مقالات
لحظات من وقتك، سلسلة لرفع الوعي * صراع العبوديات * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري” * عنوان المقالة: “ما بين عبودية الله وعبودية الطاغوت: سؤال الانتماء الحضاري” (1-4)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
في عالم تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه التحالفات، يقف الإنسان أمام سؤال جوهري: لمن ينتمي؟ ومن يعبُد؟
أهو عبدٌ لله وحده؟ أم عبدٌ لثقافةٍ تُؤلِّه المال والشهوة والسلطة؟
هذا ليس سؤالًا عقائديًا مجرّدًا، بل هو سؤال حضاريّ يحدِّد شكل الحياة، ونمط العلاقات، ومصدر القِيَم، ووجهة المستقبل.
* التوحيد.. تحرير لا خضوع
جاء التوحيد في الإسلام ليردَّ الإنسان إلى فطرته: عبدًا لله، حرًا ممّا سواه، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، فالعبودية هنا ليست خنوعًا، بل تحررٌ من كل صنوف الاستعباد التي فرضتها الأرض على الإنسان: عبودية الناس، المال، الشهرة، النظام، الحزب، الهوى، وحتى النفس، قال ابن تيمية: “العبودية لله فيها كمال الذلّ مع كمال المحبة، وهي وحدها التي تليق بالإنسان، لأنه لا يصلح له أن يُذلّ إلا لله وحده.”
* الطاغوت.. كل ما عُبد من دون الله
قال تعالى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ (البقرة: 256) الطاغوت ليس فقط صنمًا من حجر، بل هو كل سلطة تُشرّع من دون الله، وكل ثقافة تستبدل وحي السماء بقيم أرضيو وضعية، وكل نظام يفرض على الإنسان أن يخضع لغير خالقه، والطاغوت اليوم يُلبس أقنعة شتّى:
• النجومية والموضة: شرك الشهوات.
• القومية والحزب والمذهب إذا كانت على حساب الولاء للعقيدة: شرك الولاء.
• الديمقراطية التي تُؤلّه البشر: شرك التشريع.
• رأس المال والاقتصاد القائم على الأنظمة الربوية العالمية: شرك السيطرة.
* المشروع التوحيدي الإسلامي:
استرداد الإنسان
حين جاء الإسلام، كان أول ما واجهه هو مشروع الطاغوت القُرشي الذي جعل من التجارة والزعامة والعرق والدين الباطل نظامًا مقدسًا.د، قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ (الزخرف: 26-27) وهكذا بدأ الأنبياء مع شعوبهم: بتحطيم أصنامهم المعنوية أولًا، ثم المادية لاحقًا.
– فهل تغيّر العالم اليوم؟
– أم أن الشرك عاد بأثواب أكثر حداثة وذكاءً؟
* الواقع اليوم: عبودية ناعمة بلباس الحرية
يُدعى الناس اليوم إلى “الحرية” بينما يُقيّدون بتوجيه منصات التواصل، والعولمة، والاستهلاك، والقروض البنكية، والفتاوى المأجورة.
وهذا النوع من الاستعباد هو الأخطر، لأنه يُعطى في أوعية ناعمة، تُحاكي الحرية بينما هي تعمّق الرقّ.
في المقابل، يعيد الإسلام صياغة حياة الإنسان على أساس:
• لا حاكمية إلا لله
• لا تشريع إلا من وحيه
• لا قيمة للإنسان إلا بعبوديته لخالقه
• لا حرية إلا في ظل التوحيد
* خلاصة
العبودية الحقيقية لله هي التي تحرر الإنسان من كل الطواغيت المعاصرة.
فمن لم يسجد لله، سيسجد لغيره حتمًا،
ومن لم يتبع الوحي، اتّبع الهوى أو المال أو الجماهير.
فالسؤال الحقيقي اليوم ليس: “هل أنت حرّ؟”
بل: “لمن عبوديتك؟ من داخلك، من فكرك، من قلبك؟”..
ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
عنوان مقالة الغد إن شاء الله: تيار الشرك العالمي: صناعة الإنسان المستهلك واغتيال القيم
* اللهم ألطف بعبادك المؤمنين المستضعفين في الأرض.
* مقالة رقم: (2007)
* 05 . محرّم .1447 هـ
* الأثنين . 30.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
***************
دقيقتين من وقتك الثمين فقط
* عبودية الاستهلاك
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري”
* عنوان المقالة: “تيار الشرك العالمي: صناعة الإنسان المستهلك واغتيال القيَم” (02)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* مقدّمة: حين يُستعبد الإنسان باسم الحرية
في مشهد عالمي مملوء بالشعارات اللامعة، تُخاض أعنف معركة في التاريخ… لكنها ليست معركة أسلحة وجيوش، بل معركة على روح الإنسان وهويته وقيَمه.
في صمتٍ ثقيل، تُصاغ عقائد جديدة، ويُعاد تشكيل العقل البشري في مصانع الإعلام، والتسويق، والترفيه، ليخرُج لنا إنسان جديد: مُستهلك، هشّ، منزوع القيم، غارق في اللّذات، ومنقطع عن السماء.
هذا هو تيار الشرك العالمي: تيار يُقصي الله من الحياة، ويستبدله بـ”السوق”، و”اللذة”، و”البراند”؛- العلامةةالتجارية- و”الترِند”، و”النجومية”.
تيار لا يطلب منك السجود لصنم، بل أن تُلغي الضمير، وتُصفِّق للعبَث، وتعيش لحظة بلا غاية.
* أولًا: من الشرك العقَدي إلى الشرك الحضاري
في التصور الإسلامي، الشرك ليس فقط عبادة صنم، بل هو كل إقصاء لله عن الحكم والتشريع والتوجيه:
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ (الشورى: 21).
وفي تيار الشرك العالمي اليوم، تُنشأ منظومات كاملة تُقصي الله:
• قيم مفصولة عن الوحي.
• حقوق تُصاغ بلا مرجعية.
• حضارات تتحدث عن “الحرية”، لكنها تُؤلِّه السوق والاستهلاك.
لقد تحوّل الإنسان في هذا النسق العالمي إلى كائن مُبرمج، يُساق كما تُساق البضائع، وتُقاس قيمته بقدر ما يستهلك لا بما يحمل من قِيَم، وكأنّه رقم في آلة ضخمة تُديرها مصالح السوق لا مبادئ الحق.
* ثانيًا: الإنسان المستهلك… صنم العصر الحديث
ليس صدفة أن تُصبِح “المولات” مراكز الحج الحديثة، وأن يتحول شعار الإنسان العصري إلى: أنا أستهلك، إذن أنا موجود!
تعمل منظومة الشرك العالمي على إعادة تشكيل الإنسان، ليكون:
• تابعًا لا فاعلًا: ينتظر ما يُعرض عليه ليشتريه، ليأكله، ليصدّقه، لا ليسائل أو يختار.
• غريزيًّا لا قيميًّا: تحرّكه الرغبة لا المبادئ.
• مُتشظّيًا لا موصولًا: بلا معنى، بلا عمق، بلا رب.
ويُساق ذلك في غلاف برّاق من الحريات الفردية، وحقوق الإنسان، و”كن نفسك”، و”عِش اللحظة”، دون أن يُسأل الإنسان: ما غايتك؟ ما قيمتك؟ لمن تنتمي؟
* ثالثًا: اغتيال القيم باسم التقدم
القيم في الفكر التوحيدي ليست زينة كلامية، بل أركان حضارية:
• الصدق.
• الأمانة.
• العفاف.
• العدل.
• التكافل.
• التواضع لله.
لكن هذه القيم تُغتال اليوم ببطء، وتُستبدل بمعايير أخرى:
• بديل الصدق: “كن ذكيًّا… تحايل!”
• بديل العفاف: “جسدك حر!”
• بديل الأمانة: “المهم النتائج!”
• بديل التقوى: “اتبع قلبك!”
• بديل المسؤولية: “افعل ما يسعدك فقط!”
وهكذا يُعاد تشكيل الضمير الجمعي في مناخ شركي ناعم، يجعل الكفر بالله غير معلن، لكنه عميق وساري في كل التفاصيل.
* رابعًا: مقاومة الشرك الحضاري بالتوحيد الحضاري
ليس الحلّ بالانعزال، ولا بالبكاء على الماضي، بل ببناء مشروع توحيدي حضاري بديل، يربط بين الإيمان والعمل، بين العقيدة والتحضر، بين العبادة والمعنى.
كيف نواجه تيار الشرك العالمي؟
• بزرع التوحيد في العقول لا فقط في الشعارات.
• بتحرير الإنسان من عبودية السوق، والموضة، والشهرة.
• بإعادة تعريف الإنسان: أنه عبد لله، مكرم بالعقل، مسؤول عن العمران لا فقط الاستهلاك.
• بثقافة تقوم على “الإنفاق بضابط”، و”الاستهلاك الواعي”، و”الهوية المستقلة”.
جميع ذلك يحتاج إلى وعي جماعي وكوادر عاملة متخصصة وخطط وبرامج قابلة للتنفيذ في جميع المستويات، ووو
خاتمة: المعركة لم تنتهِ
في زمن تبدو فيه الأسواق أكثر ازدحامًا من المساجد، والإعلانات أكثر تأثيرًا من الخطب، يجب أن ندرك أن الصراع ليس على “سلعة”، بل على “الإنسان ذاته”.
فإما أن يكون عبدًا لله، حرًّا من كل وثن…
أو عبدًا للترند، والمسلسل، والسلعة، والطاغوت.
﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ (الزمر: 64)… أليس كذلك يا سادة يا كِرام؟.. ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “عولمة الشرك: كيف تهيمن العقيدة الرأسمالية على حياة الناس؟”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا يا الله.
* مقالة رقم: (2008)
* 06 . محرّم .1447 هـ
* الثلاثاء . 01.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
************
إقرأ ما لم تقرأه من قبل، أعدك بالاستفادة
* عبودية الاستهلاك
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري”
* عنوان المقالة: “عولمة الشرك: كيف تهيمن العقيدة الرأسمالية على حياة الناس؟” (03)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
في زمنٍ تشابكت فيه خيوط الاقتصاد بالثقافة، وتحوّلت فيه الأسواق إلى معابد جديدة، تتجلى أمام أعيننا عقيدة خفيّة تتسلّل إلى الأرواح بلا استئذان: عقيدة الرأسمالية، إنها ليست مجرّد نظام اقتصادي، بل منظومة فكرية وحضارية كاملة، تستبدل “الإله” بالـ”رأسمال”، و”العبودية لله” بالخضوع لـ”قوى السوق”، و”المعنى” بـ”المنفعة”.
– في هذا السياق، يظهر الشرك الحضاري في أبشع صوره: شركٌ لا يتعلّق بتقديس الأصنام الحجرية، بل بتأليه الأشياء، وتقديم القرابين اليومية على مذبح الشُّهرة، الاستهلاك، والمتعة الفورية.
* من التوحيد إلى التأليه المدني
جاء الإسلام ليحرر الإنسان من عبودية الإنسان والجماد والمال، ويعيده إلى مقام العبودية لله وحده ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 164)، ولكن في عالم اليوم، لم يعد الإنسان حراً كما يظُن، بل صار “عبدًا مستهلِكًا”، يُعاد تشكيل رغباته وهويته عبر أدوات ناعمة تُصدِّرها الرأسمالية باسم “الحرية”.
– لقد تحوّلت العقيدة الرأسمالية إلى منظومة إيمانية حديثة، لها:
• نبيّها: الاقتصادي الليبرالي الذي يُبشّر بأن السوق قادر على حل كل شيء.
• كتابها المقدّس: قانون العرض والطلب.
• طقوسها: الاستهلاك، الفردانية، وتمجيد الذات.
• جنة وُعودها: الرفاهية اللانهائية والتملّك اللامحدود.
• جحيمها: الفقر، الفشل، والعزوف عن “اللعبة الكبرى”.
الهيمنة عبر النمط الاستهلاكي
لم تُهيمن الرأسمالية على العالم بالقوة وحدها، بل عبر صناعة نمط استهلاكي يُعاد إنتاجه يومياً، الفكرة بسيطة: استهلك، إذاً أنت موجود.
وفي هذا النمط، لا تُقاس قيمة الإنسان بأخلاقه أو علمه أو عمله الصالح، بل بما يملك، يلبس، ويسافر، ويأكل ويشرب، حيثُ تُختزل حياته إلى سِلع، ويتحوّل هو نفسه إلى سلعة: مظهره، جسده، صوته، حتى رأيه.
بهذه الطريقة، تتعمق عبادة المال واللذة، ويُدجّن العقل البشري ليصير تابعاً لهذا “الإله الجديد”، ولو رفض ذلك ظاهرياً.
* تذويب الهويّات باسم الكونية
من أخطر ما تفعله هذه العقيدة أنها تذوّب الخصوصيات الثقافية والدينية، وتصهرها في قالب عالمي موحّد.
يُروَّج لنموذج الإنسان العالمي (Global Citizen)؛ -المواطن العالمي- الذي يتحدث الإنجليزية، ويتبع الموضات، ويأكل ما يُعلن عنه في الإعلانات، ويُشاهد ما تنتجه منصات الغرب، حتى لو خالف دينه وقيمه ومعتقداده.
لكن هذا الإنسان المعولم، المُفرغ من الروح، لا يدرك أنه في معركة عقائدية ناعمة، حيث يُستهدف إيمانه دون أن يشعر، ويُسلَب توحيده باسم التطوّر، ويُستبدَل ولاؤه لله بولاء لمنظومة السوق.
* عندما يصبح المال ربًّا
قال النبي ﷺ: “تَعِسَ عبدُ الدينار، وعبدُ الدرهم، وعبدُ الخميصة…” (رواه البخاري). إنها نبوءة نبوية دقيقة: العبودية الحديثة ليست للسوط والسجن، بل للرغبة، للشهوة، للمال.
– الرأسمالية لا تطلب من الناس أن يعبدوا صنماً، بل أن يعبدوا أنفسهم، وأن يجعلوا رغباتهم هي الحَكم والميزان، وأن يلغوا مفهوم “الحرام والحلال” ليُستبدل بـ”المفيد والنافع”؛ -كنت قد أفردت سلسلة مقالات حول الرأس مالية سابقًا-
* التوحيد: ثورة على عبودية السوق
في مواجهة هذا المدّ، لا يمكن للمسلم أن يكون حيادياً،
فإما أن يكون توحيده صلباً فيرفض أن يُختزل إلى “مستهلك”، ويُعيد تشكيل حياته على أساس العبودية لله، وإما أن يُجرَّ جراً إلى الانصهار في شِرك العصر.
– التوحيد هنا ليس شعاراً، بل موقف حضاري مقاوم، يحفظ كرامة الإنسان، ويحرّره من كل ما يُراد له أن يسجد له سوى الله، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ (الجاثية: 23)، وقال: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 27).
خلاصة
الرأسمالية ليست نظامًا اقتصاديًا فحسب، بل دينٌ جديد ينافس التوحيد على قلوب الناس.
والعولمة ليست مجرّد انفتاح، بل غزوٌ ثقافي وعقائدي ناعم يفرض “شركًا حضاريًا” باسم الحرية والحداثة.
فالمعركة اليوم هي معركة إيمان، والمطلوب ليس الرفض النظري، بل الوعي والمقاومة، وبناء نموذج حضاري توحيدي يقف في وجه إله السوق… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “الرسالات التوحيدية في مواجهة المشاريع الفرعونية الحديثة”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا يا الله.
* مقالة رقم: (2009)
* 07 . محرّم .1447 هـ
* الأربعاء . 02.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
**********
إقرأ لُطفًا، لن تندم
* تحرير التوحيد
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري”
* عنوان المقالة: “الرسالات التوحيدية في مواجهة المشاريع الفرعونية الحديثة” (04)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* مدخل تمهيدي:
لم تكن الرسالات السماوية في جوهرها سوى نداء للتحرير، دعوة إلى خلع طغيان البشر، وتكريس العبودية لله وحده، والتأسيس لحياة تنبني على الكرامة المستمدة من التوحيد. كل نبي جاء يقول لقومه ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ﴾ (الأعراف: 59)، وكل طاغوت استنفر ما لديه من أدوات القهر ليطفئ نور الله. إنها معركة ممتدة، بين الرسالات التوحيدية التي تزرع الإنسان حُرًّا، وبين المشاريع الفرعونية التي تصنع الإنسان عبدًا للهيكل، أو السوق، أو السلطان.
* التوحيد… مشروع لتحرير الإنسان
التوحيد في حقيقته ليس مجرد فكرة لاهوتية أو عقيدة قلبية، بل هو رؤية كونية شاملة، تُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والوجود والسلطة، حين يقول الموحد: “لا إله إلا الله”، فهو يعلن العصيان على كل منظومة تزاحم الله في السيادة والتشريع، ويرفض أن تُصادر إرادته باسم “المصلحة القومية”، أو أن يُساق إلى الحروب باسم “الهوية الوطنية”، أو يُستعبد اقتصادياً باسم “السوق الحرة”.
– الأنبياء لم يكونوا “رجال دين”، بل كانوا قادة تغيير حضاري، تصادموا مع أنظمة الاستكبار، وحرّكوا المستضعفين، وزلزلوا عروش الفراعنة.
* فرعون… رمز متجدد لا يموت
لم يكن فرعون شخصاً وحسب، بل نموذجًا متكرراً في التاريخ، يتلوّن بأسماء جديدة في كل عصر:
• في القديم لبس تاج القداسة وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ (النازعات: 24)
• وفي القرون الوسطى لبس عباءة الكهنوت، وأحرق باسم “الكنيسة” من خالفه
• واليوم يلبس بدلة رسمية، ويتحدث عن “التقدم”، و”العولمة”، و”الحقوق” التي تصنعها مختبرات الأمم المتحدة وتفرضها على الناس بالسلاح الناعم أو الصلب
– فرعون المعاصر لا يعيش في قصر واحد، بل في مقار المال والسياسة والإعلام، يتكلم عشرات اللّغات، ويدير حملاته عبر الأقمار الصناعية، ويحاصر التوحيد بخطط مدروسة، مناهج تعليمية، وثقافات استهلاكية، ومواقع ترفيه موجّهة، وقوانين تصيغها دوائر نفوذ دولية.
* الرسالات في وجه آلة الهيمنة
ما تزال الرسالة التوحيدية، رغم كل الضعف، تقف في وجه هذه المنظومة الشركية المعولمة، تذكّر الناس أن:
• الحرية لا تُمنَح من برلمانات الأرض، بل تُستمد من خضوعك لخالقك
• الكرامة لا يصنعها البنك الدولي، بل يصنعها إيمانك بأن الله هو الرازق
• العدالة لا تُستورد من بروتوكولات الأمم، بل تُبنى من القرآن والميزان ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)
– القرآن يروي لنا بتكرار صدام التوحيد مع الطغيان، ويصف المواجهة بأنها معركة مصير، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ﴾ (القصص: 4)، لكن حين دخل موسى عليه السلام المواجهة، لم يكن يحمل إلا كلمة التوحيد وعصا، ومع ذلك: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص: 40)
* أدوات الشرك الحديث وأصنام العصر
الشرك اليوم لا يُعبد فيه حجر، بل تُعبد “القيم البديلة”، يُعبد “المال”، يُعبد “الجندر”؛ – اختيار النوع الاجتماعي من غير ما خلقه الله عليه، ذكر أو انثى- تُعبد “السُّلطة المطلقة”، يُعبد “العقل المتأله”، وتُرفع شعارات “أنا أقرر هويتي”، و”لا سلطة فوق حريتي”، و”الحياة من أجل المتعة فقط”، حتى أُقصي الله تمامًا من معادلة الوجود.
– تُصاغ قوانين تُحلل الفاحشة وتُجرم العفة، تُشرعن العلاقات الشاذة وتُجرّم النصح والدعوة، تُنكر الفطرة وتقدّس الانحراف، ثم تُصدَّر هذه القوانين تحت عنوان “المدَنيّة”، وتُفرض على الشعوب باسم “المعونة”، ومن يرفض يُعاقَب ويُحاصر ويُوصم بالتطرف.
* الرسالات لم تمت
رغم هذا الحصار، لم تمت الرسالة، وما زال التوحيد يُبعث في النفوس، وما زال الشباب في العالم الإسلامي يسألون:
• لماذا نُحكم بمن لا يخاف الله؟
• لماذا تُحاصَر قيمنا في الإعلام والتعليم؟
• لماذا يُحرَّف ديننا من الداخل؟
• لماذا تُبدَّل معاني القرآن تحت عنوان “قراءات معاصرة”؟
• لماذا يقصون السّنة النبوية ويدعون أنهم قرآنيون فقط؟
– الرسالة لم تمت، لكنها تحتاج إلى مَن يحملها بثقة ويواجه المشاريع الفرعونية بقلب موسى، وثبات إبراهيم، ويقين محمد صلى الله عليه وسلم.
خاتمة: هل من قائم للحق؟
المشاريع الفرعونية اليوم لا تخاف من الإسلام “الشعائري”، بل تخاف من الإسلام المتحرك في الواقع، الذي يرفض التبعية، ويفضح الظلم، ويعيد بناء الإنسان من الداخل على قاعدة التوحيد.
والسؤال الحارق: هل نحن أهلٌ لحمل هذه الرسالة؟ وهل نملك الشجاعة لنكسر أصنام زماننا، ونقول للفرعون الجديد: ﴿أَن أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ (الدخان: 18)؟.. ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: ” الإسلام.. مشروع استرداد الإنسان من سوق العبودية الحديثة ”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا يا الله.
* مقالة رقم: (2010)
* 08 . محرّم .1447 هـ
* الخميس . 03.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)