ثقافه وفكر حر

المحمل المصري بقلم علي الشافعي

image
اظن ــ والله اعلم ــ ان اغلب الناس في عصرنا لا يعرفون معنى هذا المصطلح , على ماذا يطلق ؟ ولم وكيف التصق بمصر حتى سمي بالمحمل المصري ؟ تعالوا اذن نطالع صورة مشرقة في تاريخنا المحجوب لنتعرف على المحمل وتاريخه , وسبب التصاقه بالغالية مصر , ولنبدأ القصة من اولها :
المحمل ــ يا سادة يا كرام ــ هو هودج على جمل كان يخرج من مصر كل عام , في مراسيم دينية خاصة مع قوافل حجيج مصر وشمالي افريقيا والاندلس , الى مكة المكرمة حاملا كسوة الكعبة المشرفة , وظل هذا المحمل يخرج بالطريقة الاحتفالية هذه منذ عهد الملكة شجرة الدر وعهد المماليك حتى عام 1381 هـ 1962 م , حيث توقف اثر خلافات الحكومة السعودية مع الحكومة المصرية ابان حرب اليمن , في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر .
كان المحمل في العادة يطوف شوارع القاهرة ثلاثة ايام , يتجهز خلالها الحجيج لمرافقته إلى الحجاز , وكان يصاحب طوفانه العديد من الاحتفاليات ؛ كتزيين المحلات التجارية والرقص بالخيول على ضربات الطبول , وتسير خلفه الجمال التي تحمل المياه وأمتعة الحجاج , وخلفها الجند الذين سيحرسون الموكب الى الديار الحجازية , وخلفهم رجال الطرق الصوفية الذين يدقون الطبول ويرفعون الرايات . والمحمل نفسه هو عبارة عن هودج فارغ يقال أنه صنع للملكة المصرية شجرة الدر , التي اصرت على الخروج بنفسها للحج حاملة معها الكسوة الشريفة , فصنع لها هذا الهودج , أما الكسوة نفسها فكانت توضع في صناديق مغلقة وتحملها الجمال , ثم اصبحت هذه المراسيم تقليدا سنويا . وكان الوالي أو نائبه يحضر مراسيم خروج المحمل . وبعد الحج يعود المحمل حاملا الكسوة القديمة للكعبة المشرفة , فتقطع قطعا صغيرة توزع على النبلاء والأمراء , وما زالت بعض القطع موجودة في متحف كسوة الكعبة المشرفة , وبعضها في قبور العائلة الملكية في مصر حيث زينوا بها اضرحتهم كنوع من التبرك .
تعتبر كسوة الكعبة من أهم مظاهر التشريف والتبجيل للبيت الحرام , وتاريخ كسوة الكعبة جزء من تاريخ الكعبة نفسها ، والثابت ان (تبع الحميري) ملك اليمن هو أول من كساها كاملة في الجاهلية , بعد أن زار مكة المكرمة ودخلها دخول الطائعين , وهو أول من صنع للكعبة باباً ومفتاحاً . وبعد تبع كساها الكثيرون في الجاهلية ، وكانوا يعتبرون ذلك واجباً من الواجبات الدينية . وكانت الكسوة توضع على الكعبة بعضها فوق بعض ، فإذا ما ثقلت أو بليت أزيلت عنها وقسمت أو دفنت ، حتى آلت الأمور إلى (قصي بن كلاب) الجد الرابع للرسول عليه افضل الصلاة والتسليم , والذي قام بتنظيمها، بعد أن جمع قبائل قومه تحت لواء واحد . وعرض عليهم أن يتعاونوا فيما بينهم في كسوة الكعبة ، وفي غيرها مثل السقاية والرفادة ، وتوارثوا هذا العمل حتى فَتْح مكة . ومنذ عام الفتح حتى يومنا هذا والمسلمون يتفردون بكسوتها , حيث كساها الرسول صلى الله عليه وسلم ، بالثياب اليمانية ، ثم كساها الخلفاء الراشدون من بعده .
اما التصاق المحمل والكسوة الشريفة بمصر فيبدا منذ ان فتحها الله على المسلمين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حيث اوصى بكسوتها بالقماش المصري المعروف بالقباطي الذي اشتهرت بتصنيعه بالفيوم . والقباطي نسبه الي قبط مصر ، فقد كان المصريون ماهرين في نسج أفضل وافخر أنواع الثياب والأقمشة ، اما في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه فكسيت بالقباطي المصري والبرود اليمانية , وكان أول وضع عليها كسوتين، أحداهما فوق الأخرى .
وكان الناس في الجاهلية يتحرون إكساءها يوم عاشوراء . كما جاء عند البخاري وأحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( وكان يومًا تستر فيه الكعبة ) . وروى الأزرقي عن ابن جريج قال : كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء ، إذا ذهب آخر الحجاج حتى كان بنو هاشم ، فكانوا يعلقون عليها القمص يوم التروية من الديباج ، حتى يُرى بهاؤها وجمالها ، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار . في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي قرر للكعبة كسوتين الأولى بالديباج يوم التروية والأخرى بالقَبَاطي يوم السابع والعشرين من رمضان .
في عصر الدولة الاموية اهتم الخلفاء بكسوة الكعبة المشرفة , وفي عهد معاوية بن أبي سفيان كسيت الكعبة كسوتين في العام , كسوة في يوم عاشوراء والأخرى في آخر شهر رمضان , استعدادا لعيد الفطر , وكانت ترسل الكسوة من دمشق وكانت تصنع من أحسن الاقمشة وأفضلها في منطقة على اطراف دمشق , حيث اشتهر محمل حج الشام الذي ينطلق من دمشق بجموع الحجيج المجتمعين من شرق وسط آسيا، كما أن معاوية هو أيضا أول من طيب الكعبة في موسم الحج وفي شهر رجب .
اهتم الخلفاء العباسيون بكسوة الكعبة المشرفة اهتماماً بالغاً ، لم يسبقهم إليه أحد، نظراً لتطور النسيج والحياكة والصبغ والتلوين والتطريز . وقدا بحث العباسيون عن خير بلد تصنع أجود أنواع الحرير، فوجدوا غايتهم في (مدينة تنيس) المصرية ، التي اشتهرت بالمنتجات الثمينة الرائعة ، فصنعوا بها الكسوة الفاخرة من الحرير الأسود على أيدي أمهر النساجين ، وكانت لها قريتان (تونة وشطا) اشتهرتا أيضاً بصنع التطريز. أما الخليفة المأمون (206هـ)، فقد كسا الكعبة المشرفة ثلاث مرات في السنة كالاتي : الأولى من الديباج الأحمر , وتكسى الكعبة بها يوم التروية . الثانية من القباطي وتكسى بها في غرة رجب . الثالثة من الديباج الأبيض يوم السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك .
وفي عهد السلطان الظاهر بيبرس استمرت الكسوة ترسل من مصر، حيث كان المماليك يرون أن هذا شرف لا يجب أن ينازعهم فيه أحد حتى ولو وصل الأمر إلى القتال ، فقد أراد ملك اليمن “المجاهد” في عام 751هـ أن ينزع كسوة الكعبة المصرية ليكسوها كسوة من اليمن ، فلما علم بذلك أمير مكة أخبر المصريين فقبضوا عليه ، وأرسل مصفدا في الأغلال إلى القاهرة . وللمحافظة على هذا الشرف أوقف الملك الصالح إسماعيل بن عبد الملك الناصر محمد بن قلاوون ملك مصر في عام 751هـ وقفا خاصا لكسوة الكعبة الخارجية السوداء مرة كل سنة ، وهذا الوقف كان عبارة عن قريتين من قرى القليوبية هما بيسوس وأبو الغيث، وكان يتحصل من هذا الوقف على 8900 درهم سنويا .
واستمرت مصر في نيل شرف كسوة الكعبة في عهد لدولة العثمانية ، فقد أهتم السلطان سليم الأول بتصنيع كسوة الكعبة وزركشتها وكذلك كسوة الحجرة النبوية الشريفة ، وكسوة مقام إبراهيم الخليل . وفي عهد السلطان سليمان القانونى أضاف إلى الوقف المخصص لكسوة الكعبة سبع قري أخرى اتصبح عدد القرى الموقوفة لكسوة الكعبة تسعة قرى وذلك للوفاء بالتزامات الكسوة ، وظلت كسوة الكعبة ترسل بانتظام من مصر بصورة سنوية يحملها أمير الحج معه في قافلة الحج المصري .
وفى عهد محمد علي باشا توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد الصدام الذي حدث بين أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأراضي الحجازية وقافلة الحج المصرية في عام 1222هـ الموافق عام 1807م ، حيث انكروا عليهم المراسيم الاحتفالية من قرع الطبول وغيرها , وأعادوا القافلة من حيث اتت , ولكن أعادت مصر إرسال الكسوة في العام 1228هـ . وأسست دارا جديدة لصناعة الكسوة بحي “الخرنفش” في القاهرة عام 1233هـ ، وهو حي عريق يقع عند ميدان باب الشعرية ، وما زالت هذه الدار قائمة حتى الآن وتحتفظ بآخر كسوة صنعت للكعبة داخلها ، واستمر العمل في دار الخرنفش حتى عام 1962م كما اشرت سابقا .
وفي مستهل شهر محرم 1346هـ ، أصدر الملك عبد العزيز، أوامره بإنشاء دار خاصة بصناعة الكسوة ، وأنشئت تلك الدار بمحلة أجياد أمام دار وزارة المالية العمومية بمكة المكرمة ، فكانت هذه الدار أول مؤسسة خصصت لحياكة كسوة الكعبة المشرفة بالحجاز منذ كسيت في العصر الجاهلي إلى العصر الحالي . وأثناء سير العمل في بناء الدار كانت الحكومة السعودية تقوم ببذل جهود كبيرة لتوفير الإمكانيات اللازمة لصنع الكسوة والتي تتألف من المواد الخام اللازمة من حرير ومواد الصباغة ، و الأنوال التي ينسج عليها القماش ، وظلت دار الكسوة بأجياد تقوم بصناعة الكسوة الشريفة منذ تشغيلها في عام 1346هـ ، واستمرت في صناعتها حتى عام 1358هـ . ثم أغلقت الدار ، وعادت مصر بعد الاتفاق مع الحكومة السعودية إلى فتح أبواب صناعة الكسوة بالقاهرة سنة 1358هـ، وأخذت ترسل الكسوة إلى مكة المكرمة سنوياً حتى عام 1381هـ 1962 م كما اسلفت , حيث توقفت مصر نهائيا عن إرسال الكسوة الشريفة . ومنذ ذلك التاريخ قامت الدولة السعودية بإعادة فتح وتشغيل مبنى تابع لوزارة المالية بحي جرول ، يقع أمام وزارة الحج والأوقاف سابقاً، والذي أسندت إليه إدارة المصنع ، وقد ظل هذا المصنع يقوم بصنع الكسوة الشريفة إلى عام 1397هـ . حيث نقل العمل في الكسوة إلى المصنع الجديد، الذي تم بناؤه في أم الجود بمكة المكرمة ، واصبحت الكسوة الشريفة تصنع به إلى هذا اليوم ,
ظهرت الكتابة على كسوة الكعبة المشرفة منذ بداية العصر العباسي فكان الخلفاء من الأمراء يكتبون أسماءهم على الكسوة ويقرنون بها اسم الجهة التي صنعت بها وتاريخ صنعها ، كما هي العادة الجارية إلى اليوم . وقد ادخلت الزخرفات والايات الكريمة الى النسيج فزاتده جمالا وبهاء .
هل عرفتم ــ يا دام سعدكم ــ المقصود بالمحمل المصري والمراسيم الاحتفالية المصاحبة له ومواسم الحج وقوافل الحجيج , هل يعود الزمان يوما , وهل تعود للامة وحدتها بل كيانها المهدد . طبتم وطابت اوقاتكم

مقالات ذات صلة

إغلاق