مقالات
وسائل الإعلام المصرية، صراع المؤسسات، والرئيس ماجد عاطف
البرلمانات, رئيسي, مصر @ar
بعيدا عن موجة السخرية والتهكم التي قوبل بها الخطاب الأخير للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من طرف مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي؛ يمكننا القول أن الرجل بدا مصراً على إيصال رسالة تحمل مخاوفه وتوجساته، لذا فقد كررها مرتين، وكانت المرة الأولى حين قال وهو يقصد منصب الرئاسة : “هو إنتوا فاكريني حسيبها؟ لا والله”، أما المرة الثانية؛ فتجلت في قوله بتوتر شديد مخاطبا المعارضين: “إنتوا مين؟ إنتوا عاوزين إيه؟ “.
إن الانفعال والتوتر الباديين على الرئيس يكشفان حجم الضغوط التي يتعرض لها، فالرجل صعد إلى الحكم محمولا على أعناق الكثيرين في 2014 عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين، لكنه اليوم يبدو قَلِقًا شديدًا بسبب تضاؤل شعبيته، وارتفاع حدة الانتقادات الموجهة له.
والمؤكد أن شعبية السيسي اليوم هي ليست شعبيته في 2013، حيث أدت قراراته المتعاقبة إلى تزايد السخط وعدم الرضا يوما بعد يوم بين الكثير من فئات الشعب، حيث لم يعد الرجل في صدام مع الإخوان فحسب، فاتساع دائرة الاشتباه والاعتقال في حق الناشطين من المجتمع المدني؛ جعلت منه خصما للقوى الثورية والنشطاء السياسيين من الشباب. وبالطبع لم تسمح الخلافات الإيديولوجية بين التيار الثوري والتيار الإسلامي بتوحيد الصفوف ضد السيسي، وهو ما يجعله في أمان نسبي، لكن هذا لا ينفي أن الرجل صار أكثر محاصرة بتعدد الجبهات الرافضة له ولسياسته.
وتعد جبهة الاعلام أكثر الجبهات المعارضة خطورة والتي تزايدت مؤخرًا حدة نبرتها الهجومية. فالسيسي منذ أن صعد للحكم؛ وهو مهتم بالإعلام، فأحيانا يقول: بإن جمال عبد الناصر كان محظوظا بإعلامه التعبوي الذي سانده، ومرة أخرى يوجه انتقادا مباشرا أو تهديدا مبطنا للإعلاميين، قائلا: “يعني هو القطاع بتاعكم ده ما فيهوش مصايب ولا إيه؟”. بل وأكثر من ذلك؛ يحرض الشعب على الإعلام بقوله اليوم: “ما تسمعوش كلام من حد، اسمعوا مني أنا بس”. ثم يضيف ساخرا من الإعلاميين: “الإعلام مش فاهم حاجه، واللي عاوز يعرف يجي لي أنا.”
ومعلوم اليوم أن الجميع بمن فيهم السيسي نفسه يعلم أن غالبية الإعلام المصري ما هو إلا أذرع دعائية لأجهزة القوة في مصر، أو على الأقل في حالة انسجام معها. وعليه فتحليل الخطاب الإعلامي هذا مع وضع امتدادات كل ذراع (برنامج وصحيفة) في الحسبان يكشف لنا عن الكثير مما يقلق الرئيس بالدرجة الأولى، ويلقى الضوء على حقيقة ما يمكن وصفه بصراع الأجهزة الأمنية في مصر.
فحينما نتحدث عن الإعلام المصري (الصحف والقنوات) فنحن نقصد المؤثر منه والأكثر انتشارا، وهو الوصف الذي ينطبق في المقام الأول على الإعلام “الخاص”، سواء المطبوع أو المرئي. والسيسي نفسه يدرك ذلك جيدا، ففي مرحلة الدعاية الانتخابية إبان فترة ترشحه للرئاسة؛ اختار الجنرال أن يظهر؛ ولأول مرة للشعب من خلال شاشة قناة خاصة؛ في رسالة توحي للجميع بأن إعلام الدولة الرسمي قد انتهى. وعليه فتركيز السيسي من اللحظة الأولى كان على الإعلام الخاص، باعتباره أحد أهم أسلحة معركته ضد جماعات الإخوان المسلمين، حيث لعبت القنوات الخاصة دوراً كبيرا في تعبئة الجماهير ضد حكم الإخوان المسلمين، وحملت رسائل تطمينيه للناس: “انزلوا إلى الشوارع والميادين إن أردتم التظاهر ضد الإخوان، لا تخافوا فالجيش سيحميكم”. وهي الرسائل التي شجعت القطاع الأوسع ممن يطلق عليهم “حزب الكنبة”؛ على النزول والتظاهر، ومن ثم، عبدت الطريق للإطاحة بحكم الإخوان.
لكن مؤخرا، بدأت تظهر في مصر همهمات عما يعرف باسم “صراع الأجهزة”، والمقصود بذلك؛ هو الصراع بين أجهزة القوة ممثلة في المخابرات العامة، والمخابرات الحربية، وجهاز الأمن الوطني. هي ثلاث أجهزة، كل منها يمتلك أدواته الخاصة للضغط، وبالطبع كل منها لديه أذرعه الإعلامية التي تعبر عن مواقفه، وعليه فأحد أهم وسائل إدراك حجم هذا الصراع؛ هو تحليل الخطاب الإعلامي للبرامج التلفزيونية والتي بات من المعروف سلفا لمن تدين بالولاء حتى نكون صورة عما يجري خلف الستار في دولة باتت توصف بأنها “أرض الخوف”.
لقد تميزت السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك؛ بتزايد نفوذ جهاز أمن الدولة بدرجة مرعبة، تزامن ذلك مع صعود الوريث المنتظر حينها جمال مبارك ومجموعته، وهو ما جعل الكثير من الملاحظين يربطون اسم جمال مبارك بجهاز أمن الدولة ووزير الداخلية حبيب العدلي. إذ هناك من كان يرى بأن جمال مبارك عمل على تقوية الجهاز ودعمه ليكون ذراعه اليمنى في إحكام السيطرة على الشارع، وتثبيت حكمه في حالة نجاحه في تولي منصب الرئيس، خصوصا مع تململ جنرالات الجيش من فكرة توريث السلطة من الابن الى الاب.
لكن، وكيفما كانت الخلفيات وتشابكاتها؛ كانت فترة التسعينات بمثابة فرصة ذهبية لجهاز أمن الدولة الذي باتت موافقته شرطا رسميا ومعلنا لشغل أي وظيفة، ولا نتحدث هنا عن مناصب سيادية؛ بل حتى عن وظائف عادية، مثل: التعيين بالجامعة، أو الالتحاق بالخارجية، أو للعمل بجريدة مصرية. فموافقة أمن الدولة باتت من مصوغات التعيين. وهذا النفوذ المتنامي يتقاطع مع “مصالح” رجال الأعمال، وبذلك أصبح هذا الجهاز أكثر نفوذا وأكثر أموالا. ولهذا لم يتفاجأ أحد؛ حينما تم الكشف بعد الثورة على أن الجنرال حسن عبد الرحمن (مدير جهاز أمن الدولة) شريك لرجل الأعمال “السيد البدوي” المحسوب على جماعة جمال مبارك. وكان كل ذلك يحدث بالتزامن مع تهميش دور جهاز المخابرات العامة بقيادة الجنرال عمر سليمان الذي كان مقربا جدا من مبارك الأب. بل يمكن القول أن العشر سنوات الأخيرة من حكمه؛ تغيرت فيها موازين القوى بين الأجهزة الثلاثة، فأصبح الشارع ملكا لأمن الدولة، وانغمست المخابرات العامة أكثر في ملف العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية، وتفاصيل المصالحة بين فتح وحماس، وتقريبا لم يكن هناك أي حضور للمخابرات الحربية على السطح.
لكن قيام ثورة 25 يناير، وما أعقبها من ضربات موجعه للأمن، ممثلة في حرق لأقسام الشرطة، واقتحام مقرات جهاز أمن الدولة، أدت إلى تغيير شكل المعادلة من جديد. فالدولة صارت في قبضة المؤسسة العسكرية، وهي المؤسسة الوحيدة التي كانت تعمل بانتظام في تلك الفترة، وبدأ اسم المخابرات الحربية واسم مديرها في ذلك الوقت “عبد الفتاح السيسي” يظهر ويلمع، ولم يمض عامان حتى كان السيسي رئيسا للبلاد.
بصعود السيسي للحكم بدا أن الكل يحاول تثبيت أقدامه في هذا النظام الجديد، وبدا أن هناك مناوشات تحدث خلف الستار؛ لجس النبض وتحديد الأوزان النسبية لكل جهاز، فمن ناحية حاول جهاز أمن الدولة والذي تغير اسمه إلى جهاز الأمن الوطني، حاول السيطرة من جديد مستغلا علاقاته التراكمية مع رجال الأعمال ومفاتيح الحزب الوطني. ومن ناحية أخرى، هناك جهاز المخابرات الحربية الذي هو محل ثقة بالنسبة للرئيس بحكم الانتماء والولاء، وهو الجهاز الذي يسعى لوضع تركيبة جديدة تمنع ظهور “جمال مبارك” آخر في المستقبل، وتتفادى تطور الأمور بشكل يقود لثورة جديدة.
لقد كانت أولى ملامح جس النبض متمثلة في الانتخابات الرئاسية، حيث بدا المشهد محرجاً، إذ بقيت اللجان الانتخابية خاوية، وعلق الإعلام على ذلك المشهد قائلاً: ” فضيحة – كسفتوا الرئيس”. وطبعا لم يكن المصريون مهتمين، ولو بأدنى الدرجات؛ بانتخابات محسومة مسبقًا لصالح السيسي، لكن هذا لا يمنعنا من القول بأن ماكينة الحزب الوطني التي يديرها أمن الدولة لم تعمل مطلقا، حيث قامت القنوات والبرامج المنسجمة مع هذا الجهاز بتسليط الضوء على مشهد خواء اللجان. حينها فسر البعض ذلك الأمر بكونه رسالة موجهة للرئيس، مفادها أن جهاز أمن الدولة المتحالف مع رجال الأعمال؛ لا يمكن تهميشه، وأن الجيش والمخابرات الحربية وحدهما غير قادرين على مساندة السيسي.
لقد بقي هذا التفسير حبيس الأنفس، مع تجاهله من طرف البعض، باعتباره نوعا من الإفراط في نظرية المؤامرة، لكن ومع مرور الوقت، بدا يتضح بأن الجنرال السيسي لا يثق إلا في المؤسسة العسكرية، وأن تقارير المخابرات الحربية هي المفضلة لديه، وبدأ يوكل أغلب المشاريع الجديدة الضخمة للإدارة الهندسية للقوات المسلحة، متجاهلا في ذلك رجال الأعمال وشركاتهم، وبذلك بدأ يلوح في الأفق تهديد واضح لمصالح تحالف “رجال الأعمال وجهاز الأمن الوطني”. وفعلا ظهر التذمر في صفوف أمن الدولة من هذا التهميش، وقد تزامن ذلك مع غضب بعض رجال الأعمال، خاصة مع الضغوط التي بدأت تمارس عليهم للتبرع لصندوق ” تحيا مصر”، والذي هو تابع لمكتب الرئيس مباشرة.
لكن هذا الصدام المكتوم بين الجهازين الأمنين في مصر، لم يبق حبيس الغرف المغلقة طويلا. فما أن تشكل البرلمان الجديد؛ حتى احتدم الصدام وطفا على السطح، إذ حاول جهاز أمن الدولة فرض سيطرته على البرلمان، من خلال تكوين تحالف برلماني برئاسة اللواء سامح سيف اليزل تحت اسم “في حب مصر”. ولأول مرة تتضح لنا حقيقة دور الأجهزة الأمنية في هذا البرلمان، وذلك عندما صرح نائب حزب الوفد اللواء بدوي عبد اللطيف للإعلام قائلا: “أمن الدولة كلمونا، وقالوا لازم توقعوا على الوثيقة، رحت ودخلت ومضيت وما فهمتش منها حاجة؛ لأنها لم توضح الرؤى ومطالب الشعب”. مما يدل على أن أمن الدولة هو من يُعد القائمة، ويضع وثيقة العمل، ويجعل النواب يوقعون عليها!
وبالمقابل، فإن المخابرات الحربية لم تصمت طويلا؛ إذ زعزعت تماسك التحالف من الداخل، فتوالت الانسحابات فجأة، وعجلت بفشله، فقضت تقريبا قضاء تاما على سيف اليزل قائد التحالف، والذي هاجمه الإعلامي توفيق عكاشة “المحسوب على المخابرات الحربية” قائلا: ” هل سامح سيف اليزل أقوى من الرئيس؟ هل هو الذي يحرك الرئيس السيسي “. وفي الوقت نفسه تقريبا تمت الإطاحة بقيادات رفيعة من جهاز الأمن الوطني. وهو ما اعتبر ضربة قوية أخرى من المخابرات الحربية.
ومع مرور الوقت؛ بدا الصراع يطفو أكثر فأكثر، فتحولت شاشات التلفاز إلى ساحات نزال وتلاسن. والمدهش في كل ذلك هو موقف لميس الحديدي أول إعلامية مصرية تلتقي الرئيس، والمحسوبة على النظام حين قالت بكل صراحة في برنامجها التلفزيوني الأسبوع الماضي: “المناخ العام يحتاج إلى ضبط”، قبل أن تضيف: “كل نائب وراه جهاز بيشغله، وْبِيِدِّي لِيَ معلومات”! هذا التصريح المثير للحديدي، وهي القريبة من دوائر السلطة، فسره الكثيرون بأنه دلالة قوية على أن الفتق قد اتسع على الرتق، وأن التناحر تزايد حجمه لدرجة لا يمكن تجاهلها، أو إخفاؤها، وها هي المذيعة القريبة من السلطة تطالب الرئيس مباشرة بضبط الأمور.
إذن، فوجود صراع بين الأجهزة الأمنية في مصر بات شبه واضح، لكن الامر الذي ما زال غير واضح هو مدى عمق هذا الصراع، وهل هو صراع حول النفوذ والسيطرة فحسب، أم أن هناك خلافات أخرى؟
يقول أحد المسؤولين المقربين من دوائر صنع القرار فضل عدم ذكر اسمه معلقا على الأمر: “إن الصدام كما يبدو لي؛ يدور حول عدة محاور، جزء منه له علاقة بالنفوذ والسيطرة، وجزء آخر متصل بقوة بالمشهد الاقتصادي، أي: بمن يدعم الإدارة الهندسية، ومن يفضل أن تسند المشاريع لشركات رجال الأعمال”. لكن هناك محور آخر، وهو الأكثر عمقا -والحديث هنا مازال للمسؤول السابق- ألا وهو رؤية كل جهاز للثورة المصرية، ففي حين يَعتبِرُ أمن الدولة ثورة 25 يناير مؤامرةً على مصر يجب محوها من التاريخ، نجد المخابرات الحربية تعتبرها بمثابة الحدث المؤدي إلى 30 يونيو، وأنه يجب البناء عليها، ولو حتى بالاسم. هذا الخلاف الفكري له انعكاسات شديدة الحساسية والتأثير على حد تعبير المسؤول السابق. ويبقى ان نسأل عن الكيفية التي سيتعامل بها السيسي مع ذلك الصراع الذي بات شبه مسلم به. حتى الآن ما زال محور الارتكاز في المشهد السياسي المصري هو الرئيس نفسه، فرغم المشاكل الاقتصادية المتزايدة، والإخفاقات المتكررة، مازال السيسي هو كلمة السر لدى قطاع كبير من المصريين، فرغم تناقص شعبيته الجارفة التي كان يتمتع بها إبان الإطاحة بحكم الإخوان، إلا أن هناك قطاعات واسعة ما زالت تسانده وتدعمه، ومازال وجها مقبولا لديها. لكن الان لم يتضح ما إذا كان الرئيس السابق لجهاز المخابرات الحربية سينجح تحت قيادته، في ادارة الجدل الدائر بين وكالات الاستخبارات وبين جميع الاطراف الاخرى.
إن خطابه الأخير يشير بقوة إلى أن الرجل بدأ يضيق بكل هذه الضغوط، لكن لا أحد يمكنه التنبؤ بما قد يتخذه من قرارات لحسم هذا الصراع! وإلى يومنا هذا، ما يزال السيسي هو فقط، كاتم سر نفسه وسر الدولة، أو على حد تعبيره: ” إِلِّي عاوزْ يعرف يِجِي لِيَ أنا، وأنا أقولُّهْ…أنا، بَسْ “.