مقالات
شاعريَّة شاعر الأمة محمد ثابت بقلم حسن الحضري شاعر وناقد مصري
يُعَد الشاعر محمد ثابت من الشعراء ذوي الموهبة والقدرات الشعرية الكبيرة، يُجِيد العزف على أوتار جميع البحور، ويختار منها لكل غرضٍ من أغراضه الشعرية ما يناسبه، وحين يتناول ظاهرة علمية في شعره، في سياق التشبيه أو الاستعارة أو نحو ذلك؛ فإنه يحافظ على صحة المعنى العلمي كما يحافظ على جودة المعنى الشعري، فلا يمارس التحريف أو التصحيف أو غير ذلك مما يَخرج بالمسألة العلمية عن حقيقتها أو مفهومها الصحيح.
وإذا كان محمد ثابت قد اتجه في كثيرٍ من شعره إلى الأوزان القصيرة والمجزوءة؛ فإن ذلك ليس جفاءً منه للأوزان الطويلة أو عدم تمكُّنٍ منها؛ بل هو شاعر قدير لديه أدوات الشعر بتمكُّنٍ واقتدارٍ، لكن الموضوعات التي يستهويه النَّظم فيها تحتاج إلى الأوزان الخفيفة التي يَنْظم منها كثيرًا من شعره، فهو ينتقي لكل غرضٍ شعريٍّ ما يناسبه من الوزن، ولكل صورة ما يناسبها من أساليب التعبير، لذلك يقول في قصيدة (عَرِّضْ بِلَيلَى): [الكامل]
عَـرِّضْ بِلَيْلَى وَانْـتَقِ التَّعِبيـرَا
وَاتْـرُكْ هَـوَاهَـا وَابْتَغِ التَّغـيِيـرَا
وهي قصيدة من الكامل التام المقطوع؛ وهو ما حُذِف منه آخر ساكنٍ وسُكِّن المتحرك الذي قبله مباشرة، والكامل من البحور الطويلة ذات الحركات الكثيرة، فهو البحر المناسب لمضمون هذه القصيدة، التي نجد فيها أيضًا من وجوه التناسب وجمالياته: سرعة الاستجابة وعدم الفصل في إرسال الدفقة الشعورية التي يجيب بها الشاعر عن الموقف أو الغرض الذي يَنْظم فيه، فالقصيدة حين تكون في غرضٍ محدَّد؛ فإنها تكون استجابةً لمؤثِّرٍ خارجيٍّ أو داخليٍّ مُلِحٍّ في سيولة العاطفة وانبعاث التَّعَابير، ويتكشَّف مدى سرعة الاستجابة من أسلوب الشاعر ومفرداته؛ وفي هذه القصيدة يقول بعد البيت السابق مباشرة:
وَأفِـضْ عَلَيها مِـن لَهِيبَكَ جَمْـرَةً
أَوْ جَمْـرَتَـيْنِ عَـدَاوَةً وَسَعِيـرَا
فالبدء بفعل الأمر (عَرِّضْ) ثم العطف المتتابع (وانتق، واترك، وابتغ، وأفِض)؛ كل ذلك دليل على سرعة الاستجابة للمؤثِّر، ولمَّا فرغ الشاعر من ردود الفعل السريعة؛ استقرَّت حالته النفسية فبدأ يفكر في شيءٍ يواجه به الفعل الذي ساق إليه ذلك المؤثِّر، وهو فعل المحبوبة؛ الذي لم يذكر الشاعر طبيعته في هذه الأبيات؛ وإنما أبدَى ردودًا فقط، فقال:
يَـشفِي غَلِيلَكَ أَن تـَصِيحَ بـِوَجْهِهَـا
حـتَّى تُـفَجِّـرَ قَـلْبَهـا تَفْجِيـرَا
وفي قصيدة (لُمِّي شِراعَكِ) لمَّا عزم الشاعر على الفراق قال بنفْسٍ هادئةٍ قد عرفت الواقع ورضيت به: [مجزوء الكامل المرفَّل]
لُمِّي شِراعَكِ مِن سَفِيني
ولْتَرْحلِي لا تَخدَعِيني
لا تُؤلِمي قلبي الَّذي
بِدِمائهِ تَجري شُجوني
فعَلَى جَبِيني ألفُ لَحـ
ـنٍ مِن هُمومي، مِن أنِينِي
فالكلمات هنا ليس بها سرعة الانفعال لأنه ليس مطلوبًا؛ بل هو قرارٌ اتخذه الشاعر بعد تفكُّرٍ ورويَّة.
وحين يعيش الشاعر عالم الخيال ويدندن بشِعره بينه وبين نفسه، أو يكتب رسالةً شعريَّةٍ إلى محبوبته؛ يحتاج إلى رونق الكلمات وإلى الموسيقى الحركية، فيقول في قصيدة (لِلْحُلمِ عيونٌ سِحريَّةٌ): [المتدارك]
كُـونـِي كَـالحُـلْـمِ خُـرَافِـيَّـةْ
لِلْحُـلْمِ عُـيُـونٌ سِـحْـرِيـَّةْ
مُـرِّي كَالطَّـيْفِ عَلَى عَـجَـلٍ
مِـثْـلَ الأُسْطُـورَةِ وَهْـمِـيَّـةْ
وعلى النحو من الأمثلة السابقة نجد طبيعة الأنماط الشعرية التي يسلكها محمد ثابت، وقد أجاد في سلوكها والتعبير من خلالها.