مقالات

(التيه الثقافي العربي ـ تحليل للخطاب الثقافي المعاصر) بقلم الكاتب حسن منصور

ج ـ وأما الحالة الثالثة التي تدل على التّيه [الثقافي] فهي تظهر بوضوح عندما يخلط الإنسان بين (القيمة المطلقة) وبين (الواقع الجديد) الذي يختاره فيتدنّى بتلك القيمة إلى التجسيد العملي الكامل، ويعتقد أنه حقّق كامل الحلم الذي كان (فِكْرَةً) يعتنقها ويسترشد بها أو أمنيةً تراوده أو تشدّه إليها بقوّة وترفعه إلى سمائها العالية، ولكنه استطاع أن (يَنْزِلَ بتلك القيمة من سمائها) وأن يجعلها ماثلةً أمامه بكاملها ومجسّمةً في ممارسات عملية حياتية. ولا شك أن الإنسان الواعي يقيس أعماله وخطواته وإنجازاته بأن يخضعها إلى (معيار) عقلي أو إلى مثل أعلى مستند إلى (قيم عليا) ثابتة، ولكن لا يمكن أن يعكس الوضع؛ بمعنى أن ينزل ذلك الإنسان بمستوى القيم العليا فيخضعها لما يتم تحقيقه فعلاً، أي أن يعتقد بأن أعماله أو إنجازاته هي ذاتها التجسيد الكامل لتلك القيم، وهو اعتقاد يؤدي به إلى الغرور وإلى الدكتاتورية الفكرية التي لا تفسح للرأي الآخر أيّ مجال. أو يقوده غروره إلى الدكتاتورية الكاملة (أي سياسياً وثقافياً وقانونياً…إلخ) إن كان ذلك الإنسان هو الحاكم أو رئيس الدولة أو القبيلة أو أيّة منظومة اجتماعية تقع تحت سلطته. وهذا كله يؤدي به وبمجتمعه إلى طريق مسدود، وبالتالي إلى الجمود وإلى التيه وعدم القدرة على الرؤية بوضوح. ومن هذا القبيل قول فرعون لقومه: (أنا ربكم الأعلى!)، وقول لويس الرابع عشر: (أنا الدولة!). وبمعنى آخر نقول بأن من يعتقد أنه استطاع فعل ذلك فإنه يكون قد قلب الوضع تماماً وأزال عالم (المثل والقيم المطلقة) من ذهنه، لأنه جسّدها في شكل واحد محدود في شخصه ومقتصر عليه وحده، وهل هناك غباء وظلم أكبر من ذلك؟……… كما يمكن أن يكون ذلك أيضاً حال بعض الأمم التي تعتبر نفسها تجسيداً كاملاً للقيم السامية المطلقة، ولذلك فهي تحتقر الأمم الأخرى وتعتبرها متخلفة عنها في كل شيء، وأوضح مثال على ذلك هو الأفكار العنصرية عند اليهود الذين يعتبرون أنفسهم (شعب الله المختار). وهذه القناعات تشكل تبريراً ومقدمة للعدوان على الآخرين في معظم الأحيان كما هو معروف. فهذه حالة إيجابية (أي غير جامدة أو متقوقعة) كالحالة الأولى، ولكن إيجابيتها عدوانية تحتقر الآخرين وتؤذيهم.
[مقتطف من كتابي الجديد: (التيه الثقافي العربي ـ تحليل للخطاب الثقافي المعاصر) ص26 ـ ط1 ـ دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع 2015م ] وهو الكتاب الحادي عشر من سلسلة الحضارة والفكر.

مقالات ذات صلة

إغلاق