مقالات

الدّرْبُز”المُطَهِّر”… مِهَنٌ تتلاشى: صادق حسن شلبي”أبو حسني” 1917م

في آخر لقاءٍ مسجلٍ مع أبي حسني في بيته يوم الأربعاء، السادس من أيار للعام2020م، الموافق الثالث عشر من رمضان للعام 1441هج، وقد سبقه لقاءٌ آخر في 30/11/2016م، يقول أبو حسني: أخذت عائلتنا لقب شلبي من جدي الذي امتهن الحلاقة؛ أي المُزَيِّن، وكنت أنا وأخي نافع نعمل بتلك المهنة، ولفترةٍ طويلةٍ ظلَّ أخي يمارسها، فيما تعلمت أنا الطهور(الختان) بالمشاهدة من أبي. كان الختان الأخير الذي أحضرة متعلماً، لطفلٍ من الساخنة، غرب بيْسان، نظرتُ بإمعانٍ، وتعزز لديّ كيف تتم العملية، فودّعت المشاهدة، واشتريت العدة اللازمة، وقمت بأولِ ختانٍ عام1935م لطفلٍ هو أخي نافع.
عملت طيلة 80عاما في تلك المهنة في محافظة جنين، والناصرة والجليل وصولاً إلى الأردن حتى الكويت. لم أتوقف عن الذهاب بنفسي إلى البيوت إلا بعد أن مرضت عام 2015م، فكان يأتي ذوو الأبناء بهم إلى بيتي في جنين، فأقوم بطهورهم.
كان يصاحب الختان في العادة احتفالاتٌ متفاوتة، وله نكهةٌ خاصة عند البدو، فيبدو كأنه عرس، يُعدون الطعام، ويقيمون سباقات الخيل، ويغنونون. لم يكن للختان أجر محدد ، بل هي إكرامية يقدمها ذوو الطفل، تصل إلى حد الذبيحة، ويصاحبها في الغالب علبة حلوى من السلفانا اللذيذة التي دام انتاجها حتى منتصف التسعينات.
لم يتعلم أحد من أبنائي وأحفادي تلك المهنة، ولا مهنة الحلاقة أيضا. وبهذا انقطعت تلك المهنتانِ في البيتين بعد عمر جاوز المئة عام من الإحتراف، ولا تزال تلك العدة محفوظة كتراثٍ مهنيٍ، كان جزءاً من حياة الناس وأفراحهم.
كان حسن الشلبي المعلم لأبنائه، وبالإضافة إلى تلك الحرفتين، علّمَهم أن يعالجوا الاضطرابات المعوية بالخروع. وبالشِّجيرة”الميرمية”، والزعيتمانة يداوون المغص. وأما الجروح فيستخدمون لها لبن السِّنارية. ويقول: من كان يعاني من الإمساك نطعمه لقمة خبز عليها نقطة واحدة من جذر نبتة “الحلبلوب” وتُمْعك/ تفرك بالسكر، فيصيبه الإسهال بسرعة، وبنفس السرعة نوقفه بملعقة لبن.
وفي حديثه عن المِّجَدَّعةِ في غوْر بيْسان قال: كنا ملاكين كغيرنا من أهالي جلبون، ولنا بستان ما زال الناس يذكرونه. وبعد الإنتهاء من جنيِ الموسم الزراعي، كنت أذهب للعمل في يافا، و حين اندلعت الصدامات بين اليهود وعمال البرتقال في البيارات عدت إلى جلبون. لم أكن مع الثوار في عام 1936م، ولكنني أذكر تماماً إخلاء جلبون والرحيل منها بأمرٍ من قيادة الإنتداب البريطاني؛ تمهيداً لقصفها وهدمها، فرحلنا إلى قرية “ديرأبي ضعيف”، ونزلنا عند أسرةِ امرأةٍ عالجها أبي و “خاواها”، وتدعى أمينة مصطفى. مكثنا ثلاثة أيام إلى سبعة، وعدنا إلى جلبون بعد أن ألغى الانتداب أمر الهدم، وفي طريق عودتنا إلى بيتنا، وقريباً من الشيخ”غُشُم” مالت ستي عن الطريق، وأخرجت بقلولة زبدة كانت قد دفنتها أثناء هروبنا.
أُعتقلت أبّان الانتداب البريطاني، وفي طريقنا ليلاً إلى سجن عكا-وكان معنا الشاعر الشعبي عبداللطيف العجاوي- قلت له غَنّي، فأخذ يحدو وأردد معه، ولما دخلنا السجن، استقبلتنا عبارة على الجدار:”الداخل مفقود والخارج مولود”. أخذت أحلق للمعتقلين في البركسات الثلاثة الموجودة، وتوطدت علاقتي مع المعتقل فخري من السيلة الحارثية، وحين خرج من السجن، ذهب إلى فايز الحاج محمد وأخبره أن صادقاً معتقل، ويطالبونه ببارودة لا يملكها -وكنت أكرم فايزاً أثناء الثورة- فلم ينسها لي، فأُفرج عني بعد تسعة شهور.
وكان لصادق الفضل في منع الأطباء في مشفى جنين الحكومي من بتر رجل محمود راغب “أبومصطفى” إثر إصابته بصليتين في القدم وأسفل الحوض من قِبَل جيش الاحتلال الإسرائيلي في حرب الأيام الستة (النكسة)عام 1967م، عند الشقيف بين جلبون ودير أبي ضعيف.
في مساء يوم الأحد 6/12/2020م، الموافق 21ربيع الآخر 1442هج، رحل ماهرُ الصنعة، طَلِقُ اللسان، أنيقُ الهندام والقمباز، المُطَهِّرُ القانوني الشهيرصادق شلبي”الدُّرْبُز”.
رحم الله أبا حسني، لم يَشِخْ، وما تغيرَ قوامُه.
(من كتاب/ مخطوطة جلبون/عزت فائق أبوالرب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق