مكتبة الأدب العربي و العالمي
أروكيز ( البخيل ) قصة ملبارية ترجمها أ .د . عبد الحفيظ الندوي

بِرُوبِيَّةٍ واحدة فقط اشترتِ السمك، وظلّت تُقلّبه حتى المساء، عسى أن يُضاف إلى الطعام، وابتاعت قرصًا من الباپّدام، فقسمته إلى أربعة… هكذا قالت المرأة لجارتي من خلف السياج.
قالت أمِّنِّيَيشي، جارة بيتنا، لأمّي من خلف سور البيت، وأنا سمعتها جيدًا.
“أتعلمين؟ حتى تلك الفتيات الأربع لم يُشترَ لهنّ ما يستر أبدانهن حتى للأعياد ، فالثياب التي يلبسنها هي الساري البالي للأم ، والمُنْدِيل المهترئ للرجل العجوز!”
قالتها بصوت خافت، ولكنني سمعتها. كنت منهمكًا في البحث عن دودة قرب الصخور لأصطاد بها السمك، لكن أذنيّ وشيئًا من بصري كان منصتًا هناك.
رأيتُ ذلك الرجل أيضًا، عند الفجر، يطوي المنديل عند الزاوية اليمنى، يسير حافي القدمين، لا يبدّل قميصه أو منديله، يحمل في يده صُرّةً ويمضي مسرعًا.
ورأيته مرارا ، في بيوت زفافات، يأتي بأطفاله الأربعة الصغار يسأل الطعام مرارًا، ويحرص على أن يأكلوا، بينما يجلس هو يتأملهم بصمت.
ذات يوم، تتبعتُه من بعيد، حتى اختفى عن ناظري، لأعلم إلى أين يمضي، فعلمتُ أن وجهته شركة طباعة، يصلها قبل صوت الصافرة الصباحية.
لم يتساءل أحد: “لمَ لا يستقل الحافلة ولو بروبية؟”، “لمَ لا يشتري ثيابًا جديدة؟”، “أيوجد في هذا العصر من يمشي حافيًا؟”… لا، لم يبحث أحد عن إجابات، فقط أطلقوا عليه اسمًا واحدًا: أروكيز ( بخيل )!
وبدأتُ أنا أيضًا أناديه بهذا الاسم، مع أصدقائي، من بعيد، نهرب حين نراه.
‘أروكيز’
لم يكن يُجيبنا، يمضي دون أن يلتفت.
في يوم ما، ناديتُ ابنته الكبرى، وهي تأتي لتقطف أوراق الكاري، فقلت: “يا ابنة أروكيز!”
وناديتها مرارًا حين جاءت تجمع أوراق اليقطين، وحين رأيتها تقطف أوراق المورينغا لأن هذه الأوراق لا نستخدمها للطعام ….
ثم، ذات يوم، قررت أن أناديها عن قرب، فركضت إليها، ولكن قدمي انزلقت عند جذر شجرة كَانجيرا ذات أشواك ومرارة ، وسقطت على حجر، وانفجرت جبهتي بالدم.
أول من هرع إليّ، ورفعني من الأرض، كان ذلك الرجل. حملني إلى عتبة البيت، غسل دمي، ولفّ الجرح بورق نبات مأخوذ من الحديقة، بعد أن سحقه بيديه وأوصلني إلى بيتي…
دعوته لتناول الشاي، لكنه لم يدخل البيت بعد أن أصررت على دعوته ، دخل بطيئا ثم ,
فقط أخذ ثمرةً واحدة من الفواكه الموضوعة أمامه، وانصرف.
في اليوم التالي، كانت تلك الثمرة في يد طفلِه الأصغر…!
رأيته بعدها مرارًا…
يعود من عمله، يحمل على كتفيه الحجارة والتراب لمنزله، دون مساعدة.
وفي الأعياد، يقف من بعيد، ينتظر الجميع أن يشتروا اللحم ويرحلوا، ليأخذ ما تبقّى، ملفوفًا بورق التين.
ورأيته خلف بيته، أمام المرآة، يقص شعره بنفسه باستخدام المقص.
ورأيته، مريضًا بالحُمّى، ينتظر في الطابور الطويل بمستشفى الحكومة، ليأخذ دواءً مجانيًا.
لكن حينها، لم أعد قادراً على مناداته بـ “أروكيز”…
ثم، اختفى من الحي. وغاب لم نك ندري عنه وعن بناته
سنوات مضت، ثم رأيته مجددًا. ذات ليلة، دخل البيت، وأخبر زوجتي أنه جاء بشأن أرض تخصه، وأنه دخل من هذا الطريق حين حضر.
كان كما هو، لم يتغير. لم يتحدث كثيرًا. جلس على العتبة، ثم استعد للرحيل.
عرضنا عليه الشاي والحلوى، لكنه لم يأخذ شيئًا… حتى ثمرةً واحدة من الفاكهة لم يأخذها.
عند مغادرته، سألته أمي عن أولاده:
“الكبرى تعمل في مكتب القرية موظفة، واثنتان معلمتان، والصغرى تدرس الطب.”
وصلت سيارة إلى ساحة المنزل، ونزلت منها فتاة. قال: “هذه ابنتي الصغرى، جئنا معًا، ربما نزلت تبحث عني حين لم تجدني.”
تحدثت أمي معها، وألحت عليها أن تشرب الشاي، لكنها رفضت، وأخذت ثمرة فاكهة واحدة فقط، واحتفظت بها في يدها.
ثم مضيا في طريقهما.
دخلت زوجتي وهي تتمتم:
“مهما جاءه أحد، لا يغيّر هذا المنديل المهترئ الذي يرتديه! لماذا لا يشتري جديدًا ما دام يملك المال؟! هكذا كان دومًا… أليس هو أروكيز؟ أروكيز!”
ناولتني كيسًا وقالت: “اذهب بسرعة إلى متجر التموين قبل أن يُغلق، خذ الأرز والسكر، وأيضًا بعض الأشياء للأطفال…”
سرتُ بالكيس مسرعًا…
رنّ الهاتف في جيبي، كانت زوجتي:
“هل بك شيء؟ هل أنت مريض؟!”
لم أجب.
قالت:
“يا رجل! هل خرجت حافيًا؟!”
نظرتُ إلى قدميّ… نعم، أنا حافٍ.
توقّفت لحظة، ثم رجعت خطوةً إلى الوراء…
لكنني قلت في نفسي :
“لا بأس، المتجر سيُغلق… الطريق طويل…”
فطويت المنديل عند خاصرتي، وسرتُ… حافي القدمين… مسرعًا إلى الأمام!
✍️ القاص : ماجيش بوجي