ريب، فكان القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة يقفان بقوة خلف هذا الاهتمام؛ أما في أيامنا هذه، أيام الشرذمة والتفرقة نرى للأسف الشديد تقزم دورها بين الأمم الأخرى فلم يحفل بها أحد ولا بعباقرتها ..

خلاصة الكلام؛ الحق مع سيبويه، والغلبة كانت للكسائي. القرآن الكريم خير شاهد ودليل 《 فَإِذَا هِيَ بَيضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ 》 صدق الله العظيم.

قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير:
– إن الجواب كما قال سيبويه وهو قوله 《 فإذا هو هي 》 أي فإذا هو مثلها، وهذا موضع الرفع وليس النصب.

وقال أبو العباس 《 قولهم فإذا هو إياها لاحتمال أن “إذا” فُجائية؛ أي فوجدته ورأيته، ووجدت ورأيت تنصب شيأين ويكون معه خبر 》. فلذلك نصبت العرب، من هذا الوجه جاز نصبها على استحياء ..

📋 المصادر:
– كتاب إنباهُ الرُّواة على أنباه النحاة – للوزير جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي
– وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان – لشمس الدين بن خلكان
– الأشباه والنظائر في النحو – الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

#مناظرات_لغوية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق