الرئيسيةالمنصة الدولية زووممكتبة الفيديومنظمة همسة سماء

همسة نت الدولية وبرنامج (صرخة ثكالى ) برنامج نستضيف به أهالي الضحايا ونسلط به الضوء على اعمال العنف في الداخل الفلسطيني

هذا البرنامج بالتعاون مع كلية كفر قاسم

يحدثنا الاستاد كامل ريان وهو يسترجع ذكرياته مع ابنه ويقول بحسرة

كان ذلك في شتاء 2009 حيث يتقزّم كلّ شيء. أكبر مصيبة يمكن للإنسان مواجهتها. لا يوجد أكبر من مأساة موت الابن. ليس من المفترض أن يدفن الأهل ابنهم، المفترض هو العكس. هذه هي قوانين الطّبيعة. كان ذلك في ساعات المساء، شهر شباط 2009، حين تلقّينا فاطمة وأنا الخبر الصّادم: معاذ أُصيب بطلقة ناريّة. مأساة لا أتمنّاها حتّى للعدوّ. مأساة ممزوجة بالدّم والحزن والأسى والألم الفظيع. ألم فظيع يعصف في القلب والفكر والجسد، ألم يكبر مع الزّمن. عندما تقع مصيبة تكون الصّدمة أكبر من أن تحتملها، ويكون ألم كبير، ولكنّ حدّتها تتلاشى مع الوقت. نعم، هو الأمر في معظم الحالات، باستثناء فقدان الابن. في هذه الحالة يكبر الألم وتكبر الفاجعة مع الوقت، يتعاظم في كلّ يوم. حتّى اليوم لا أستوعب تلك القوّة النّفسيّة الّتي استجمعتها للوقوف أمام المشيّعين، الوقوف أمام القبر والتّحدّث إلى الجمهور الغفير الّذي رافق الجنازة. التّحدّث إليهم وحثّهم على الصّبر وكظم الغيظ والتّصرّف بحكمة. أن أطلب منهم عدم التّسرّع بكيل الاتّهامات وتحميل مسؤوليّة هذه الجريمة الفظيعة وهذا القتل الشّنيع. أكثر من عشر سنوات مضت ولا أعتقد أنّني أستطيع القيام بذلك مرّة أخرى، أن أتحدّث كما تحدّثت في حينه. لا أتخيّل أنّني قادر على الوقوف بجانب القبر وإلقاء خطاب أمام جمهور المشيّعين، وأن أُناشدهم التّحلّي بالصّبر. لا أستطيع الحديث عن معاذ، وحتّى اليوم لا نستطيع في البيت الحديث كثيرًا عنه إلّا نادرًا.

كانت قد انتشرت الشّائعات عن المتورّطين بعمليّة القتل، وتهامس البعض أنّ الجناة من خارج القرية وغير معروفين، وكلّهم حصلوا على مساعدة من داخل القرية. وبدأ البعض يتهامسون عن فلان وعلّان ومشاركتهم بالجريمة. وقفتُ في المقبرة أمام حشود المشيّعين، الّذين جاؤوا من كلّ مكان للمشاركة في الجنازة وقلت لهم: “أرجوكم اضبطوا النّفس، اُتركوا الاتّهامات جانبًا. لا أريد السّماع؛ أنّ أحدكم يشكّ في فلان أو علّان بأنّه متورّط بالقتل. دعوا الشّرطة تقوم بواجبها. الشّرطة هي الّتي يجب أن تقبض على المتّهمين بالقتل. ليس من حقّنا عقد محاكمة ميدانيّة لأيّ شخص”. تجمّع المشيّعون وبدأ بعضهم بطرح الأفكار “يجب عمل كذا أو كذا”، توالت الاقتراحات من كلّ صوب عن كيفيّة إلقاء القبض على المتّهمين. قلت للجميع: “كلّ من يتجرّأ على اتّهام شخص، أو أن يحلّ محلّ الشّرطة، فهو يقوم بغير ما يجب. هذه ليست وظيفتنا، ليست وظيفة العائلة، إنّها مسؤوليّة الشّرطة. أقول لكم إنّ كلّ من ينشر الشّائعات هو خائن بنظري، يبحث عن إثارة المشاكل والخلافات وزرع الفتنة في قريتنا”.
اليوم، وبنظرة إلى الوراء، فإنّني أتّهم الشّرطة الّتي لم تحلّ لغز تلك الجريمة. الشّرطة هي المسؤولة عن أمن السّكّان وسلامتهم. اليوم لم أعد أستطيع التّحدّث بتلك اللّهجة المتسامحة مع الشّرطة كما فعلت في حينه. في الجنازة تمالكت نفسي، وتساميت على حزني وألمي. كان هدفي تهدئة الأجواء وإحكام العقل. واليوم أسأل نفسي: ماذا جنيت من ذلك؟ هل تمّ القبض على المجرمين؟
تصدّر خبر مقتل معاذ عناوين الصّحف، بما فيها الصّحف العبريّة. أُجريت معي العديد من المقابلات في وسائل الإعلام. سألوني: “ماذا تقول عن القاتل، الشّخص الّذي قتل ابنك؟”. قلت لهم: “أوّلًا، أنا لا أعرف من هو القاتل. حتّى وإنْ عرفته، أقولها هنا على الهواء، أنّني أسامحه. أسامحه بشرط واحد: أن يتوب، أن يعود إلى الدّرب المستقيم، أن يتأسّف ويعبّر عن ندمه عمّا فعل. القانون سوف يعاقبه، لكن إذا تاب فسوف أغفر له مقتل ابني”. لكن لو سألوني اليوم السّؤال نفسه، فلست متأكّدًا كيف كنت سأردّ. لكنّني على يقين بأنّ ردّي سيكون مختلفًا.

حتّى اليوم لم يتمّ حلّ لغز الجريمة. والحقيقة؛ أنّني في صميمي لا أريد أن أعرف من هم الجناة. كنت أطالب طيلة الوقت وأضغط عليهم لفكّ هذا اللّغز؛ لكنّي في داخلي كنت أفضّل ألّا أعرف من هم المتّهمين. أصلّي دائمًا وأسأل الله ألّا يكون لأيّ كان من كفر برا، لا سمح الله، يد في تلك الجريمة. أُفضّل أن ألتقي ذلك الشّخص يوميًّا دون أن أعرفه، وأن أحيّيه تحيّة السّلام أو صباح الخير، وأن يردّ عليّ بالمثل، أن يخدعني ويسخر منّي، فهذا أفضل لي من كلّ إمكانيّة أخرى. أفضل لي من أن أعرفه. لا أدري ماذا سيحدث له، لكنّني متأكّد أنّه لن يبقى على قيد الحياة لفترة طويلة. أنا لا أهدّد، لا سمح الله، فأنا ضدّ العنف. لكنّني أعلم مدى غضب أهالي كفر برا عمّا حدث. لقد سامحت القاتل، وقلت ذلك بالعلن؛ لكنّني لن أستطيع منع أفعال قد تصدر عن آخرين.
عائلة معاذ كبيرة ولديه العديد من الأصدقاء؛ لكنّني لم أعلم أنّ له شعبيّة كبيرة، ومدى حبّ النّاس له. حتّى بعد مضي عدّة سنوات ما زال الأصدقاء والزّملاء يزورون قبره، يصلّون ويقيمون الطّقوس الدّينيّة هناك. لم يسبق أن شهِدت قريتنا مثل هذا الالتفاف الجماهيريّ. العديد من بيوت سكّان القرية علّقوا صورة معاذ. بعضهم رسم صورة له من الذّاكرة أو الخيال. فترة طويلة بعد مقتله وما زلت أسمع القصص عنه وعن تصرّفاته مع النّاس، والمساعدات الّتي كان يقدّمها لهم بالسّرّ، وكيف كان يساعد الأيتام ويقوم بالأعمال الصّالحة. لم أكن أعلم كلّ تلك الأمور وفقط بعد مقتله اكتشفت ذلك. فلم أعلم من قبل أنّه كان في أيّام العيد يأخذ ثلاثة أيتام ويشتري لهم الملابس دون أن يخبرني. زوجتي فاطمة، والدته، لم تعلم من قبل بكلّ هذه الأمور. في إحدى المرّات قالت لي فاطمة: “اُنظر ماذا فعل معاذ مع تلك المرأة المسنّة من الضّفّة الّتي تأتي إلى القرية لبيع الخضار والتّوابل، لقد اشترى منها كلّ البضاعة. لقد قال لتلك السّيّدة المسنّة: “كيف تنام والدتي في البيت على سريرها وأنت تجرّين هذه العربة؟” اشترى كلّ ما لديها وقال لها: “اذهبي إلى بيتك”. كانت تلك عمليّة القتل الأولى في القرية منذ عام 1948. حتّى تلك الفترة ساد الأمن والطّمأنينة في القرية.
كإنسان مؤمن وأعلم أنّ الله يمتحن كلّ إنسان، وإنّ الله امتحنني أنا أيضًا. لديّ الكثير من الأسئلة، ولكن ليس لله عزّ وجلّ. لديّ الكثير من التّساؤلات عن تصرّفات الشّرطة في ملفّ مقتل معاذ. كنت قد قلت لمفتّش المنطقة: “إذا لم تبرّؤوا أنفسكم، فأنتم ستظلّون عنواني”. علمت من رئيس المجلس المحلّيّ عندنا أنّ الشّرطة كانت تشكّ بإمكانيّة قتله، وأنّهم أخبروا رئيس المجلس واعتذروا؛ لأنّنا “اضطررنا لمغادرة المكان في ذلك اليوم”، هكذا قالوا له. أي كانت لديهم شكوك أو ربّما طرف خيط. كيف يمكن لغرباء دخول القرية بدون مساعدة من الدّاخل؟ أنا واثق أنّ القاتل ليس من القرية؛ لكنّه حصل على مساعدة من القرية، وأنا لا أريد أن أعرف ممّن. إنّها معضلة صعبة بالنّسبة لي، فمن ناحية من الأهمّيّة أن أعرف، لكنّني لا أريد أن أعرف”. صورة معاذ لا تفارقني. أُشاهد صورته في كلّ مكان في القرية، هو دائمًا أمام عينيّ. اخترت أن أضع كلّ شيء جانبًا بانتظار أن تأتي الشّرطة يومًا ما ويقولون لي: “هذا من قتل ابنك”. قلت لهم: “طالما لم تقولوا لي من قتل ابني، فبالنّسبة لي أنتم من يتحمّل المسؤوليّة”.

أكثر ما يحزنني في هذه القصّة ليست قصّة ابني. صحيح أنّ ابني معاذ قُتل، لكن في المجتمع العربيّ في كلّ يوم تقريبًا تقع جريمة قتل. لقد انتشر العنف بيننا بشكل مقلق. بعد اغتيال معاذ بفترة وجيزة بعثت رسالة إلى وزير الأمن الدّاخليّ وكتبت له: “قُتل مئتا شابّ في المجتمع العربيّ في السّنوات الخمس الماضية في منطقة المثلّث ولا أحد يعرف من قتلهم ولماذا؟”. سألت الوزير في الرّسالة “هناك إجرام منظّم في جميع أنحاء العالم، وفقط عندنا هنا في الدّولة لا يوجد؟”. “كيف يحدث أنّ الشّرطة تعرف من الجناة في النّهاية، ولا توجد أيّ قضيّة قتل تقريبًا في الوسط اليهوديّ لم تحلّها الشّرطة. يمكن إحصاء عدد جرائم القتل الّتي لم تُحلّ في الوسط اليهوديّ على أصابع يد واحدة، وأنا أعرف الإحصائيّات. أنا أتحدّث عن مقتل مئتي إنسان في منطقتنا. هل يمكن أن يكون هناك أب لهذه الجرائم؟ أن تكون هناك يد موجّهة؟ لا أعرف”.

في كلّ ليلة أنام ومعاذ بجانبي، لا يفارق أفكاري وأحاسيسي. أتذكّره في كلّ ليلة وكأنّه مستلقٍ بجانبي. نحن نؤمن أنّ الإنسان الّذي يُقتل؛ فهو شهيد عند الله يصعد إلى الجنّة، فكم بالحريّ القتيل أن يُقتل بغير حقّ وبغير ذنب! حلمت به كثيرًا، وفي الحلم كنت دائمًا أشاهده بحالة جيّدة وبخير. أيضًا فاطمة أُمّه رأته كثيرًا في المنام وهو في الجنّة. عندما أراه في الحلم أطمئنّ، وأشعر بالرّاحة فأخلد إلى نوم هادئ عميق. وكم يثلج صدري عندما أسمع النّاس يذكرونه بالخير. أنا إنسان عاطفيّ حسّاس بطبعي، وعندما أسمع النّاس يتحدّثون بالخير عن آخرين، أشعر بالرّاحة. عندما أشاهد في التّلفاز حادث طرق وإصابة أطفال، على الفور تنهمر دموعي مهما كانت ديانة أو قوميّة الأطفال المُصابين. وهذا ما أشعر به مع الاعتداءات العسكريّة المتكرّرة على أهلنا في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة. عندما أشاهد امرأة تتحدّث عن ابنها أو طفل يسأل أين والده، لا أستطيع النّوم في تلك الّليلة وأظلّ أبكي. لديّ حساسيّة مفرطة في كلّ ما يتعلّق بالفقدان، فقدان الأب لابنه، وفقدان الطّفل لوالده. أتماهى مع ذلك الأب الّذي يفقد ولده وأشعر بما يشعر به أحاول أن أبكي فقط عندما أكون لوحدي، بينما أتمالك نفسي وأحبس دموعي أمام الآخرين.

مساء ذلك اليوم المأساويّ، قبل وقوع الفاجعة، دخل معاذ غرفته. كنت أنا وفاطمة جالسين في الصّالون. جلست على الكرسيّ وغفوت قليلًا. وقف معاذ ينظر إلينا، ونحن جالسون نستريح بهدوء. في ذلك اليوم كان معاذ فرحًا، كثير الحيويّة والنّشاط. كان شديد الانفعال؛ لأنّه في ذلك اليوم قد افتتح “ميني ماركت” هو وشريكه. كان سعيدًا بهذا الإنجاز لشابّ عمره 25 عامًا فقط. كان وجهه مشعًّا منيرًا، فرحًا بهذه الفرصة الكبيرة الّتي حالفته. معاذ لم يواصل تعلّمه مثل بقيّة إخوته وأخواته. أخ واحد كان يدرس الطّبّ، الثّاني يدرس الصّيدلة وأخته كانت تدرس لشهادة الماجستير في الجامعة. كان معاذ يشعر أنّه أضاع فرصة كبيرة لعدم مواصلته التّعلّم وكان يحاول جهده لتحقيق شيء تعويضًا عن ذلك النّقص؛ لذلك كان في ذلك المساء ينظر إلينا فرحًا سعيدًا. أتذكّر أنّه تبادل بعض الكلمات مع أمّه فاطمة، ولم أفهم عمّا تحدّثا فقد كنت غارقًا بأموري. بعدها قالت لي فاطمة أنّه وافق أخيرًا على مقابلة إحدى الفتيات الّتي اقترحتها عليه والدته ليتعرّف عليها بهدف الزّواج. سبق واقترحت عليه والدته عدّة اقتراحات؛ لكنّه كان يرفض باستمرار. وفي ذلك المساء وافق لأوّل مرّة. كانت نظراته توحي بالأمل والسّعادة، كشخص بالغ بدأ مشوار الاستقرار، يخطّط للعمل، والزّواج والمستقبل. شعرنا يومها بسعادة كبيرة. بعد دقائق خرج من غرفته، جلس معنا يشاهد التّلفاز. كان ذلك في فترة الحملة العسكريّة العدوانيّة “الرّصاص المصبوب”. مشاهد ومناظر القتل والدّمار أحزنته كثيرًا.

معاذ لم يكن يهتمّ بالسّياسة، بل كان يكرهها. لم يحبّ مشاهدة الأخبار. كان شخصًا مؤمنًا، واظب على الصّلاة مثلي. كان يقول لي باستمرار: “أنت تحرق نفسك. أنت تقتل نفسك بالسّياسة”. في ذلك المساء فاجأني حين قال لي: “أبي، أريد أن أتبنّى خمسة أيتام من غزّة، أن أعيلهم من أموالي أنا”. في تلك الفترة العديدون من المجتمع العربيّ في إسرائيل كانوا يعبّرون عن تضامنهم ومشاعر الانتماء، بأن يتبنّوا عائلة فلسطينيّة أو يتيمًا أو طالبًا جامعيًّا. في الجمعيّة الّتي كنت ناشطًا فيها كان خمسة عشر ألف يتيمٍ، وفي كلّ شهر كنّا نرسل لليتيم أو الطّالب المسجّلِ في الجمعيّة مبلغ مئة وعشرة شاقلًا. كنّا نحصل على صورة اليتيم وقصّة حياته وحياة أسرته. العديد من القصص المحزنة والمؤلمة. عادة كلّ فرد كان يتبنّى يتيمًا أو اثنين، البعض كانوا يتبنّون أكثر. طلب معاذ أن أساعده لكفالة خمسة أيتام من غزّة. الحقيقة أنّه فاجأني بموقفه هذا، فهو لم يهتمّ بالسّابق بهذه الأمور. أثنيت كثيرًا على قراره هذا وقلت له: “أنا فخور بك، أحيّيك. كلّ الاحترام والتّقدير لهذه الخطوة”. واصل معاذ الحديث مع والدته وأنا غادرت الغرفة. وقف معاذ في مدخل البيت، اتّكأ على الحائط ونظر إلينا وكأنّه يودّعنا. لم نعتد منه على مثل هذا التّصرّف. كان صارمًا ومنطويًّا ولم يشاركنا أسراره وأحاسيسه. كان قويّ الشّخصيّة لا يخشى شيئًا، شجاعًا. ولكن عندما يحتاج أحدهم مساعدته؛ كان يترك كلّ أعماله ويذهب لمساعدته. كانت لنا العديد من النّقاشات معه وصلت حدّ الشّجار. كنت أقول له: “لماذا عليك التّدخّل بكلّ أمر؟”، وكان يقول لي: “أنت رجل مؤمن، وأنت تشاهد الكثير من الأمور غير السّليمة في القرية، فلماذا لا تتدخّل؟”. في إحدى المرّات أراد أحدهم الاعتداء على صديق له، فهبّ معاذ لمساعدته والدّفاع عنه، مّما فتح بابًا للعداوة بينه وبين ذلك الشّخص. قلت له: “لماذا فعلت هذا؟ ليس بهذه الطّريقة تتمّ تسوية الأمور”. فقال لي: “أبي، لن أسمح لأيّ كان بالاعتداء على أصدقائي في قريتي الّتي أعيش فيها”.

في ذلك المساء وقف معاذ في باب البيت ونظر إلينا نظرة ثاقبة ثمّ خرج من البيت. جلست أنا وزوجتي في الصّالون وتحدّثنا عن معاذ. كانت فاطمة سعيدة فرحة، لم تصدّق ما قاله معاذ أنّه موافق على عقد الخطوبة. قشّرت فاطمة حبّة تفاح، قطعتها إلى نصفين ووضعت قطعة صغيرة في فمها، تناولت نصف التّفاحة وإذا بهاتف البيت يرنّ قبل أن أضع التّفاح في فمي. شقيقه الصّغير أحمد كان هناك على بعد عشرين مترًا منه. الدّكّان كان مفتوحًا للزّبائن. معاذ وابن عمّه، وشريكه، احتفلا بافتتاح الميني ماركت ووضعوا التّضييفات لاستقبال الزّبائن والمهنّئين. دخل معاذ سيّارتي الّتي كانت بالقرب من الدّكّان، وجلس خلف المقود، وفجأة جاءت سيّارة مسرعة وفيها شخصان، أحدهما يمسك مسدّسًا والآخر يحمل سلاحًا أوتوماتيكيًّا. بدأ الاثنان بإطلاق الرّصاص على معاذ بينما سيّارتهما منطلقة بسرعة. لم ينزلا من السّيّارة، بل كانا يطلقان النّار من داخل السّيّارة المسرعة، ثمّ هربا من المكان. اتّضح فيما بعد أن السّيّارة كانت مسروقة وقد تمّ إشعال النّار فيها في منطقة جلجولية. يبدو أنّ سيّارة أخرى كانت بانتظارهما، مّما يؤكّد أنّ عمليّة القتل كانت مُبرمجة مسبقًا. أحمد، ابني الصّغير، كان يقف هناك وشاهد كلّ شيء، كان مصعوقًا ومصدومًا. لا أدري هل أراد القاتلان إصابة معاذ أم شريكه. هذه الأمور يجب على الشّرطة أن تكشف عنها. لا أدري كيف عرفا أنّ معاذ خرج من الدّكّان ودخل إلى السّيّارة. لهذه الأسباب أشكّ أنّهما تلقّيا مساعدة من الدّاخل، أنّ شخصًا ما أخبرهما أنّ معاذ خرج من الدّكّان. القاتلان ليسا من قريتنا، وهذا ما أعرفه بالتّأكيد. فلقد جلسا في السّيّارة ووجهيهما مكشوفين، لم يغطّيا وجهيهما، ورغم أنّ الكثيرين من أهل القرية شاهدوهما، إلّا أنّ أحدًا لم يتعرّف عليهما. أحمد ابني شاهدهما أيضًا ولم يعرفهما. إخوتي لحقوا القاتلان الهاربان بالسّيّارة، لكنّ القاتلان أطلقا الرّصاص على السّيّارة الّتي تطاردهما. في البداية ظنّ السّكّان بأنّ الحديث عن ألعاب ناريّة بسبب افتتاح الدّكّان. وفجأة ارتفع الصّراخ “طخّوا على معاذ، طخّوا معاذ”، وفورًا دخل إخوتي إلى السّيّارة؛ يلاحقون المجرمين، لكنّهم عادوا بعد بضع دقائق عندما بدأ المجرمان يطلقان النّار عليهم.

استغرقت الشّرطة ساعة كاملة للوصول إلى المكان، ولا أدري لماذا. هذا أحد الأسئلة الّتي أكرّرها على نفسي وعلى الشّرطة. عندما تلقّيت الاتّصال الهاتفيّ قالوا لي: “معاذ أُصيب بالرّصاص” مع أنّه قُتِلَ على الفور. عرفت أنّ معاذ لم يعد حيًّا. بدأت أصلّي لله. خلال دقائق معدودة انتشر الخبر وبدأ السّكّان يتوافدون إلى بيتنا. الميني ماركت حيث قُتِلَ معاذ، ما زال قائمًا ويعمل حتّى اليوم بإدارة شقيقه.
في تلك اللّحظة، عندما تلقّينا النّبأ عبر الهاتف، فاطمة زوجتي لم تصرخ، تمالكت أعصابها. أحمد، الابن الصّغير، والّذي شاهد حادثة القتل، كان مصدومًا، رفض الحديث مع أحد أو مع أيّ شخص مهنيّ. نحن نتحدّث معه أحيانًا عن ذلك، اليوم هو في حالة جيّدة. باشرنا بترتيبات الجنازة والدّفن في يوم الغد. انتشر الخبر في الصّحف، فجاءت جماهير كبيرة لتشييع معاذ. كان هناك آلاف الأشخاص يملؤون شوارع القرية. اقتربت من التّابوت، نظرت إلى معاذ داخل التّابوت ساكنًا بعد قتله وغسل جثمانه من الدّم. صلّيت عليه وتوجّهنا إلى المقبرة. لم أبكِ، شعرت بفراغ كبير، كأنّني أُحلّق في مكان آخر فوق الجميع وأنظر من الخارج إلى ما يحدث. بعد انتهاء مراسم الجنازة شعرت بأنّ على أكتافي يقع حمل ثقيل. أدركت إذا لم أتكلّم للنّاس فسوف يقوم بذلك غيري ولن أدري إلى أين سيؤدّي ذلك. قرّرت تهدئة الأوضاع وأن أخطب بالجمهور. وبعون الله نجحت بمهمّتي تلك. قلت لهم: “لا أحمل بقلبي اتّهامًا لأحد. التّحقيق في هذه الجريمة النّكراء هو مسؤوليّة الشّرطة. وطالما لم تخبرنِي الشّرطة مَن قتل ابني، فلن أتّهم أحدًا. كلّ من يتّهم فلانًا أو علّانًا هو بنظري وبنظر أسرتي إنسان فاسد، يسعى إلى الفتنة، ولا أريد سماعه بتاتًا. بالنّسبة لي هذه مسؤوليّة الشّرطة فقط. أنا واثق أنّ الشّرطة سوف تفكّ رموز هذه الجريمة وتعرف من هو القاتل. إذا لم تتوصّل الشّرطة إلى الحلّ ولم يخبروني من هو القاتل، فسوف أتّهم الشّرطة فقط. أتوجّه إلى جميع الأقارب والأصدقاء، أنّ لا توجّهوا التّهم لأيّ كان بدافع الغضب والحزن. كلّ من يتّهم أحدًا فهو يعتدي عليّ. كلّ من يفعل ذلك لا أريد أن أشاهده”.
نجحت بتهدئة الأجواء إلى حدّ ما، وهذا ما لمسته من تصرّفات المتواجدين في الجنازة. قالوا لي: “كيف تقول هذا؟ نريد أن نعرف من القاتل، نريد الانتقام لموت معاذ”. فقلت لهم: “من يريد الانتقام لن يدخل بيتي. أعرف إلى أين ستوصلنا هذه الأمور. أنا إنسان مؤمن، وهذا هو نهج نبيّنا محمّد عليه السّلام. أنا لا أؤمن بالانتقام وبأخذ القانون بيدي”.
كان المفترض أن تنتهي أيّام الحداد والعزاء في اليوم الثّالث؛ لكنّ ذلك استمرّ على مدار ثلاثة أسابيع. المعزّون لم يتوقّفوا عن الحضور. آلاف المعزّين جاؤوا إلى بيتي للعزاء والمواساة. جاؤوا من كلّ مكان، من المجتمع اليهوديّ حضر الكثيرون أيضًا. بعد فترة قرّرت العودة إلى العمل. في نهاية الأسبوع الثّالث قرّرت أن أنهي استقبال المعزّين. لم أُرد أن تعيش زوجتي وأولادي وأصدقائي هذه المأساة كلّ يوم من جديد وباستمرار. طلبت منهم فكّ خيمة العزاء. لو لم أفعل ذلك لاستمرّت الوفود بالقدوم وإعادة إحياء تلك اللّحظات المأساويّة من جديد. كنت قلقًا على زوجتي وأطفالي، على أصدقائي، إخوتي وأقربائي. لمست أنّ قراري ساعدهم. على مدار سنة كاملة كنت أصوم يومي الاثنين والخميس، هذا الصّيام لا علاقة له بالحزن والحداد؛ لكنّه من سنّة نبيّنا محمّد عليه السّلام.

بعد هذه المأساة الفظيعة لم أفكّر في كيفيّة تخليد ذكرى معاذ، كان رأسي خاليًا من الأفكار، فقط التّعامل مع الكارثة ملأ وجودي مثل باقي أفراد الأسرة. فكّرت كيف سنعيش بدون معاذ، وكيف سنمضي قدمًا، وما الّذي سيحدث لنا الآن، وكيف ستتخطّى فاطمة هذه المأساة، والّتي من الواضح أنّها سترافقنا حتّى يومنا الأخير على هذه الأرض. فكّرت في ما سيحدث لأولادي الآخرين، كيف سيتعاملون مع المأساة الرّهيبة، كانت الأفكار تدور في رأسي ولم أفكّر بموضوع التّخليد على الإطلاق، حتّى التّفكير في الأمر بدا لي أمرًا ليس صحيحًا حاليًّا.
لكنّ الحياة تستمرّ وتحدُث الأشياء دون أن نسيطر عليها. ثلاثة عوامل سهّلت الأمر بالنّسبة لي وهي ضرورة البدء بنشاط لتخليد معاذ وذكراه. حدث ذلك بدون تدخّلي وبدون قصد وبدون طلب منّي. المبادرة الأولى جاءت من إمام مسجد كفر برا، والّذي كان والده ابن خالي. عندما توفّي والده زياد بنوبة قلبيّة مفاجئة، وقفت في اليوم الثّالث من الحداد وأعلنت إنشاء مركز ثقافيّ على اسم والده رحمه الله . كان ذلك أوّل مركز ثقافيّ في البلدة، مكوّن من ألف وأربعمئة متر مربّع، وهو مبنى يضمّ مكتبة، مسجدًا، مركزًا رياضيًّا ومركزًا لتعليم الكمبيوتر. هكذا أُغلقت الدّائرة بعد أسبوع من الحداد. قام نجل زياد وأعلن إنشاء مركز شباب على اسم معاذ. وهو الّذي يديره حتّى يومنا هذا. تُعقد هناك محاضرات وأنشطة أخرى عديدة للشّباب. المبادرة الثّانية كانت من قبل المدير العامّ لكلّيّة كريات أونو الأكاديميّة، حيث درستُ القانون هناك في حينه.
في أحد الأيّام دعاني المدير العامّ للكلّيّة للحضور إلى مكتبه وقال لي “انظر يا كامل، لم أشارك في الجنازة ولكن أريد أن تقيم صندوق مساعدات على اسم معاذ رحمة الله عليه، وسنقوم نحن بالتّبرّع بنصف المنح الدّراسيّة الأربعة للطّلّاب العرب كلّ عام. ستقوم أنت باختيارهم وتسجيلهم، وهم سيدفعون نصف رسوم التّعليم فقط”. الحديث عن مبلغ كبير، عشرات آلاف الشّواقل لكلّ سنة دراسيّة. وبالفعل تمّ إنشاء صندوق المنح، والمشروع ما زال قائمًا حتّى اليوم. في كلّ سنة أربعة طلّاب جامعيّين عرب يحصلون على منحة دراسيّة بمقدار نصف رسوم التّعليم السّنويّة من صندوق المنح على اسم المرحوم معاذ ريّان.
المشروع الثّالث، لتخليد ذكرى معاذ، وربّما الأهمّ، هو مركز لبحوث ودراسات التّراث الإسلاميّ. تأسّس المركز من قبل أحمد عاصي، الّذي أسّسنا معه الحركة الإسلاميّة في كفر برا، وعملنا معًا لمدّة عشرين عامًا تقريبًا بأمور تتعلّق بالحركة الإسلاميّة، وعلى الرّغم من أنّنا في السّنوات العشر الماضية ابتعدنا عن بعضنا، وافترقت طرقنا، وخاصّة لأسباب فكريّة وخلافات سياسيّة؛ لكنّنا في السّنوات الأخيرة تقرّبنا من بعضنا مجدّدًا، فكلانا ندرس في كلّيّة كريات أونو. في أحد الأيّام قال لي: “أريد أن أتحدّث إليك”.
سألته عن الموضوع، فقال لي: “أريد أن أخلّد ذكرى المرحوم معاذ”.
سألته: كيف؟
فقال لي: أُريد إنشاء مركز للبحوث والدّراسات على اسم معاذ. أُريد أن أدير هذا المركز الّذي سيطلق عليه اسم ابنك. أريد أن يكون لديّ معهد أكاديميّ يتعامل بشكل أساسيّ مع البحث عن السّكّان العرب والعلاقات بين العرب واليهود. كما سيعمل المعهد على نشر الكتب وجمع رسائل الدّكتوراه أو الماجستير في المجالات الاجتماعيّة، ويساعد المعهد في توزيع الكتابات الأكاديميّة، وطباعتها وإرسالها إلى الجامعات ومعاهد البحث الأخرى. قلت له أنّ الفكرة رائعة، فقال: “لديّ فكرة للمجال الأوّل الّذي سيعالجه المعهد”، سألت ما هو؟ فقال: “الموضوع الأوّل هو القضاء على العنف في المجتمع العربيّ”.
تبلورت الفكرة بسرعة وتمّ تأسيس المعهد. جمع أحمد الّذي ترأّس المعهد فريقًا مهنيًّا رائعًا يعمل بجدّيّة ومهنيّة عالية. ساعدتُ بتمويل جزئيّ وأحمد جمع مجموعة من الأساتذة من حملة شهادات البروفيسوراه والدّكتوراه، مديري كلّيّات، قضاة، أئمّة، من جميع أنواع الطّيف الثّقافيّ، التّربويّ والدّينيّ. تجوّلنا في جميع السّلطات المحلّيّة العربيّة وطلبنا من كلّ رئيس سلطة إقامة لجنة محلّيّة للقضاء على العنف في بلده. لكلّ لجنة ممثّل في مركز معاذ في كفر برا. توجّه أحمد لجميع الوزارات الحكوميّة، للشّرطة، المراكز الجماهيريّة، أعضاء الكنيست وهيئات أخرى عديدة للمساهمة كلّ بقسطه لمكافحة العنف في المجتمع العربيّ، وكرّس لذلك كلّ قواه النّفسيّة، معتبرًا ذلك رسالة قوميّة. وأقول بكامل الثّقة أّنه قام بعمل رائع في هذا المجال أكثر من أعضاء الكنيست وأكثر من رؤساء السّلطات المحلّيّة.
حظي إنشاء مركز معاذ ريّان للبحوث والدّراسات؛ بتغطية كبيرة في وسائل الإعلام العربيّة، وأصبح اسمًا مألوفًا في المجتمع العربيّ في وقت قصير. أدّت الدّعاية الكبيرة إلى موجة من التّبرّعات، الّتي بدأت تأتي من أشخاص لا نعرفهم، لا أنا ولا زوجتي. ذهبت أنا وزوجتي إلى كفر قاسم للمشاركة في اجتماع الأهالي في مدرسة ابننا، قال لي أحد سكّان كفر قاسم الّذي لم أعرفه من قبل: “سمعت عن مركز معاذ وأريد التّبرّع. كيف أحوّل التّبرّعات للمركز؟”. كانت لي عشرات لقاءات الصّدفة مع أشخاص لم أعرفهم من قبل، وعندما علموا أنّني والد معاذ، تقدّموا منّي وطلبوا التّبرّع لمركز الدّراسات.
تقريبًا لا يوجد شيء حلمت به ولم أحقّقه، سواء كان ذلك في المجال الشّخصيّ أو العامّ. عُرض عليّ أن أكون عضوًا في الكنيست ورفضت بشدّة أكثر من مرّة أو مرّتين. عُرض عليّ أن أكون رئيسًا للحركة الإسلاميّة الجنوبيّة فرفضت، عُرض عليّ أن أكون رئيسًا للقائمة العربيّة ورفضت. عضو الكنيست أحمد الطّيبي وعضو الكنيست طالب صنعاء عرضا ذلك عليّ ورفضت. عندما أنهيت ولايتي لرئاسة مجلس كفر برا وحتّى وفاة معاذ كنت شديد الكسل. كلّ شيء سار بهدوء وببطئٍ نسبيّ مقارنة بما كنت عليه، وشعرت أنّني متقاعد يملك الوقت كلّه ولا حاجة للإسراع إلى أيّ مكان.
عند مقتل معاذ، تغيّرت الأمور. أدركت فجأة أنّ الوقت ليس منتجًا لانهائيًا. شعرت أنّني أحمل رسالة جماهيريّة، فانخرطت في العمل الجماهيريّ بحماس وقوّة شديدة أكثر من السّابق. فترة طويلة بعد تلك المأساة كنت منطويًا، بقيت حبيس البيت، حتّى أدركت أنّ هذه ليست الطّريق السّليمة، وأنّه يجب القيام بشيء ما، المبادرة لشيء ما. خرجت من البيت، انفتحت على النّاس مرّة أخرى وأصبحت أكثر نشاطًا. أشارك أكثر في كلّ شيء وأغادر المنزل على الرّغم من الصّعوبة الكبيرة. في مرحلة ما أدركت أنّني أنا فقط يمكنني الاعتناء بنفسي وبأسرتي، وقرّرت عدم السّماح لهم بالانهيار والانكسار.
فاطمة، والّتي كانت نشطة أيضًا طوال حياتها، أغلقت البيت على نفسها لفترة من الوقت بعد تلك المأساة. لكنّها أدركت بعد فترة قصيرة مثلي أنّنا يجب أن نتصرّف، وهي اليوم ناشطة في نادي المرأة المسلمة في القرية. عَمِلَ النّادي لسنوات عديدة لكنّه لم يكن مهيمنًا، أعادت فاطمة بناءه واليوم يتمتّع النّادي بنشاط كبير وحيويّة، أبناؤنا يشاركون بنشاطات النّادي، يُكرّسون لذلك الكثير من الوقت، وكلّ شيء بالتّطوّع. فنحن نكرّس كلّ هذا لروح ابننا المرحوم معاذ. استعدنا قوّتنا ونشاطنا من أجل أرواحنا ومن أجل روحه. إذا أراد الله لي مواصلة الحياة، فسوف أكون بعد بضع سنين في مكان جيّد، ولكنّني لا أعرف أين.
معاذ هو اسم عربيّ إسلاميّ تقليديّ لأحد الصّحابة المقرّبين من النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. كان معاذ أوّل طفل في كفر برا يسمّى بهذا الاسم. حتّى ذلك الحين لم يكن من المعتاد استخدام مثل هذه الأسماء للأطفال، أي أسماء ذات طابع دينيّ. فقط بعد أن أدرك مجتمعنا ضرورة تعزيز تراثه وتاريخه بدأ استخدام هذه الأسماء والعودة إلى الأسماء العربيّة التّقليديّة والتّاريخيّة. كنّا أوّل من استخدم هذه الأسماء. ابنتي رفيدة هي على اسم أوّل طبيبة في الإسلام، الصّحابيّة رفيدة الأسلميّة الّتي عالجت الجرحى، وكانت ترافق المسلمين في معاركهم. ابنتي رفيدة هي صيدلانيّة.
كان معاذ يرافقني في الكثير من المناسبات. فمنذ كان طفلًا كنت آخذه معي إلى العديد من الأماكن. في بداية تسعينيّات القرن الماضي رافقني معاذ إلى قيسارية. ذهبنا للتّظاهر بجانب مسجد قيسارية ضدّ تحويله إلى مطعم باسم “تشارلي”. كان هناك نحو ألفي متظاهر. كانت تلك من أهمّ المظاهرات، فهذه أوّل مرّة يتظاهر فيها المواطنون العرب في إسرائيل منذ 1948 بخصوص المساجد. كان هناك أيضًا الشّيخ رائد صلاح رئيس بلديّة أمّ الفحم ورئيس بلديّة رهط بدأنا الصّلاة؛ فخرج إلينا صاحب المطعم. قلنا له “هذا مسجد”، فقال: “أحترم ذلك، لكنّني حصلت على المكان من سلطة الحدائق الوطنيّة، تحدّثت معهم، ماذا تريدون مني؟”. وصلت الشّرطة وانتهت المظاهرة.


مع نهاية المظاهرة، وعندما غادر الجميع، أخذت بيد معاذ وأخذنا نتنزّه في المنطقة. في طريقنا التقينا برئيس بلديّة الطّيبة سابقًا، المرحوم رفيق الحاجّ يحيى. كان رجلًا قامته طويلة، أكثر من متر وتسعين، وكان هزيلًا. نظرنا إلى معاذ من أعلى وسألني: “كامل، من هذا الطّفل؟”. فقلت له: “ابني معاذ، خدّامك”. نظر معاذ إليّ وإلى رفيق وقال: “كلّا. أنا لست خدّامه، لن أكون خدّامه”. نظر رفيق إليّ وقال: “ابنك وقح، كيف يتحدّث هكذا”، فقلت: “غير مقبول عليّ ما قاله، لكن هكذا هم أبناء هذا الجيل”. رفيق نظر إلى معاذ وقال له: “أنت ولد صغير ووقح، سوف تجلب الكثير من المشاكل لوالدك”. نظر معاذ إلى رفيق من تحت إلى أعلى وقال له: “كلّ طويل لا يخلو من الهبل”. كان معاذ في الصّفّ الثّالث في حينه، رفيق شعر بالإهانة وقال لي: “لا أريد التّعامل مع ابنك. هذا يكفي”.
في بعض مزاياه كان معاذ يشبهني وفي الأخرى كان أقرب أكثر إلى والدته. كان مختلفًا عن إخوته. كان صبيًّا عصاميًّا على عكس إخوته الأصغر. لم يفكّر في التّعليم العالي. كان يحلم بتأسيس عمل مستقلّ له. معاذ هو ابني البكر. كان رقيق القلب حسّاس للآخرين. في أحد الأيّام عدت إلى البيت فرأيت على الطّاولة كمّيّة كبيرة من الزّعتر، الدّقّة كما نقول في بلدنا. كان هناك نحو عشرين كيلوغرامًا من الزّعتر. سألت فاطمة عن الأمر، فقالت لي: “اسأل ابنك”. سألت معاذ: “ما هذا يا معاذ، هل بدأت تتاجر بالزّعتر؟”. فقال لي بهدوء تامّ: “كانت امرأة مسنّة من الضّفّة تجرّ عربة وفيها كلّ هذه الكمّيّة من الزّعتر. سألتها من أين هي، فقالت إنّها من عزون بجانب قلقيلية. قالت لي: “جئت أبيع الزّعتر هنا. اِشتر منّي”. عندها بدأت أفكّر أنّ والدتي تنام الآن في السّرير في بيتها وهذه المسنّة تبيع الزّعتر؟ فأخذت كلّ ما كان لديها في العربة، دفعت لها مقابل الزّعتر، وزّعت البعض على أصدقائي، وها هي البقيّة”. عندما دخل معاذ البيت يحمل كلّ هذه الكميّة من الزّعتر وسألته والدته عن الأمر، قال لها: “لديك زعتر لكلّ السّنة. لا يجوز أن تتجوّل هذه المرأة المسنّة كلّ اليوم تبيع الزّعتر وأنت مرتاحة في سريرك”. انفعلت فاطمة كثيرًا وباركت له ما قام به من فعل، وباركت له أنا أيضًا.
كان معاذ يتمتّع بحسّ رفيع وحساسيّة عالية تجاه الآخرين، مهتمًّا بأصدقائه. كان دائمًا على استعداد للدّفع من أمواله لأهداف خيريّة. في يوم قامت الشّرطة بتوقيفه بسبب صديقه. أحدهم حاول الاعتداء على صديقه، وبالنّسبة له كان هذا خطّ أحمر لا يسمح لأحد بتجاوزه. تدخّل في الشّجار بينهما ولذلك تمّ اعتقاله بتهمة العنف. بعد بضعة أيّام جاء إليّ صاحب دكّان في البلد وقال لي: “كامل، أريد أن تدفع لي ستّمئة شاقل”. سألته عن السّبب، فقال لي: هناك ثلاثة أطفال تركهم والدهم. الأمّ قُتلت في قلقيلية، وهم أيتام الآن، لا أب ولا أمّ. وضعهم صعب للغاية”. فسألته: “وما علاقتي أنا بالموضوع؟”. فقال: “في رمضان وفي عيد الأضحى، يأتي معاذ مع هؤلاء الأطفال سرًّا ويشتري لهم الملابس والكتب”. موعد العيد اقترب، وصاحب الدّكّان اِعتقد أنّ معاذ سيكون معتقلًا لفترة طويلة؛ لذلك طلب منّي مواصلة العمل الّذي بدأه معاذ. انفعلت كثيرًا لهذه الشّهامة. بعد اغتياله سمعت الكثير من الأصدقاء والجيران يتحدّثون عن أفعال الخير الّتي كان يقوم بها، وعن الكثير من القصص الإنسانيّة. هذا العمل الخيريّ بالسّرّ من أجل المحتاجين ساعدنا بشكل كبير على تجاوز محنة الفقدان والمأساة الّتي عصفت بنا.

 

تقول هبه تايه بحسرة وألم وهي تتذكر اخاها عبد اللطيف والدموع في عينيها

مسا الخير،تفكريش باني قرات ونا التفتت بالعكس …كنت شوي تعبانة وضعف دم ….المهم هلق صفاته بعيوني وصفاته اللي اكتشفتها بعد مماته من الاخرين….


بعيوني:ازعري الحلو،حنون،عطوف،صاحب مزح ومزاج،بحب الضحك واهم شي ضحكة امي وابوي وضحكتي واخوتي 💔😭غني النفس يعطينااا ما لا يملك بشتري لابوي اي شغلة ممكن يحس انها بتساعده بصحته (מכשירי ספורט,دراجات ب٣عجلات ،دراجات كهربائية…)
امي امنياتها لو سرا بعرف يكتشفهن وبجيبهن ادوات كهربائية…فرن …فريزة…الخ
تخوت لراحتنا….. لما توفى كان مبلش شيبوتس لكل البيت وزادت حتى الورد الطبيعي وابواب الغرف والتخوت القديمة💔💔😭😭كملناه بعد موته بسنة بالزبط😣😣
معاملته معي فش اطيب وفش احن كان مسميني “بقرتي الجميلة”🤣💔😣اهم شي كان يجمعناا لحظات لما يحط راسه بحضني ويحكيلي نظفيلي وجهي خسارة اكسب الحلاقين😟💔شديد الدلع لما يسخن كل الحارة والبلد تعرف من زناخته😖😢💔رفيقه المفضل خالي،الله يرحمهم اتوفى خالي قبل شهرين💔💔هواياته المفضلة:اللغة العربية وقواعدها خصوصا الاعراب
كرة القدم وكان رح يمتهنها رسمياا ولكن للقدر خطط اخرى….
البحر والشوي والموسيقى…..
كان عازف نخب اول بالدربكة(كلنا بنعزف على عدة الات…كنا عائلة بندلي💔)
تعامله مع نسوان اخوتي زي تعامله معي بالزبط….مع اولاد اخوتي (ارفقتلك صورة قبل مماته بكم يوم ،طبعا انا المصورة وهون انا بيومها حسيت بهموم عيونه وعرفت انه عم بودعهم💔😭)عيونه العسليات ورموشه المقفوعة كانوا ذبلانين…..حفيدنا الاول تخرج للاعدادي بامتياز بس باول فصل هناك نزل مستواه جدا…انتبه عبداللطيف الله يرحمه لهالنقطة بس ما بهدله ولا حكاله شي…بعد اسبوع جابله هدية دراجة هوائية بوقتها كانت7000اذا ما خانتني الذاكرة وحطه قدام باب غرفته وناداه وحكاله بالحرف الواحد”هذا البسكليت الك.بس مش لهسة لانه شهادتك مش منيحة ،بضل واقف هون ومفتاحه عندي بغرفتي للفصل الجاي،بتجيب شهادتك كلهاااا 100هياتك اخذته بتجيبهاش رح انقي اكثر حدى انت بتحبوش واعطيه اياه….وفعلا الفصل اللي وراه جاب كل شهادته 100واخذه❤💔🤦‍♀️🥺ابن اخوي الثاني ،بكر بيتهم اصغر باربع سنين بس غار كمان راح شراله واحد وحطه بغرفته (غرفة عبد،عنا بالبيت)وحكاله هذا الك اذا الصف الجاي بتجيب كلها 100,انقتل قبل ما تيجي الشهادة💔🥺واالبسكليت بعده بغرفته بزروفه ومغطى لانه اخوي الصغير رافض رفضااا تاما انه حدى يلمسوا(ملاحظة:اخوي الصغير ترك غرفته واخذ غرفة عبد رغم انها اقدم من غرفته💔😭😭اخذ فرشته واشيائه كلها موجودة هناك بس اواعيه عندي عشان اضل اشمشم فيهن).
بالنسبة للاصدقاء كان احلى صديق لو ما معه يدخن وحدى يحتاجه بيخلقلوا من تحت الارض…
بالنسبة لجنس حوا…حب مرة وحدة بحياته بنت صفه بس اتزوجت ابن عمها بدري وما صرلهم نصيب وما حب غيرهااا💔وكل ما كانت تحكيلوا يلا اخطب يحكيلها ناطرك لتطلقي وبربيلك ولادك😭😖💔💔بطلت تمرق من شارعنا مش مستوعبة فكرت موته💔
ستااار ،اي وحدة كنت عوشك فضيحة لا سمح الله او حدى مهددها بشي وبدهاش اهلها يعرفوا دغري تيجي لعنده ويسترهااا ،الله يستره بجناين نعيمه ياارب😍
بعد وفاته اكتشفت من كلام الناس قديش كاين خدوم ،مستحيل يمرق عن وحدة بحاجة مساعدة وما يساعدها اللي رنتلي وحكتلي واللي اجت مخصوص…….الحمدلله عكل شيء
انا الصراحة كنت مفكرته ازعر بوقاحة بس اكتشفت انه زي ما عاهدته طيب جوا وبرا ابو الهوندا الخضراا💔😭💔😭💔😭لله درة روحك ومبسمك يا روحي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق