ثقافه وفكر حر

ثورات ثقافية / عماد عباس

تبنى الجيوش و تعزز بالكوادر العلمية المؤهلة و ينفق على تسليحها و تجهيزها من أموال الشعب و يستغرق بناؤها عقوداً من التدريب و التطوير و قد تخوض معارك حقيقية لتحمي البلدان من الإعتداء الخارجي ، هذه هي وظيفتها الأساسية في البلدان المستقرة و تستعين الأنظمة المضطربة بالجيش لفرض النظام داخل البلاد عندما تحاول قوى خارجية تحريك عملائها لإثارة الشارع من خلال العبث بالأمن الداخلي فتكون الحاجة قائمة لفرض النظام بالقوة ، و أحياناً تكون الصورة معكوسة حيث تتخذ ذريعة ” فرض النظام ” شكلاً قمعياً عندما تكون هناك احتجاجات شعبية ضد الفساد أو الطغيان .

و طالما استطاعت هذه المؤسسة المحافظة على استقلاليتها بعيداً عن الصراع السياسي تمكنت من أداء دورها الوطني على الوجه المطلوب لكن عين السلطة تبقى على الجيش من وجهتين متعاكستين الأولى طمعاً بكسب هذه المؤسسة القوية لتكون أداتها في فرض إرادتها السياسية و الثانية خوفاً منها عندما لا تستطيع كسبها و عندما تغرق السلطة في الفساد و يكون هاجس الإنقلاب العسكري كابوساً يؤرقها عندها تحل الجيش أو تسعى لتهميشه و تشويه سمعته و الحط من قدره حتى إذا اقتضى الأمر زجه بمعارك جانبية قد تقتضي أيضاً خلق عدو من أجل محاربته ، عندها تستدرج الشعب لإيجاد مؤسسة ” شعبية ” بديلة عن الجيش تدافع عن النظام بعد تعرض ” مقدسات ” الشعب التي ترعاها السلطة للخطر . و ” مقدسات ” ليس مصطلحاً خاصاً بالأنظمة الثيوقراطية و الغيبية فقط ، فلكي ندفع الشعب للمبالغة في الدفاع عن النظام لابد من سكب شيء من دم الآلهة في شرايينه أو شرايين زعيمه أو مرشده ، إعلام كوريا الشمالية الذي نسب زعيمه السابق كيم إيل سونغ الى سلالة الملك سونجو ملك مملكة جوسون الذي ربطت بعض كتبهم نسبه هو الآخر بالآلهة استطاع إقناع خلق كثير بأن كيم خالد لا يموت وكانوا طيلة حياته مقتنعين تماماً بذلك و عندما مات صدم كثيرون و تعرض كثيرون لنوبات عصبية ، لكن انتقال الزعامة لإبنه الرئيس الحالي يعني بقاء دم الآلهة في عروق الرئيس و كان لهذا بعض العزاء للتخفيف عن الشعب المفجوع برئيسه الذي كتب بنفسه الدستور و قوانين العمل و الكتب المدرسية و الصحف و المجلات و الأطروحات الأكاديمية كلها ولم يكن رزق الكوريين الشماليين و مرتباتهم و طعامهم و لباسهم إلا هبة من القائد الذي بلغ عدد تماثيله 35000 تمثال ، في الصين مات المئات من الحرس الأحمر و هم يحاولون تقليد زعيمهم ماو تسي تونغ في السباحة بعد إقناعهم أنه كان يقطع نهر اليانجستي بربع الرقم العالمي لهذه المسافة و كان الجميع ينحنون أمام صورة الزعيم نصف الآلهة كل صباح لكن الزعيم الراحل مات قبل أن يدرك ثقافة الوصول الى صورته زحفاً على البطون ، تختلف وسائل التأليه من شعب لشعب لكن مسحة القدسية ضرورية للحفاظ على ( المكتسبات ) حيث تلغى العقول و تختصر بشخص الزعيم و وكلائه أو حتى بصورته أو بقبره إذ بإمكانه ان يحافظ على موقعه المقدس حتى بعد موته خاصة إذا منت عليه قداسته بذرية تبقى متناسلة الى يوم يبعثون يتحول فيها حتى المجانين و المتخلفون عقلياً من نسله إلى عباقرة مقدسين .

قاد الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ثورته الثقافية في ستينات القرن الماضي للحفاظ على سلطته و التخلص من خصومه رغم أن من غير المعقول أن يقوم شعب ما بثورة لأن زعيمه يريد ذلك لا لشعوره بأن أسباب الثورة قد توفرت ، ماو حشد الملايين من المتطوعين تحت عباءة الحرس الأحمر لمقاتلة البرجوازية و أعداء البروليتاريا ( المقدسة ) لكنه في الحقيقة كان ينقل الصراع على السلطة من أروقة الحكم الى الشارع مضحياً بمئات الألوف من أبناء شعبه و بجانب كبير من تراث الصين الموغل في القدم الذي دمر في تلك الثورة وواضعاً هذا البلد على أبواب حرب أهلية . ثورة ماو ” الثقافية البروليتارية العظيمة ” بالطبع لا يمكن مقارنتها بما يحدث عندنا لا بالتسمية و لا بالأهداف لكني أريد فقط استحضار الجانب المتمثل بنقل الصراع على السلطة إلى الشارع باستغلال قدسية مزعومة تهون من أجلها دماء الشباب و تاريخ و حضارة بلد ، عندنا ، وهذا أكثر بشاعة ، هانت حتى سيادة البلد من أجل هذا الغرض إن كان من ناحية تسليم ثلث مساحته لتنظيم إرهابي دمر الحرث و الضرع و النسل والحضارة أو من ناحية السماح لجيوش عالمية و إقليمية بأن تجوب أراضينا عرضاً و طولاً و كان الحل على طريقة ماو : اللجوء الى الشعب المخدر بقدسية صنعها الإعلام أو رجال دين – لا فرق ، ليدافع عن هذه القدسية . دعوة ماو للثورة وجدت صداها لدى الطلبة الحانقين على نظام تعليمي بائس بالأساس ، أي أنه تعكز على واقع فاسد من صنع يدي النظام نفسه لإنقاذ قدسيته رغم أن وكلاء السيد ( السيد ماو ) كانوا يرددون (علينا تطبيق تعاليم ماو حتى و إن لم نفهمها) ، عندنا أيضاً يطبقون التعاليم دون فهمها و يتعكزون على واقع فاسد من صنع أيديهم ، الفساد و داعش و سبايكر و الكهرباء و لقمة العيش و عشرات الذرائع الأخرى جعلت القدسية المشكوك بأمرها أمراً واقعاً يستدعي التطوع للدفاع عنه في ثورة ” ثقافية ” نتضرع إلى الله أن لا نجني منها ما جنت الصين من خراب في ثورتها الثقافية

مقالات ذات صلة

إغلاق