مقالات
رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة، عنوان السلسلة: * التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟ 9-12
* عنوان المقالة: "الاستقرار النفسي في خطر: حين تصبح شاشة الجوال مصدر كل المشاعر " (9)

* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد
– في زمنٍ لم تعد فيه المشاعر تنبع من التجربة المباشرة، بل من إشعارٍ يظهر على شاشة، أو مقطعٍ عابرٍ في تطبيق، باتت الهواتف الذكية أكثر من أدواتٍ للتواصل أو مصادرٍ للمعرفة، إنها مصانع مشاعر يومية، تصوغ الحزن والفرح، الغضب والطمأنينة، دون استئذان منّا، ودون سياقٍ نختاره بوعينا.
– لقد انزلقت مشاعرنا في متاهة الشاشات، حيث اللايقين هو القاعدة، والانفعال هو النتيجة الدائمة، نفتح هواتفنا بحثًا عن “شيء”، فلا نعرف أهو خبر جيد؟ أم مشهد مزعج؟ أم تعليق ساخر؟ نُقلب بين التطبيقات كما يقلب المرء بين طبولٍ تُقرع وأجراس تُدق، دون ترتيب أو عقل.
* الانفعالات السريعة: قنابل صغيرة تنفجر كل ساعة
– ما من لحظة هدوءٍ إلا وتكسرها إشعارات لا تنتهي، إشعار من تطبيق أخبار ينذر بكارثة جديدة، إشعار من تيك توك أو إنستغرام يحمل مقطع فيديو غريبًا يثير السخرية أو الرعب أو الغضب، إشعار من محادثة يحرّك فيك شكًّا أو شوقًا أو توترًا، وكأنك مُلقىً في حقل ألغام عاطفي، لا تدري متى ينفجر فيك شعورٌ ما، ولا تملك أن تُطفئه.
– إنها مشاعر “مُعدّلة رقميًا” لا ترتبط بتجربة واقعية عشتها، بل بمحتوى اختاره لك خوارزمي ذكي، يعرف نقاط ضعفك أكثر مما تعرفها أنت، كل شيء مصمم لإثارتك، لا لتفهم، لا لتتأمل، بل لتشعر… وتشعر فقط.
* الخطر الأكبر: غياب المصدر الحقيقي للمشاعر
– كان الإنسان سابقًا يشعر لأنه يمر بتجربة، يحزن لفقد، يفرح بلقاء، يغضب من ظلمٍ عاشه، يبتسم لموقفٍ حقيقي، أما الآن، فقد بدأت تتلاشى هذه العلاقة بين التجربة والمشاعر، صار الهاتف هو التجربة، وصار ما يُعرض فيه هو ما يُقرر مشاعرك.
– طفل يُستشهد في مقطعٍ على فيسبوك، فتذرف دمعتك للحظة، ثم يُظهر لك التطبيق مشهدًا مضحكًا عن “تريند جديد”، فتضحك رغمًا عنك، وقد نسيت الطفل،
هذا التقلّب العاطفي المستمر ليس أمرًا طبيعيًا، إنه ينهك الجهاز العصبي، ويُضعف الذاكرة العاطفية، في كل لحظة، يتراكض القلب والعقل خلف شعور جديد، دون أن يُغلق الباب جيدًا على الشعور السابق.
* مشاعر بلا عمق… وحياة بلا استقرار
– حين تصبح المشاعر سريعة الزوال، وتأتيك من شاشة لا من واقع، فإن الاستقرار النفسي يتحول إلى حلم بعيد، كيف يمكن لإنسان أن يشعر بالأمان، وهو لا يعرف أي شعور سيغزوه بعد دقيقة؟ كيف له أن يبني رأيًا أو موقفًا أو قناعة، وهو رهينة مزاج منصّةٍ ما؟
– لقد أصبح الهاتف “المُربّي العاطفي” الأبرز في عصرنا، يؤثر على الطفل واليافع والبالغ، وقد تنتبه الأم إلى سلوك ابنها المضطرب، أو الشاب إلى اكتئابه المتكرر، لكن القليل فقط من يسأل نفسه: هل مصدر ذلك هو هذه الشاشة الصغيرة التي لا تفارقني؟
* استعادة السيطرة: مقاومة تيه المشاعر
– ما الحل إذًا؟ هل نكسر هواتفنا؟ بالطبع لا، لكننا بحاجة لإعادة توزيع الأدوار، يجب أن نستعيد مشاعرنا من يد الخوارزميات، أن نجعل الواقع أسبق في التأثير، وأن نعود إلى لحظة التأمل قبل التفاعل.
– الخطوة الأولى هي أن نقرر: لن أفتح هاتفي في أول ساعة من يومي، سأمنح نفسي وقتًا لأشعر بالحياة من حولي، لا من شاشة باردة، ثم نبدأ باختيار ما نراه، لا أن نستسلم لما يُعرض علينا.
– وفي الختام: يبقى الحديث النبوي ضوءًا ينير هذا التيه: “من أصبح منكم آمِنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.”
– أليس هذا هو الاستقرار النفسي الذي نبحث عنه؟ أم نفضّله مؤجَّلًا، مؤقّتًا، ومُشوَّشًا في شاشة جوال؟ .. ولكم مني أجمل تحيةً وسلام
* وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: ” نحو نجاة رقمية: كيف نبني وعياً يُميز، ويقي، ويُعيد ترتيب الأولويات؟ ”
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1938)
* 24. شوال . 1446 هـ
* ألثلاثاء. 22.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
رؤية 10
* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* عنوان المقالة: “حين تُصبح الموعظة لحظة عابرة والرقص محتوى دائم: كيف يختل ميزان القيم؟” (10)
– في زمنٍ تداخل فيه الجد بالهزل، وضاعت فيه ملامح الوقار بين زحام المشاهد السريعة، أصبحنا نعيش حالة فريدة من انقلاب الموازين، لم تعد الموعظة تُصغي لها الآذان، ولا النصيحة تُحرّك القلوب، بينما يَجد الرقص وغيره طريقه إلى العقول والقلوب عبر الشاشات الصغيرة، فتُعاد مشاهدته آلاف المرات، يُعلّق عليه، يُصفّق له، ويُروّج له وكأنه الحقيقة الجديدة.
* فهل يُعقل أن تتحوّل رسالة الحياة من بناء إلى ترفيه، ومن تذكير إلى استهلاك؟
– إننا نعيش في عالم لا يُروّج فقط للفكرة، بل يُبرمِج الحواس لتلتقط ما هو أسرع، أبهى، وأخفّ، فأمام مقاطع الموعظة التي لا تتجاوز الدقيقتين، يظهر مشهد راقص، ملون، معدّ بعناية ليخطف الانتباه، يسرق الوقت، ويُبرمِج الذوق العام على ما يُسمّى: “الخفيف الظريف”، وهنا، لا تضعف الموعظة فقط، بل تُصبح غريبة على السياق، دخيلة على العادة، ثقلًا على “الترند”.
* إن اختلال ميزان القيم يبدأ من لحظة نُبدّل فيها الثوابت بمتغيّرات مزاجية، ونُقايض العمق بالسطحية، ونتخلى عن المعنى لصالح التأثير المؤقت.
– أطفالنا اليوم يُشاهدون، يُقلدون، يُعيدون الإنتاج، لم يعد المشهد مقتصرًا على التلقي السلبي، بل أصبحوا صُنّاعًا للتيه، مشاركين في صناعة الفراغ، فهل نلومهم أم نلوم السياق؟ هل نسائلهم أم نُحاسب المنصّات التي اختارت أن تُعلّمهم أن الحياة لحظة هزل لا تُؤخذ على محمل الجد؟
* الخلل الحقيقي ليس في أن يُفضّل البعض الرقص على الموعظة، بل في أن يتحوّل هذا التفضيل إلى معيار، وإلى “نظام ذوقي” يحكم على من يخالفه بأنه جامد، تقليدي، غير مواكب لتطورات العصر.
– أخي القارئ، لسنا ضد الفرح، ولا الجمال، ولا حتى الفن بمعناه النقي، لكننا نرفض أن يُختزل الإنسان إلى جسد يُحرّك، لا عقل يُفكر، ولا روح تُغذّى، نرفض أن تُصبح الذاكرة الجمعية لأمة كانت تقود العالم بالعلم والقيم، حبيسة ضحكاتٍ فارغة، وتحديات راقصة، وتفاهات متكررة.
* لكن الأخطر من كل ذلك أن يتحوّل المحتوى السطحي إلى مرجعية شعورية، فيتعوّد المتابع على التفاعل مع السطح، ويتبلّد إحساسه تجاه العمق، لم نعد نحزن لحال فقير، أو نرتجف لسماع آية، لكننا نضحك من زلّة، ويُرقَص مع نغمة، هذه ليست مجرد تحولات ذوقية، بل زلازلَ تربوية تمسّ وجدان الجيل، وحين يعتاد القلب على الضجيج، يغدو الصمت الذي تحمله الموعظة ثقيلًا لا يُحتمل، فهل نقبل أن نُعيد تشكيل ذوقنا ليتماشى مع التيه؟ أم نعيد التيه إلى حجمه الطبيعي، مجرد ضيف لا يُقيم فينا؟
– إن ميزان القيم لا يختل دفعة واحدة، بل يُسرق جرامًا بعد جرام، يبدأ بالاستهانة بالكلمة، ثم الاستخفاف بالقيمة، ثم ينتهي بإعادة تعريف ما هو “حق” وما هو “باطل” حسب منطق الترند والتفاعل.
* وهنا نُطلق السؤال الأخطر: هل نُربّي أجيالنا ليكونوا منسجمين مع التيار، أم قادرين على السباحة عكسه حين يتطلب الأمر؟
– قد تُهاجَم هذه الكلمات، وقد يُقال إنها “ثقيلة”، لكنها أيها الأحبة هي الحقّْ، لأن ما يُبنى على المجاملات ينهار، وما يُزرع في القلب من صدقٍ وصحوة، يُثمر وإن تأخر الحصاد.
– فلنعد صياغة الذوق، لنُعيد هيبة الموعظة، لنحمل الضوء وسط هذا الزحام الرقمي، فالعتمة لا تُهزم إلا بمن يُؤمن أن النور وإن خفت، لا يموت… ولكم مني أجمل التحايا والسلام
* وأما عنوان المقالة الأخيرة في هذه السلسلة صبيحة الغد بمشيئة الله تعالى فهو:” بين القرآن والمشاهد الفاضحة: انهيار الحاجز الأخلاقي في تجربة المشاهدة الرقمية”
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1940)
* 26. شوال . 1446 هـ
* ألخميس. 24.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
!
رؤية 11
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* عنوان المقالة: نحو نجاة رقمية: كيف نبني وعياً يُميز، ويقي، ويُعيد ترتيب الأولويات؟
– في زمنٍ باتت فيه الشاشة تُربّي، والمنصّة تُعلّم، والنقرة تُقرّر… لم يعد السؤال: “هل نتأثر؟”، بل أصبح: “كيف نحتمي؟ وكيف نُميّز؟ وكيف ننجو؟”.
إننا في زمن التيه الرقمي، لا نضيع فقط في بحرٍ من المعلومات، بل نُغرَق في سيلٍ من المشاعر المصطنعة، والأولويات المقلوبة، والتشتت العاطفي والفكري.
أولًا: الوعي المُمَيِّز: هل ترى أم تُستدرَج؟
– في العالم الرقمي، المحتوى لا يُعرض عليك فحسب، بل يُفصَّل وفق مزاجك، شهواتك، ولحظات ضعفك، نحن لا نتصفح فحسب، بل نُصفَّح.
* الوعي المميز هو تلك القدرة على إدراك:
• من الذي صنع هذا المحتوى؟
• لأي غاية؟
• ماذا يريد أن أشعر؟ وماذا يريد أن أفعل بعده؟
فمن لا يملك وعيًا يميّز، ستملكه الخوارزميات وتُعيد تشكيل مزاجه، اهتماماته، وحتى قيمه.
ثانيًا: الوعي الواقي: مناعة رقمية أم هشاشة فكرية؟
– هل لدينا “جهاز مناعي فكري” يحمينا من فيروس الشهرة السطحية، ووباء التقليد الأعمى، وعدوى السخرية من القيم؟
* الوعي الواقي لا يُبنى في لحظة، بل عبر:
• تغذية إيمانية راسخة، تُذكّرك بمن أنت، ولماذا خُلقت.
• وعي إعلامي ناقد، يُفرّق بين “المؤثر” و”المُضلِّل”.
• وارتباط بمصدرٍ نقيّ يُذكّرك بالأصل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ (الذاريات: 50)
– الوعي الواقي هو أن تقول: لا، حين يركض الجميع وراء “الترند”، وهو أن تَسْكن حين يُستفَزّ الجميع، وهو أن تُطفيء الهاتف لتصلي ركعتين.
ثالثًا: إعادة ترتيب الأولويات: من أنت خارج الشاشة؟
حين يضيع الإنسان في الدوامة، يُصبح الهاتف وطنًا، والمنصة هويّة، والإعجاب غاية.
هنا، لا بد من ثورة داخلية تُعيد ترتيب الأسئلة:
• من أنا دون هاتفي؟
• ماذا سأخسر إن لم أكن حاضرًا في كل “ترند”؟
• هل أولويتي هي رضا المتابعين أم رضا ربّ العالمين؟
– من يملك وعيًا يُعيد ترتيب الأولويات سيعود من هذا التيه، أكثر صفاءً، أكثر حضورًا، أكثر حرية.
* النجاة ليست في الانعزال، بل في البصيرة.
ليست في الهروب، بل في المواجهة.
ليست في السكون، بل في صناعة أثر راشد، ونموذج رقمي نقيّ.
– فلنُربِّ أبناءنا على أن لا يلهثوا خلف كل ضوء، وأن لا يتبعوا كل صوت.
ولنعلِّمهم أن القلوب لا تُقاس بعدد المتابعين، بل بصفاء السريرة وصدق الاتجاه.
رابعًا: تأملات في الرقمية: هل فقدنا الإنسانية؟
– في عصرنا الرقمي، أصبحنا نعيش في دوامة من التنبيهات والإشعارات، مما يجعلنا نعتقد أن حياتنا تكتسب معنى من خلال ما نشاركه أو نتابعه على الشاشات، لكن هل حقًا أصبحت هذه التفاعلات الرقمية بديلاً عن التفاعلات الإنسانية العميقة؟
الإنسانية ليست في الأرقام التي تملأ شاشاتنا، ولا في التصفيقات التي نحصل عليها من الآلاف من المتابعين، بل في القدرة على التواصل الحقيقي، والإحساس بآلام الآخرين، ورؤية الأشياء من منظور أعمق.
– علينا أن نتوقف قليلاً في زحمة هذا العالم الرقمي لنستعيد إنسانيتنا، لنعلم أن وجودنا لا يُقاس بعدد الإعجابات أو التعليقات، بل في تلك اللحظات التي نعيشها بعيدًا عن الشاشة، والتي تُظهر لنا أننا ما زلنا بشرًا.
– لنحافظ على توازننا، ولنعلم أن التكنولوجيا يجب أن تكون أداة لخدمتنا، لا لتغرقنا في بحرٍ من الإدمان واهتزاز القيم.. ولكم مني أجمل التحايا والسلام
* وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: “حين تُصبح الموعظة لحظة عابرة والرقص محتوى دائم: كيف يختل ميزان القيم؟ ”
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1939)
* 25. شوال . 1446 هـ
* ألأربعاء. 23.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
رؤية 12
* المقالة الأخيرة في السلسلة وعنوانها:
* بين القرآن والمشاهد الفاضحة: انهيار الحاجز الأخلاقي في تجربة المشاهدة الرقمية (12)
* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
– في زمنٍ تتزاحم فيه الصّوَر، وتختلط القِيَم، يُدفع الإنسان إلى شاشته كما يُدفع الماء إلى مستقره، لا يسأل إلى أين، ولا بمَ يعود، وبينما كان القرآن الكريم يعلّمنا أن البصر أمانة، وأن العفاف درب من دروب النقاء ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ (النور: 30)، صرنا اليوم نعيش انفلاتًا بصريًا لم تعرفه البشرية من قبل، حيث انكسر الحاجز الأخلاقي في تجربة المشاهدة، ولم يعد القلب يستنكر، ولا العين تستحي.
– أصبحت التجربة الرقمية مشهدًا مفتوحًا، يُعرض فيه الفجور مزينًا، وتُبث فيه الفاحشة مغلّفة بالإبداع ويسمى بالفنّ، صار المُتَلَقِّي يمضي من مشهد فاضح إلى آخر كأنما يسير على خيطٍ من الحرير، لا يكاد يشعر بوطأة السقوط الأخلاقي الذي يتعرض له، وليس غريبًا أن يحذّرنا القرآن من الانسياق وراء خطوات الشيطان، تلك التي تبدأ بنظرة، ثم إعجاب، ثم استسلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ (النور: 21).
– ما يحدث اليوم ليس فقط زوال الحياء، بل إعادة تشكيل مفاهيمنا من الداخل، حيث تتحوّل الفاحشة إلى شيء عادي، مألوف، بل جذّاب أحيانًا تحت غطاء “الفن” و”الحرية” -كما ذكرت- وهذا تمامًا ما حذّر منه القرآن، حين قرن مسؤولية الإنسان عن بصره وفؤاده: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ (الإسراء: 36).
– ولعل أخطر ما في هذه المشاهدة الرقمية، أنها لا تستأذن، بل تدخل غرفنا، وجيوبنا، وسرائرنا، وتزرع فينا ما لم نُرِد، تتسلل إلى وعينا ونحن نظن أننا نتحكم بها، وهي في الحقيقة تعيد تشكيل أذواقنا ومشاعرنا وقيمنا، ومع التكرار، تُستهلك الفاحشة كما يُستهلك الخبز، وتفقد النفس قدرتها على الإنكار. قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 27).
ولعل من أعظم ما يُربّى عليه الجيل اليوم، أن يفهم معنى “غض البصر” لا كتكليف ثقيل، بل كصيانة للروح، وكحماية للجمال الإنساني من الابتذال، فحين تُنتهك الخصوصية البصرية، يُنهك معها القلب، ويضطرب ميزان المشاعر، وتبهت القداسة في العلاقات، وإن التربية الإيمانية ليست فقط حفظ آية، بل استحضارها في لحظة التحدي، أن يسمع الشاب همس قلبه يقول له: “الله ينظر”، فيغضّ طرفه، لا خوفًا فقط، بل حبًا لله، وحياءً منه، إن مشهدًا فاضحًا يُغلق في لحظة وعي، قد يرفع الإنسان في ميزان الصالحين، ومشهدًا يُستسلم له قد يفتح أبوابًا من التبلّد والانحدار.
– لسنا ضد التقنية، ولا ندعو لهجر المنصات الرقمية، بل ندعو لليقظة والوعي، أن ندخل هذا الفضاء بضمير حي، ونُحصّن بصرنا بنيّة طيبة، ونربّي أبناءنا على أن البصر مسؤولية، لا رغبة طليقة، أن يكون لكل مشاهدة غاية، ولكل وقفة أمام الشاشة معيار.
– في زمن التيه الرقمي، لا بد من العودة إلى الكلمة التي لا تُعرض بل تُتلى، إلى القرآن، حيث تبدأ العفة من نية، وتتجسد في نظرة، وتُصان بسلوك، وبين هذا النور، وذلك الظلام المتكاثر على الشاشة، يُختبر الإنسان: أيختار طريق الحياء… أم ينساق في موج العُري الملوّن بلا قاع؟
* خاتمة المقالة
– في زمن التيه الرقمي، لا بد من العودة إلى الكلمة التي لا تُعرض بل تُتلى، إلى القرآن، حيث تبدأ العفة من نية، وتتجسد في نظرة، وتُصان بسلوك. وبين هذا النور، وذلك الظلام المتكاثر على الشاشة، يُختبر الإنسان: هل سيختار طريق الحياء، ليغلق الباب أمام الفواحش؟ أم سيغرق في الموج العارم، يعتقد أنه قادر على السباحة، دون أن يدرك أن قاعه مملوءٌ بالوحل؟ فالتحدي اليوم ليس في مواجهة الشاشات، بل في أن نثبت قدرتنا على اختيار النور، حتى وإن كان خافتًا، في عالمٍ يصرخ فينا ظلامًا… ولكم مني التحية والمودة والاحترام
*ترقبوا سلسلة جيدة تبدأ من صبيحة الغد مع المشيئة
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين. جمعة مباركة
* مقالة رقم: (1941)
* 27. شوال . 1446 هـ
* ألجمعة. 25.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)