الرئيسيةمقالات

صقور النار الأسترالية.. هل هي أسطورة بروميثيوسية جديدة؟

بقلم د. محمد المخزنجي بتاريخ 22 يناير 2020

ضجت –ولا تزال تضج- وسائل الإعلام في كوكبنا بحديث متكرر عن اكتشاف عنصر جديد يُسهم في انتشار حرائق الغابات والسافانا في أستراليا، سمَّوه “صقور النار”، ويضم ثلاثة أنواع من الطيور الجارحة، وبرغم أن هذا الضجيج كان مرجعه دراسة في علم الأحياء العِرقي نُشرت منذ سنتين، فهناك ملحوظات تحمل على التشكُّك في نتائجها!

مع انتشار حرائق الغابات الأسترالية، اندلع في ساحات الإعلام والصحافة حديثٌ نمطي ومتكرر عن اكتشاف نوع من الطيور الجارحة سمَّوه “صقور النار”، وهي تسهم في نشر هذه الحرائق، بطريقة تكاد تكون إجرامية بشرية، تنطوي -وفقًا لما يُحكى عنها- على خبث شديد وجشع يتجاوزان ما هو معلوم عن العلاقة الفطرية بين المفترس والفريسة في الحياة البرية؛ فالواحد من صقور النار هذه، ما إن يندلع حريق في غابة حتى يسارع باقتحام الحريق ويلتقط -بمنقاره أو بين مخالبه- فرعًا مشتعلًا، ويطير به مسافةً تبلغ كيلومترًا، ثم يُسقطه على أرض عشبية لم يبلغها الحريق لتؤج فيها النار، وما إن تعلو فيها ألسنة اللهب، ويتصاعد الدخان، حتى تتنادى جماعات من هذه الطيور الجارحة وتحوم على أطراف الحريق الجديد، ومع بدء فرار ما كان مختبئًا في العشب قبيل اشتعاله، من قوارض وزواحف صغيرة وحشرات كبيرة، ينتاب تلك الطيور الجوارح نوعٌ من هياج الانقضاض والصيد وسعار الالتهام، وُصِف في تلك الدراسة بأنه “جنون قتل، وجنون أكل”. وقد حددت التغطيات الإعلامية والصحفية -بناءً على معطيات المصدرــ ثلاثة أنواع من تلك الطيور الجارحة ناشرة الحرائق سُمِّيت “صقور النار”، وتضم: الحِدأة السوداء، والحِدأة الصافرة، والصقر البني.

 دراسة بيو إثنية!

كان مصدر كل هذه المتكررات الإعلامية والصحفية عن “صقور النار”، دراسة ظهرت في أول ديسمبر 2017 بمجلة “علم الأحياء العِرقي”  Journal of Ethnobiologتحت عنوان “النشر المتعمد للنار في شمال أستراليا بواسطة طيور جارحة تسمى طيور النار”. وقد صرح عالِم الطيور “بوب غوسفورد” -أحد المؤلفين الأربعة المشاركين في الدراسة- في مقابلة حديثة مع شبكة “إيه بي سي نيوز” بأن “المناطق القريبة من حرائق الغابات تُعَد أماكن صيد كبيرة للطيور الجارحة”، مما يعني أن هذه الجوارح تدرك أن الفرائس تلوذ من نار الغابات المشتعلة بهذه الأماكن غير المحترقة، وتختبئ في عشبها أو بين آجامها، لتعاجلها الجوارح بإشعال هذه الملاذات؛ لتخرج الفرائس وتقع بين مخالب المفترسات ومناقيرها، وتصير وجبات يتم تمزيقها ثم ابتلاعها. ومتابعةً لهذا المشهد المثير للتعجب، والذي لا يصطدم بحقيقة أن للحيوانات إمكانات إدراكية لا يمكن نفيها، وإنْ في حدود، قال “غوسفورد”: “إن الحدأة السوداء والصقور البنية تُقبل على هذه الجبهات المستحدثة للحرائق في جماعات مهتاجة بجنون القتل وجنون الالتهام!”، وهنا ينبغي أن نتوقف صائحين: “لااااااا”، فعندما يتحول التناظر المعقول والمقبول بين عالم الحيوان وعالم الإنسان إلى تطابق لا معقول ولا مقبول في التفكير والتدبير وحتى في الجنون! فلا بد من الاحتراس، وإعمال الشك في تلك الدراسة “البيو إثنية” -كما صنَّفها أصحابها- وكان حريًّا بهم أن يجعلوها “أثولوجية” لتعلُّقها بعلم سلوك الحيوان، وهذا ما لم يفعلوه، إما خوفًا من تدقيق المختصين بعلم سلوك الحيوان، أو جهلًا بأن ما يدَّعونه ينبغي أن يُرجَع فيه إلى ذلك العلم ويُراجَع به.

تلك الدراسة تَواصَل إجراؤها بين عامي 2011 و2017، أي أنها استغرقت ست سنوات، سجل خلالها المؤلفون ملحوظاتهم، وأجروا عدة مقابلات مع مُكافحي حرائق الغابات والمراعي والمزارع من غير السكان الأصليين، وركزوا على إفادات السكان الأصليين القاطنين في أرض السافانا المدارية العشبية بالشمال الأسترالي، التي تشكل 20% من مجمل مساحة أستراليا. وتعليقًا على ذلك قال مارك بونتا -المؤلف الرئيسي للدراسة- في مقابلة مع مجلة “ناشيونال جيوغرافيك”: إن معرفة السكان الأصليين كانت حاسمةً في الدراسة، نحن لا نكتشف أي شيء… معظم البيانات التي حصلنا عليها بالتعاون مع الشعوب الأصلية… لقد عرفوا ذلك منذ 40.000 عام أو أكثر”. وقد أوصى مؤلفو الدراسة بالتحسُّب لتهديدات سلوك “صقور النار” ناشري حرائق الغابات هؤلاء. وأثنوا على سكان أستراليا الأصليين الذين يتحسَّبون لخطورة سلوك هذه الطيور مشعلة الحرائق، منددين بالشكوك الرسمية حول حقيقة نقل هذه الطيور للنار، مما يعوق التخطيط الفعال لإدارة البيئات الطبيعية وترميمها.

منهجة اللامنهج !

الملحوظ على هذه الدراسة أنها قائمة على “روايات” لمَن وُصِفوا بأنهم “شهود عيان”، لا “مُشاهدات عينية” كان يسيرًا توثيقها بالصوت والصورة في سنوات إجراء البحث الست غير البعيدة، والتي فيها كان التصوير الفوتوغرافي عن بُعد، كما التصوير السينمائي من الأرض ومن السماء، متقدمَين إلى درجة تقارب تقدمهما المذهل الآن. وفي مسح موسَّع على شبكة الإنترنت، لم يعثر كاتب هذه السطور على صورة واحدة ولا فيلم وثائقي يُظهِر أحد “صقور النار” ملتقطًا بمنقاره، أو بين مخالبه، عصا مشتعلة أو حتى قشة تدخن. ست سنوات من البحث، بستة مواسم -على الأقل- للحرائق، ولا صورة واحدة تؤكد شهادات الشهود، والتي أكثرها طرافةً ما عدَّه القائمون على الدراسة مصدرَ إلهام لإجرائها، وهو مقطع في سيرة ذاتية صدرت عام 1964 لطبيب وناشط من السكان الأصليين، اسمه فيليب ويبولدانيا روبرتس. قال فيه: “لقد رأيت صقرًا يلتقط عصا مشتعلة بين مخالبه ويُسقطها في قطعة أرض عشبية لم تلحق بها النار، على بُعد نصف ميل!”، رأى، ولم يصور! فلنلتمس له العذر. أما مَن أجروا الدراسة، فأي عذر يمكن التماسه لهم؟!

مع هذه الملحوظة البدهية عن لامنهجية الدراسة، التي يُفترض أن جزءًا منها متعلقٌ بالبيولوجيا، أي بأحد أعرض وأعمق العلوم الطبيعية التي تتطلب بحوثًا ميدانية وتجريبية صارت أدواتها البحثية أغزر ما تكون وأرقى ما تكون، ثمة ملحوظة عن النشوة التي انتابت مقدمي هذه الدراسة مع الاكتساح الإعلامي لدراستهم، فكأنهم كالمريب يكاد أن يقول خذوني، وإن بشكل معكوس، فقد انطلقوا يُدلون بتصريحات لا علاقة لها بالعلم، بل بالتسويق والترويج؛ لإثبات ما أثاروه من دهشة، وتثبيت ما حققوه من شهرة، فأحدهم يصرح: “إن روايات شهود متعددين تشير إلى أن هذا السلوك ليس مجرد صدفة”. وآخر يضيف واصفًا ما يصاحب التكالب الجمعي للجوارح على ما تلفظه الملاذات التي أضرموا فيها النار من فرائس: “هناك غرض. هناك نية”، ثم يضيف متقمصًا “تيار وعي” أو “لا وعي” هذه الجوارح: “حسنًا، هناك عدة مئات منا، يمكننا جميعًا الحصول على وجبة”، وهذه تصريحات مستهجَنة تمامًا من مشتغلين بعلم البيوإثنولوجي الذي يُفتَرَض أن نصفه أحياء، وعلى رأس هذا النصف علم الحيوان، وأحد أبرز مكوناته الطيور، وظاهرة الاحتشاد عند الطيور mobbing بدهية معروفٌ أنها لأسباب دفاعية أو هجومية أو عند توافر ما يشكل وليمةً كبيرةً من الغذاء في أوقات شُح الغذاء، وحريٌّ بأن يعرفها علماء يدرسون ظاهرة تخص الطيور. لكنها نشوة الشهرة الإعلامية وقد أصابت بعض أهل العلم، خارج ما يعلمونه، أو ما ينبغي أن يعلموه، فجعلت أحدهم يندفع بتصريح تنفي مقدمته نتيجته؛ إذ يقول: “إذا كانت الفرضية صحيحة، فهذا يعني أن لدينا أخيرًا تأكيدًا على وجود قوة جديدة في الطبيعة يمكنها نشر حرائق الغابات المدمرة- و قد كان السكان الأصليون المحليون يعرفون ذلك دائمًا”. لكن هذا الاندفاع يخففه قليلًا “مارك بوتا” المؤلف الرئيسي للدراسة -وهو بالمناسبة جغرافي، لابيولوجي ولا إثولوجي- قائلًا لجريدة الواشنطن بوست: “الطيور لا تبدأ الحرائق من الصفر، لكنها تؤدي الدور التالي”. لكنه لم يحدد ما يعنيه بذلك “الدور التالي”، فلنبحث عنه!

credit: CC BY-SA 2.5  الحِدأة السوداء

حكمة ضرورة، لا جنون قتل وأكل

     في عالم اليوم، الذي باتت فيه المعرفة طوعَ الأنامل، لم تعد الإجابات أكبر مشكلات الباحثين عن المتوافر من الحقائق العلمية، بل صارت الأسئلة هي الأصعب، لأنها البداية، وإذا قدمنا سؤالنا الباحث عن إجابة لمحركات البحث عبر الانترنت عن حقيقة العلاقة بين الطيور الجارحة والنار -دون أن نقرر كونها مشعِلَتها أو المستفيدة من اشتعالها، فستنسدل أمام عيوننا عناوين ومواقع عشرات الأبحاث حاملةً ما يَشفي الغليل، منطلقةً من حقيقة قديمة في كتب علم الحيوان تؤكد جذب حرائق الغابات والحقول والمزارع لكثير من الطيور الجارحة المتنقلة أو الجوالة، وهي أكثر بكثير من ثلاثي “صقور النار” الذين هلل لهم الإعلام والخفة العلمية التي -للأسف والعجب- انساق إليها حتى بعض المواقع والمطبوعات العلمية الجماهيرية. ومن بين تلك الكثرة من الأبحاث التي تتناول علاقة الطيور الجارحة بحرائق الغابات وبراري السافانا، توقفت أمام بحث منشور بتاريخ 29 سبتمبر 2017 بموقع “النظام البيئي والتطور” Ecology and Evolution  عنوانه: “أكل اللحوم- الهادف: الحرائق الماثلة واستخدام جوارح الطيور لها”، وهي من محفوظات المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية الأمريكية.
كان التوقف أمام هذا البحث مؤسَّسًا على سابق المعرفة المؤكدة بأن كثيرًا من الطيور الجارحة الجوالة، كالحِدأ، ما إن ترى دخانًا لحريق في البراري العشبية أو الغابات أو الحقول والمراعي حتى تسرع إليه في جماعات، وما إن تصل حتى تنخرط في هياج جماعي واضح، تنقض كالبروق على الفرائس التي تفر من النار، من قوارض وزواحف وحشرات، تلتقطها بين مخالب قدميها وتمزقها وتلتهمها وهي في الجو، ثم تعاود الانقضاض البارق والقنص والتمزيق والالتهام، طيرانًا. وهي حالة وصفتها الدراسة الإثنوبيولوجية محل الانتقاد بأنها “جنون قتل وأكل”، في مطابقة مخلة بين النهم والسعار البشريين، ومتطلبات اللحظة في سلوك الكائنات الفطرية في البرية.
وأوضحُ نقدٍ علمي لهذا التعبير المتعسف، هو ما ورد في بحث “أكل اللحوم- الهادف”، ويعرفه علماء الحيوان، وقُرَّاء ما ينشره هؤلاء العلماء، ويُقِر أن هذه الطيور الجارحة -كما هي كل الحيوانات اللواحم- يشتد نهمها في مواسم التكاثر والهجرة التي ترتِّب عليها أعباءً زائدةً تتطلب المزيد من الغذاء، البروتيني خاصةً، وتقع هذه المواسم -عادةَ- في الربيع والصيف، وهما الموسمان اللذان تكثر فيهما -بالمناسبة- حرائق الغابات والأحراج العشبية، مهما تعددت أسبابها، ويترتب عليها بالضرورة وفرةٌ عابرةٌ من الفرائس التي تفر من الحريق فتقع بين مخالب ومناقير الجوارح وغيرها من المفترسات التي تسارع إلى المناطق المحيطة بالحرائق لمعرفتها بأنها ستمنحها ولائم هي في أمَسِّ الحاجة إلى لحومها. أما النهم فمرجعه حس تاريخي لدى هؤلاء المفترسات بأن حرائق الغابات والبراري دائمًا ما تُتبع بفترات شح غذائي شديد، تستمر حتى يرمِّم النظام البيئي نفسه، فالمسألة في عالم الحيوان ليست “جنون قتل وأكل”، بل ضرورات حياة شديدة الحكمة -مهما بدت شديدة القسوة- لو تأملناها بعيون كائناتها الفطرية.
يظلون مجهولين، بشدة

بحث آخر توقفت أمامه لوقوعه في صميم علاقة الطيور وفرائسها بحرائق الطبيعة، منشور في العام الفائت 2019 بمجلة “مراجعات بيولوجية” Biological Reviews، عنوانه: “تحركات الحيوان في المشاهد الطبيعية المُعرَّضة للحريق”، وقد رأيت أن ظهوره بعد سنتين من صدور تلك الدراسة الإثنو-بيولوجية محل الانتقاد، وتركيزه على تحركات الحيوانات تفاعلًا مع حرائق الطبيعة، لا بد أن يأتي على ذكر “صقور النار” وما يُزعم لها من إشعال للحرائق، فهذا الزعم يتعلق بحركة، والحركة هي سمة ذات أهمية أساسية في النظم البيئية التي تتعرض لاضطرابات متكررة كالحرائق. وقد عُنِي البحث بكيفية تفاعُل الحيوانات حركيًّا مع الحريق من منظور مكاني وزماني، مُركِّزًا على حركة الحيوانات بين مواقع مختلفة وفي توقيتات مختلفة، عند بدء الحريق، وفي أثنائه، وبعد حدوثه.

في هذا البحث الموسع -الذي شاركت فيه جامعات أسترالية مع جامعات أمريكية- خُصِّصت أولى فقراته للتحركات التي تُحدِث تفاعلًا مع التغيرات المباغتة التي تُنشئها الحرائق، وأبكر هذه التحركات تأخذ اتجاهات ثلاثة: في مكان الحريق، وبعيدًا عنه، وذهابًا إليه. وذكر أن التحركات ذهابًا إلى مكان الحريق والمناطق حديثة الاحتراق سُجِّلت بدقة لصالح الحيوانات المفترسة، التي تمتلك ميزة اكتشاف الفرائس التي ينحسر عنها الغطاء النباتي فتقتنصها. وذكر أن الحيوانات المفترسة تنجذب بشدة، وبسبعة أضعاف أكثر، في أثناء اشتعال النار، وبدرجة أقل نحو المناطق المحترقة حديثًا. وقد عرَّج البحث في فقرة هامشية منه على ما نعالجه هنا، قائلًا بالنص: “وللحقيقة، فإنه في عام 2017، سجل “بونتا” وآخرون دليلًا على أن الحِدأ السوداء، والحِدأ الصافرة، والصقر البني، تقوم عن عمد بنشر الحريق؛ إذ تنقل عصيًّا مشتعلة إلى المناطق العشبية في السافانا المدارية الأسترالية، ومقياس توجُّه حركة هذه المفترسات نحو الحرائق، يظل مجهولًا بشدة!”.

إنها فقرة هامشية، كأنها وردت لمجرد “رفع العتب” عن تجاهُل الدراسة شديدة الشهرة والدوي لـ”صقور النار” تلك التي تنشر الحرائق عن عمد، لكنها في الوقت عينه تقدم إقرارًا بأن لا دليل ولا قرينة على زعم تلك الدراسة الملتبسة. وفي ذلك السياق قمت بمراجعة مئات الصور وعدة فيديوهات عن حرائق الغابات، بل تحديدًا تحت عنوان “صقور النار التي تنشر الحرائق”، وهي كثيرة ووفيرة، ولم أجد في أي صورة أو لقطة واحدة من “صقور النار” تلك يحمل عصا مشتعلة بمنقاره، أو بين مخالبه ليُضرم بها حريقًا يستفيد منه، و”يعزم” أصحابه! فماذا يتبقى بين أيادينا حيال هذه “الحكاية” التي لا سند علمي لها، ولا حتى دليل صحفي أو إعلامي عليها؟

صناعة الأسطورة، ووهم التطهر

أما بعد، وعندما نعود بالتاريخ آلاف السنين لنتأمل انطباعات سكان أستراليا الأصليين التي أورثوها أحفادهم، وروايات هؤلاء الأحفاد عن صقور النار التي استثمرتها -بل استغلتها- تلك الدراسة محل الانتقاد، دون قرينة ملموسة على تجلِّيها في الواقع ولا منطق علمي يُرجِّح حدوثها، فإننا -من ناحية أدبية- نعطف على هذه الشهادات، ونتعاطف معها كتفكير إبداعي مدهش وساحر، أنتجته القريحة البشرية البكر، التي نُثمِّن أنها –في حين كانت تفتقر إلى المعرفة العلمية المتوافرة الآن- لم تستسلم للعجز والحيرة أمام ألغاز الوجود من حولها، فحلَّتها بالأساطير، ومنها “أسطورة صقور النار”، التي تستدعي إلى خواطرنا من فورها، أسطورة النار الأشهر والأكبر، حاملة اسم بروميثيوس، مُحب البشر الذي سرق النار من بيت آلهة الأوليمب ليتدفأ بها جنسنا البشري في برد الشتاء، ويأتنس بضوئها في ظلمة الليل، ويجد فيها منافع وروائع أخرى، وآلامًا لا تُنكَر.

لكننا، هنا، والآن، حيث نرى نيرانًا تلتهم بضراوة ما تبقَّى من مدخرات النظام البيئي الحافظ لكل الحياة والأحياء في كوكبنا، هذا الجميل الهش، والذي ليس لنا في الكون غيره، ندرك أنها نيرانٌ، معظمها وأكثرها ضراوةً نتاج إجرام بشري، نعرف أنانية كبار مُقترفيه ونهمهم وقِصَر نظرهم، ولا ينبغي أن نقبل تلبيس هذا الجُرم لبعض الطيور، حتى لو كانت جوارح، ولعلنا في هذا نحتاج شيئًا يساعدنا على فهم ما وراء ذلك الرواج الكوكبي لتلك الدراسة الملتبسة والترحيب الإعلامي شبه الهيستيري بها، برغم عوارها العلمي، بل حتى الإعلامي، لهذا نرجع إلى علم النفس الذي يمكن أن يقترح علينا أن ذلك الرواج والقبول لأسطورة صقور النار، ليس إلا آليةً نفسيةً دفاعية، تجعلنا نلقي باللوم على غيرنا، لنرفع عن كواهلنا -بالوهم- عبء المسؤولية، وعِظَم الشعور بالذنب. فكم يطول التوهُّم؟!

……………………

مرتكزات

  • Intentional Fire-Spreading by “Firehawk” Raptors in Northern Australia Journal of Ethnobiology December 2017
  • Animal movements in fire-prone landscapes. Biological Reviews, 94(3), 981-998 ) 2019(.
  • Pyric‐carnivory: Raptor use of prescribed fires Ecology and Evolution 29 September 2017

عن الكتّاب

د. محمد المخزنجي

أحد أبرز كتاب الثقافة العلمية والقصة القصيرة في العالم العربي. تخرج من كلية الطب بجامعة المنصورة، وحصل على درجة الاختصاص العالي في طب النفس والأعصاب من معهد الدراسات العليا للأطباء بمدينة كييف، كما حصل على اختصاصي إضافي في الطب البديل من المعهد ذاته. مارس الطب النفسي في مصر وعمل أخصائيا إكلينيكيا بمستشفى بافلوف.

أحدث مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق