مقالات

الأدب الاستباقي (2): ستيغ لارسن يفضح يوتوبيا الشمال الزائفة

إن فكرة أن شمال أوروبا يحمل فيروسات الغرب الرأسمالي نفسها، الذي بنى جزءاً مهماً من رخائه على تفقير الآخرين، التي اشتغل عليها ستيغ لارسن، لم تنشأ من فراغ أو من ردة فعل بسيطة، ولكن من عمق مجتمع يعرفه الكاتب جيداً.
فقد عاش ستيغ لارسن في عمق التحولات التي عرت الخطاب الاجتماعي التضامني والإنساني نهائياً لتظهر لنا أوروبا الشمالية العنصرية في أسوأ صورها، والخوف من الآخر والتطرف، وحضور الأحزاب اليمينية كمنقذ من خطر أجنبي عربي أو إسلامي أو إفريقي داهم، الفساد الذي وصل إلى أعلى درجات السلم. ثلاثية ميلينيوم بهذا المعنى لم تكن إلا تعبيراً أدبياً حراً وحياً عن هذه اللوحة المخفية. من خلال شخصيتي ميكايل بلومكفيست، صحافي التحقيقات، ومساعدته ليزبث سالندر، كشف ستيغ لارسن عن عمق المجتمع الذي لا يختلف في النهاية عن أي مجتمع بني على الجشع والمصلحة الخاصة الضيقة في سياق رأسمالية متوحشة لا سلطان فيها إلا للقوة والغطرسة وهيمنة المال الفاسد الذي مس كل الأجهزة بما في ذلك أجهزة الدولة الأمنية، ورمى، ولو مؤقتاً، بالمجتمع السويدي ومجتمع أوروبا الشمالية في أحضان اليمين المتطرف والجريمة الموصوفة، الذي لا تنجو منه حتى مساعدة ميكيل بلومكفيست التي تتهم بالتورط في جريمة، لم ترتكبها، فتسخر لها كل جهودها للكشف عنها وعن خيوط اللعبة الأمنية التي وضعتها داخل تلك الدائرة.
استجاب ستيغ لارسن لشيء كان يعرفه جيداً، وهو ما أعطى مصداقية كبيرة لنصه من دون أن يحوله إلى تاريخ. فقد أظهر عداءً واضحاً ضد العنصرية والفاشية واليمين المتطرف، ميدانياً، قبل أن يكتب ميلينيوم. في 1991، وفي ظل صعود التطرف والتواطؤ الرسمي التحتي، ألف كتابا نقدياً سماه: «اليمين المتطرف»، بعده بقليل كتب: «الديمقراطيون السويديون والحركة الوطنية». كما ألقى محاضرات كثيرة في أمكنة متعددة، منها سكونتلاند يارد، المؤسسة الأمنية البريطانية وغيرها.
الأجزاء الثلاثة من ملينيوم فضحت هذه الآلية الداخلية التي عرفها عن قرب. في الجزء الأول، «الرجال الذين لم يكونوا يحبون النساء»، Män som hatar kvinnor(2005) يبدأ بفكرة غياب هارييت، حفيدة الصناعي الكبير هنريك فانجر، منذ أكثر من أربعين سنة. يتوجه شكه الكبير نحو أحد أعضاء العائلة، بسبب مصالح غامضة، ويريد أن يكشف عن سر ذلك. يقنع بلومكفيست بالتحقيق في احتمال جريمة اغتيال هارييت. من خلال عمله يلتقي المحقق بشابة حيوية ليزبث سلاندر، أو سالي، هي صورة عن المجتمع الاسكندينافي والأوروبي اليوم، تتأرجح بين عقلية البانك والعصيان ضد كل القوانين القامعة لحريتها، فوق هذا كله فهي مثلية مزدوجة، وهاكر غارق في تصيد المعلومات الحاسوبية، واختراق الحسابات الأكثر سرية.
لا شيء يهمها في حياتها إلا المعلومة الافتراضية التي تخفي وراءها أخطر الحقائق.
تساعده بخبرتها على الكشف عن خيوط الجريمة. تتواصل عمليات البحث في الجزء الثاني:»الطفلة التي كانت تحلم بالبنزين وعود كبريت» Flickan som lekte med elden (2006) والتحقيق في شبكة الدعارة، لكن الأجهزة المتواطئة تقود إلى مخاطر أكبر لتحويل مجرى البحث، فتتهم ليزبث بجريمة مزدوجة عنيفة في ستوكهولم، ثم بجريمة ثالثة. تبدأ الشرطة في مطاردتها. بينما تصر ليزبث، برفقة صديقها الصحافي الذي يؤمن ببراءتها وصديقها دراغان أرمنسكي، على كشف الغلاف المنافق للمجتمع السويدي. من كان إذاً وراء جريمة القتل الحقيقية، ولمصلحة من يتم إخفاؤها؟ في الجزء الأخير من الثلاثية: الملكة في قصر التيارات الهوائية , Luftslottet som sprängdes(2007) قبل أن يضيف لها الروائي السويدي، دافيد لغيركرانتر جزءاً رابعاً، توضع ليزبث داخل الحجز الأمني في المستشفى، بينما يتفرغ صديقها ميكائل بلومكفيست للكشف عن الأجهزة الأمنية النافذة في الدولة، للبحث عمن كان يريد رأس ليزبث ولأية مصلحة؟
في الجزء الرابع المضاف: «الشيء الذي لا يقتلني»، تتواصل عمليات البحث والكشف والتعرية للمجتمع الحالي. نجد عناصر الرواية البوليسية الاجتماعية السابقة نفسها، بالإضافة إلى شخصية جديدة تصبح أكثر فاعلية في هذا الجزء، فيحدث لقاء بين كاميليا بأختها ليزبث سلاندر. كان اللقاء حاداً لأن الكراهية التي بين الأختين بلغت درجة عليا من القسوة والرفض. لكن الخاصية الأهم هي المواصلة في الكشف عن عمق مخاطر الفساد والتطرف والتوحش الرأسمالي داخل جهاز الدولة نفسه. ستيغ لارسن يؤكد بثلاثيته والجزء المضاف لها، أن لا مجتمع خارج هذه الأذرع الأخطبوطية الخانقة التي تريد احتكار كل شيء وتوجه المجتمع وفق ما يضمن مصلحتها السياسية والمالية أيضاً. فالأدب يستبق دوما الحسابات السياسوية التي ترهن الحقيقة بمصالح ضيقة.
هناك حالة استشراف واضحة في رسم مجتمع آخر كان يرتسم في الأفق قبل سنوات، غير المجتمع الذي نعرفه، الذي جعل منه أولف بالمي الذي كان رئيس وزراء، ورئيساً للحزب الاجتماعي الديمقراطي، واغتيل في 1986، مجتمعاً إنسانياً متضامناً مع من هم في أشد الحاجة لذلك. ونسبت الجريمة رسميا إلى مختل عقلياً.
قبل أن تعقبها احتمالات عدة منها تورط الموساد بسبب موقف أولف بالمي من القضية الفلسطينية، الواضح والمتضامن والناقد لغطرسة الاحتلال الإسرائيلي. ومنها أيضا احتمال أجهزة إفريقيا الجنوبية بسبب موقفه وموقف بلاده من سياسة الأبارتايد العنصرية. لكن الاحتمال الأقرب إلى المنطق الذي يتواءم مع ثلاثية ستيغ لارسن، هو يد اليمين المتطرف المتغلغل في شرطة ستوكهولم من خلال رابطة البيزبول Ligue de baseball قبل أن يتم حلها رسمياً في 1983 لمنعها من التحول إلى سلطة موازية، داخل السلطة.
بينت الحقائق التي تلت، وحقائق اليوم من خلال تمظهرات أوروبا الشمالية اجتماعياً وسياسياً، أن ما حذرت منه ثلاثية ستيغ لارسن، يتجه المجتمع السويدي نحوه بخطى حثيثة، بحيث أصبحت أمراضاً مثل العنصرية والتطرف والخوف من الأجنبي أو المختلف، هي المقياس الأساسي في التعامل مع الآخر القادم من سوريا أو من العراق أو من كل أماكن الحروب. فالقرارات الخطيرة، المتخذة ضد المهاجرين بقوانين مجحفة، لم تأت من فراغ ولكن من تحولات غير مرئية حدثت في الجسد الشمالي عبر سنوات كثيرة، بمنأى عن الكشف عنها وعن آلياتها قبل أن تضعها رواية الثلاثية في السياق الأدبي، أي في مدار المعرفة العامة والكشف المعلن.image

مقالات ذات صلة

إغلاق