مقالات

قصة ملبارية : وجبةٌ من المحبة ترجمها أ.د. عبد الحفيظ الندوي

ما إن انتهت الحصة الأخيرة، حتى بدا عليه الإنهاك والتعب، وقد أنهكه الجوع. وبعد أن دفع ما تبقّى معه من نقود قليلة، قال له عمّ رامي إنه لا يستطيع أن يمنحه المزيد إلا إن اشترى شيئًا. حينها توقف عن تناول الأرز وحده دون مرق.
في اليوم السابق، حينما رآه زملاؤه يأكل مجرد أرز بلا مرق، تملّكهم الفضول وسألوه، فكذب قائلًا إنه نسي إحضار وعاء المرق من البيت. وبما أن الجميع قد أعطوه قليلًا من الكاري والمرق والإدام من عندهم، فلم يشعر بالجوع في المساء. لكن كيف له أن يكرّر الكذبة ذاتها كل مرة؟
“لماذا لا تأتي لتغسل يديك؟ ألا يوجد ضيوف في بيتكم اليوم أيضًا؟”
في وقت الغداء، وبعد أن دقّ الجرس، سأله أصدقاؤه مرة أخرى، إذ لم يأتِ معهم ليغسل يديه.
فقال متصنعًا: “أمي طلبت مني أن أعود للبيت لتناول الغداء، لأن هناك ضيوفًا اليوم، وسأعود بعد الأكل.”
بدأ يشعر أن الفقر يعلّمه فنون الكذب. كان يخاف من أن يشفق عليه الآخرون، أو يسخروا منه إن علموا بحقيقته. لذا، كل يوم كان يصوغ كذبة جديدة.
أحيانًا، تكون الظروف هي التي ترسم ملامح الإنسان، وتقرر كيف سيكون.
بينما كان أصدقاؤه يتناولون طعامهم، مضى هو إلى ضفة النهر القريبة من المدرسة. ومع اشتداد الجوع، غرف من الماء النقي الجاري بين الصخور بكلتي يديه وشرب.
“آه… ما ألذّه!”
في لحظات الجوع القاسي، يبدو الماء البارد لذيذًا كالعسل.
حين عاد إلى المدرسة بعد الجرس، كان الأستاذ راتيش قد بدأ حصة اللغة الماليالامية. كان هذا الأستاذ محبوبًا لدى الجميع، إذ لم يرَ أحدٌ وجهه يومًا عبوسًا، وكان دائمًا هادئًا ومتفهمًا.
“شارات، أين كنت طوال هذا الوقت؟”
سأله بلطف بينما كان ينتظر الإذن للدخول.
لكنه لم يُجب. لم يستطع الكذب وهو ينظر إلى وجه أستاذه.
“شارات، ألم تسمعني؟ لماذا لا تردّ؟”
وحين كرّر السؤال، تدخل أحد التلاميذ وقال: “أستاذ، كان عنده ضيوف في البيت، ذهب لتناول الغداء هناك.”
“هل هذا صحيح يا شارات؟”
أومأ برأسه دون أن ينطق.
وفي نهاية الدوام، كان شارات يشعر بثقل الذنب، لأنه كذب على أستاذه الذي يحبه كثيرًا.
مرّ بجانب البيوت، وكانت روائح الطعام المنبعثة من مطابخ الأمهات تؤلمه من شدة الجوع، وتذكّره بما ينقصه.
“وأمي…؟”
كانت نظرة الناس إلى أمه دونية، ربما لأنها أنجبته دون زواج. وقد تركت قريتها هربًا من السخرية والفضيحة. علمته منذ صغره أن يقول للناس إن والده مات، لئلا يُقال له إنه بلا أب.
“لكن من يكون أبي؟ هل فكر بي يومًا؟ هل تمنّى أن يراني؟”
ثم أجاب نفسه: “لو كان كذلك، لكان قد جاء لرؤيتي ولو مرة واحدة خلال هذه السنوات الأربع عشرة، أو اشترى لي قميصًا جديدًا على الأقل…”
حين وصل البيت، جلس لتناول الطعام دون حتى أن يبدّل ملابسه. خلط الأرز المتبقي من الصباح مع قليل من الماء والملح وفلفل أخضر مقلي، وبدأ يأكل بنهم.
راقبته أمه بعينين ممتزجتين بالحزن والفرح في آن.
“ابني، لم تأكل شيئًا في المدرسة اليوم، أليس كذلك؟” قالت وهي تضيف له ملعقة أرز أخرى.
“لا، أمي… أصدقائي شاركوني طعامهم، أكلنا سويًّا.”
طمأنها، كعادته.
“غدًا أيضًا، كل معهم. ابتداءً من الغد سأبدأ العمل في بيتٍ كبير اسمه بيت رامي. عليّ أن أعدّ الطعام وأرتّب كل شيء قبل أن يخرج أهل البيت إلى أعمالهم. وسأترك لك الطعام جاهزًا قبل أن أذهب. عليك فقط أن تأكله وتذهب إلى المدرسة، حسنًا يا بني؟”
أومأ برأسه موافقًا. لكن الذنب ما زال يسكن قلبه لأنه كذب على أستاذه.
في صباح اليوم التالي، خرجت أمه إلى العمل مبكرة. استيقظ هو واغتسل وشرب قليلًا من العصيدة، ثم انطلق إلى المدرسة.
ومع مرور كل حصة، كان القلق داخله يزداد.
“ماذا سأقول اليوم؟ هل سأخترع كذبة جديدة؟ لا أستطيع الكذب أكثر…”
رنّ جرس الغداء، فجلس في مقعده مندهشًا.
الجميع يركضون لغسل أيديهم وتناول الطعام.
“ألن تأتي لتغسل يديك؟ أم أن لديكم ضيوفًا اليوم أيضًا؟”
تجمّد قليلًا، لم يعرف ما يقول. وفجأة، سمع صوت البوّاب توماس عند الباب:
“شارات!”
اقترب بخطوات مترددة، فسلمه الرجل حزمة.
“طعام لشارات، من غرفة الأساتذة.”
وقبل أن يسأله من أرسلها، غادر الرجل.
كان المشهد أشبه بالقصص التي تحدث فيها المعجزات.
فتح الحزمة الملتفة بورق الموز، وتسربت منها رائحة الأرز والمرق، فسال لعابه.
وحين تذوّق المرق، شعر بشيء مألوف… إنها نفس نكهة طعام أمه!
“هل يعقل أن أمي هي من أحضرت هذا؟ لكن لماذا لم تأتِ لرؤيتي؟! وكيف لها أن تطبخ كل هذه الأصناف؟”
رغم تساؤلاته، استمر في الأكل بشهية. منذ زمن طويل لم يأكل بهذا الامتلاء.
لكن شعورًا بالحزن خالط هذا السرور. كان أستاذه في الصف، لكنه طوال الحصة لم ينظر إليه، ولا ابتسم له كعادته.
حين عاد مساءً، كانت أمه قد رجعت من العمل.
“اغسل يديك وتعال، الطعام جاهز!” قالت بفرح ظاهر.
وحين رأى الطعام، أدرك أنه هو نفسه ما أكله في المدرسة.
“أمي، لماذا لم تأتِ لرؤيتي حين أحضرتِ الطعام؟”
سألها بنبرة حزينة.
فقالت متظاهرة بالدهشة: “أنا؟ متى أتيت إلى مدرستك؟”
سكتت لحظة، ثم تذكرت شيئًا وقالت:
“نسيت أن أخبرك، يا بني… ذهبت اليوم للعمل في بيت أستاذ اللغة الماليالامية، الأستاذ راتيش. حين رأيته، شعرت كأنني أعرفه، فسألته، وأكد لي. سألني عنك، فقلت له كل شيء. تأثّر كثيرًا حين سمع بقصتك.”
مسحت دموعها وتابعت:
“كان الطعام الذي أعددته له. فقال لي: خذي هذه الأطباق إلى المدرسة، وأعطيها لابنك، فقد يكون جائعًا.”
فهم الآن كل شيء.
كان الأستاذ هو من أرسل له الطعام، لأنه شعر بما يخفيه التلميذ البريء.
اغرورقت عيناه بالدموع، وخرج من الغرفة دون أن ينطق بكلمة.
في اليوم التالي، لم تكن لديهم حصة مالايالامية، لكنه ظل ينتظر الأستاذ عند باب الصف.
وحين رآه، دعاه إلى الداخل.
“ما الأمر يا شارات؟ لِمَ هذا التصرّف غير المعتاد؟”
نظر إليه بصمت، ثم انفجرت دموعه وهو يعانقه.
“أنا آسف يا أستاذ… لأنني كذبت.”
أخذ الأستاذ يهدّئه: “لا تبكِ يا بني. لا بأس. سأخبرك أمرًا… كنت مثلك في طفولتي. عانيت كثيرًا، رغم أنني كنت أعيش مع والدي. الفرق أنني كنت أملك شيئًا… الإرادة. الإرادة في أن أنجح، وأتجاوز كل من سخر مني. وهذا ما أوصلني إلى ما أنا عليه اليوم.”
“غدًا، أريدك أن تكون فخرًا لأمك، كما أصبحتُ أنا فخرًا لذاتي.”
“أعدك، أستاذي.”
قالها، ثم أمسك بيد الأستاذ بقوة. شعر، لأول مرة، بحنان الأب الحقيقي.
بقلم: أمبيكا شيفاشنكرن

إغلاق