مقالات
رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (5)
* بين الانتماء والخوف: تحديات الهوية في ظل الواقع السياسي

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
لكالما تناولنا مع حضراتكم قضية الهوية التي تشكّل أحد الركائز الأساسية التي تُحدّد انتماء الفرد والمجتمع، إلا أن هذا الانتماء يواجه تحديات جمّة عندما يتداخل مع الواقع السياسي المضطرب، فالخوف الناتج عن التهديدات السياسية، والضغوط الاجتماعية، والتغيرات الجيوسياسية، قد يجعل الحفاظ على الهوية مسألة شائكة، تتطلب توازناً دقيقاً بين الاعتزاز بالانتماء والاستجابة لمتطلبات الواقع، وإليكم بعض النقاط التي يمكن أن تساهم في فهم هذا الموضوع الهام والمؤثّر
أولًا: مفهوم الهوية بين الثبات والتحوّل
الهوية ليست قالبًا جامدًا، بل تتأثر بالعوامل السياسية والثقافية والتاريخية، وفي السياقات السياسية الصعبة، يصبح التمسك بالهوية مسألة مقاومة، حيث يشعر الأفراد بضرورة الحفاظ على موروثهم الثقافي والديني رغم التحديات التي يواجهونها، ومع ذلك قد تؤدي الضغوط السياسية إلى تغييرات قسرية في أنماط التفكير والانتماء، خاصة عندما يُفرض على المجتمعات التكيف مع واقع لا يعكس بالضرورة جذورها الأصلية.
ثانيًا: الخوف كعامل مؤثر في تشكيل الهوية
الخوف من القمع السياسي، أو الإقصاء الاجتماعي، أو فقدان الحقوق الأساسية، قد يدفع الأفراد إلى إعادة النظر في مدى إظهارهم لهويتهم الحقيقية، ففي بعض المجتمعات، يضطر الأفراد إلى تبني سلوكيات تُواري انتماءهم الثقافي أو الديني، خوفًا من التمييز أو العقوبات، وهذا ما يؤدي أحيانًا إلى حالة من الاغتراب الداخلي، حيث يشعر الشخص بأنه يعيش بهويتين: إحداهما خاصة وأخرى معلنة، وفي واقعنا يعيش كثيرون هذه الحالة، فقط أنظر حولك!
ثالثًا: الهوية بين الصمود والتكيف
الاستجابة لتحديات الهوية قد تأخذ أحد مسارين: الصمود أو التكيف، فالصمود يتمثل في التمسك بالمبادئ والقيم رغم الضغوط، وهو خيار قد يؤدي إلى مواجهات وتحديات صعبة، لكنه يعزز الإحساس بالذات والاستمرارية التاريخية، أما التكيّف، فيعني البحث عن طرق تتيح للفرد الحفاظ على هويته ضمن إطار الواقع المفروض، سواء كان ذلك عبر استراتيجيات التفاوض الثقافي، أو إعادة صياغة الهوية بطريقة أكثر قبولًا ضمن السياق السياسي القائم.
رابعًا: الرؤية الإسلامية في التعامل مع تحديات الهوية
يقدّم الإسلام رؤية متوازنة للتعامل مع التحديات السياسية التي تواجه الهوية، حيث يرسّخ مفهوم الثبات على المبادئ دون انغلاق، ويحثّ على التفاعل الإيجابي مع الواقع دون الذوبان، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200). فالصبر والثبات من القيم الأساسية التي تحافظ على الهوية في ظل الضغوط، لكن دون أن يتحوّل ذلك إلى جمود يمنع المرونة المطلوبة للتعامل مع المستجدات.
* وأخيرًا
فالهوية بين الانتماء والخوف تشكّل معركة مستمرة تتطلب وعيًا عميقًا بالتحديات، وحرصًا على عدم التفريط في القيم الأساسية، دون تجاهل ضرورة التكيّف مع معطيات الواقع، فلا ينبغي أن يكون الخوف سببًا في طمس الهوية، كما لا ينبغي أن يكون التمسك بالهوية سببًا في العزلة والانغلاق، بل إن الموازنة الحكيمة بين الاثنين تُمكّن المجتمعات من الحفاظ على أصالتها، مع القدرة على التفاعل الفعّال مع واقعها السياسي المتغيّر…مع تحياتي العطِرة لكم جميعًا
* أمّا عنوان مقالتنا القادمة فهو: ( التعليم والإعلام: كيف يساهمان في تعميق الشعور بالاغتراب؟ )
* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1871)
14. شعبان . 1446هـ
الخميس . 13.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)