مقالات

امبارْكه بقلم حميدة مادي

طيلة سنوات و كل ما تكرمت يد وزارة التعليم بتذكرة سفر ، لتروية مجاري القلب و أوديته ، بعد ان ضربها جفاف الغربة ، كنت أصر ككل مرة على المرور على “امباركه”، كجزء لا يتجزء من ذاكرتي المتخمة حد الانفجار ، لأنها كانت بمثابة الأم ، فطبيعة التساكن ، و اشتراك يوميات الحياة ،فى حينا ، يمنحك أحيانا أهلا جدد، تتقاسم معهم الافراح و الاتراح ، ضف الى ذالك جلب طلبيات الاسرة المختلفة، و باستمرار كان كافيا لخلق علاقة امومة معها، جعلتها شاهدة على مختلف المحطات الدراسية، بدءا بشهادة الدروس الابتدائية، ثم الاعدادية، فالحدث الاكبر حينها من خلال الحصول على شهادة الباكالوريا، اتذكر ليلتها انها غابت عن عملها رغم شغفها الكبير به ، و هي التى تقدسه بتفاني، فتراها و هي تناول هذا ،كسكسا،وذاك عيشا ، وتلك “باسي”، اناملها تتحرك بين الصحون بحرفية، و تلف المشتريات بهندسة اروع ، فى ورق مخصص لذالك ،ثم تلهفك تلك الرائحة الزكية، التى تجعلك تولي وجهك شطرها ،لتجد امباركه فى نفس المكان، فى نفس الزاوية ، بمحاذاة دكان “الفلاني”احد اهم الشخصيات الوازنة فى الحي.
تساءلت مرارا و تكرارا بيني و بين نفسي، أيهما اخذ الإذن من الاخر ؟ لشدة ارتباطهما فى تلك الصور الطفولية للحي…… من الصعب ان ترى احدهما دون الاخر كأنهما وجها هذا الحي الاليف، الوديع رغم جلبة الاطفال هنا وهناك و رغم ما تختزنه البيوت على حياء…..
رغم ذالك الارتباط القدري، أصرت امباركة على مشاطرة الوالدة( الحاجة)، و افراد الأسرة هذا الحدث، كانت تاخذني موجة من هيستيريا الضحك، فى بعض محطات الاغتراب ، وانا اتذكر كيف ان بعض الزبائن دلفو الى المنزل ، بحثا عن الكسكس فى محاولة يائسة لثني امباركة عن الغياب ليلتها تلك ،و هي تجيب:
“امباركه الليلة مع ابنها الدكتور …….يرجع لنا بالشهادة الكبيرة و ايشغلنا”
كم كانت الحياة بسيطة ،الناس بسطاء ،يمتلكون الحلم دون مساحيق، و يتشبثون بالواقع عن قناعة ……، لكن ما لم تدركه امباركه، ان كِبر او صِغر الشهادة ، فى هذه الارض، فعل خارجي لا ناقة للعلم و الشهادة، فيه و لا جمل،و كانت ستندهش اكثر لو بقيت على قيد الحياة ، حين ترى دكتورها الكبير و هو يحترق للملمة جراح مرضى الجسد و الروح،هنا و هناك ، فقط لأن على هذه الارض ما يستحق الحياة.
اتذكر جيدا ، عشية السفر، تلك الرائحة المتصاعدة من ذالك الصحن الكبير ،مع فوار ضعيف ،رغم سنوات الاغتراب ، و محطاته المختلفة الثقافات، لم اصادف تلك الرائحة الزكية، خليط بين الماء و النار و الارض.
-الواعر دينك؟ و اعطينه اخبارك، نظراتها كانت حانية، قلقة وان حملت الكثير من الأمل ، و ككل ابناء جلدتها انذاك، ارتبط لديهم السفر لدول خارجية، بالانحراف، و سهولة الذوبان فى عوالم الماديات، لذالك كان يصر الوالد ، كما الوالدة ، عند نسك الوداع : دينك ، دينك .
كنت اتامل تلك التجاعيد التى ضاق بها وجّه امباركه و هي تحكي قصة كفاح، بدء عندما ضرب الجفاف اطنابه، و هاجرت الأسرة دون سابق انذار ، و دون ان تحمل ، سوى الاصرار على البقاء ما كان فى الحياة بقية.
كان (مَعْطَله: عطاء الله )، و هو الذي لم يألف حياة المدن ، و صخبها ، بعيدا عن قطعانه و هي تطلق العنان لأنفسها لترعى ، فى تلك المهاد ، وبعيدا عن جلسات الشاي ما بعد الغروب بحالة الفرح التى تجتاح الجميع، وقتها، بعد ان بدء النسيم العليل يخترق الانفس المنهكة، بعد يوم حار و بعد ان اخذت القطعان أمكنتها تحضيرا، لعملية”التحلاب “، يداعب معطله كؤوس الشاي ، على انغام غاية فى التناقض،تنساب حرة من مذياعه ، الذي يذكرك بتحف فرعونية:
-هنا لندن ……وهو فى كامل سعادته، ألق غبطته…..
كان رجلا ستينيا، ألِف الحياة و ألفته، وجد نفسه يشد الحزام من جديد ،لحياة جديدة، غير تلك التى خبرها و خبرته ……..و بعد رحلة عناء طويلة ، و جد عملا كحارس ، مع مدخول رغم ضألته، و بدعم سخي من رفيقة الدرب امباركه،مكناهما من تربية اصدقاء المراهقة، و أيما تربية.
ودعتها ، و رغم التماسك ، حد الانهيار ،طمأنتها على العودة السريعة و بالشهادة الكبيرة……..
-الدكتور الواعر مسْك زيْن
صاح الفلاني ، من داخل المحل ، بنبرة تحمل الكثير من الغيرة الغير جديدة…..عانقته و انا اهمس فى اذنه:
-الحاجة ادور اتخلصك اشوي ذاك.
ودعته وهو يبتسم فرحا ، و امباركه تلوح بيديها ، و سكون غيّر مئلوف يلف الحي…..و كأنك تقاد رغما عنك لمصير مجهول ..ربما هي طريقة للوداع ،فالفراق قدّر لا بد منه مهما اختلف الرحيل ، خٌيل لي ذالك ……..
لكن ذالك السكون سرعان ما تبدد مع هدير محركات الطائرة الجزائرية وهي تستعد للاقلاع ، والكل يلوح بمن فيهم بائعة الكسكس “ امباركه”.
مادي حيمده

اترك تعليقاً

إغلاق