مقالات
* سلسلة إيمانية جديدة إقرأ مقدمتها لتتعرف على مضامينها الفريدة من نوعها * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “أنوار اليقين: بين رحلة التوحيد والإيمان، في زمن التحديات””مقالات 1-2-3-“”
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

* عنوان المقالة: “مقدّمة” (1)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
تمرّ بالأمة الإسلامية – أفرادًا ومجتمعات – أيام تثقل فيها الخطى، وتكثر فيها الأحمال، وتتشابك فيها الأسئلة الكبرى عن المصير، والنجاة، والثبات. تزداد فيها الشكوك، وتخفت الأصوات التي تبشّر، ويغدو اليأس كزائر ثقيل لا يغادر، حتى ليخال المرء أن النور قد انطفأ، وأن الرحمة قد تأخرت، في مثل هذا الزمن، لا دواء أنجع ولا راحة أعمق من العودة إلى ينبوع التوحيد، حيث الله هو الركن الركين، والملجأ الأمين، والحبل المتين.
لقد شاء الله، بلطفه، أن يجعل لنا في كتابه العزيز وسنة نبيه الكريم ﷺ خيوط نجاة لا تنقطع، تهدينا في العتمة، وتثبت قلوبنا في أوقات الاهتزاز، وتزرع في أرواحنا معاني الصبر والرضا واليقين، وتأتي هذه السلسلة، “أنوار اليقين: بين رحلة التوحيد والإيمان في زمن التحديات”، لتكون وقفة تأمل عميقة مع معاني الإيمان، وبصائر تهدي القلوب إلى معنى التوكل الحقيقي، والثقة بوعد الله، والتسليم لمشيئته الحكيمة.
سنمرّ في محطات هذه السلسلة عبر مشاهد قرآنية خالدة، وأحداث تاريخية مضيئة، ونماذج بشرية واجهت الضعف والظلمة، لكنها لم تسقط في هوّة القنوط، بل أمسكت بحبل الإيمان فأنقذها الله ورفعها، لأن الله لا يخذل من صدقه، ولا يُسلم من وثق به.
في هذه الرحلة، لا نعيد سرد القصص فحسب، بل نستخرج منها زادًا إيمانيًا يُعين على السير. سنحدثك عن امرأة عاقر رزقها الله، وعن عذراء جاءها غلام من غير بشر، وعن فتية آمنوا بربهم فزادهم الله هدى، وعن عبدٍ دعا ربه ﴿أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين﴾ فاستجاب له، وعن نبيٍّ أُلقي في الجُبّ صغيرًا ثم صار عزيزًا في أرضٍ غريبة، وسنقول معًا: لا تيأس، فإن الله إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون.
في كل مقالة من مقالات هذه السلسلة، سنضيء شمعة في مهبّ الظلمة، ونزرع وردة في طريق الألم، ونبعث في القلب يقينًا لا يتزعزع أن الله معنا، يسمع ويرى، ويدبّر بحكمة، ويُقدّر بلطف، ويجعل بعد كل ضيق فرجًا، وبعد كل حزن طمأنينة.
فلتكن هذه الكلمات لك – أخي القارئ، أختي القارئة – بمثابة البلسم الذي يسكب الطمأنينة، والصوت الذي يوقظ فيك العزيمة من جديد.
فبالإيمان تنشرح القلوب، وباليقين تتبدد الظلمات، وبالله وحده نلتقي على درب الفرج والنصر…بوركتم ولكم مني التحية والسلام
عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “حين أنجبت العذراء: معجزة اليقين فوق ناموس الطبيعة”
* اللهم في خير أيامك، ارزقنا إخلاصًا لا يداخله رياء، وبصيرة لا يعترضها هوى، ووفّق أمتنا لما فيه عزها، وامنن علينا وعلى أبناء شعبنا بالأمن والسلام.
* مقالة رقم: (1978)
* 05. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألأحد. 01.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
************
* مريمُ المعجزة والنموذج!
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “أنوار اليقين: بين رحلة التوحيد والإيمان، في زمن التحديات”
* عنوان المقالة: “حين أنجبت العذراء: معجزة اليقين فوق ناموس الطبيعة” (2)
في عالمٍ تحكمه القوانين وتضبطه الأسباب، تبقى القدرة الإلهية وحدها قادرة على خرق النواميس، لتقول للناس: إن الله على كل شيء قدير. ولعلّ أعجب مشاهد هذه القدرة ما وقع لمريم العذراء، حين أنجبت دون زوج، فدوّت في الأرجاء آية لا زالت تهز القلوب، وتُدهش العقول، وتغمر الأرواح بنور اليقين.
* معجزة تُوقِظُ الإيمان
حين وقفت مريم عليها السلام تحت جذع النخلة تتمنى الموت من هول ما واجهت، كانت لحظة كاشفة في تاريخ التوحيد، أن يبلغ العبد قمة الضعف البشري، ثم تأتي العناية الإلهية فتعانقه، لا لتمنحه مخرجًا فحسب، بل لتجعل منه آية للعالمين، قال تعالى: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ (مريم: 24-25).
الله جل جلاله أراد أن يُعلّم البشرية أن رحمته إذا حضرت، ذلّت الصعاب، وانهارت القيود، وتبدّدت الأحزان، فما كان فوق طاقة البشر صار ممكنًا، وما عُدّ مستحيلاً صار واقعًا، حين يُصدّق القلب بوعد الله ويُسلّم له.
* تسليم العذراء ويقين الأنبياء
مريم لم تسأل “كيف؟”، ولم تحتجّ بـ”لماذا؟”، بل كان سؤالها استفهام واستعلام لأن ما يحدث لها خارج عن المألوف والطبيعة، بل كان حالها أنها آمنت بأن الأمر يعود لإرادة لله، ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ فجاءها الجواب الحاسم: ﴿كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ (آل عمران: 47).
إنه يقين الأنبياء، وسُلوك أولياء الله الذين آمنوا أن القوة ليست في المنطق فقط، بل في التسليم، وأن الحسابات الأرضية لا تُقارن بقدر الله.
* آية تتحدى العقل الغافل
لقد جاءت هذه الآية لتسقط عن الإنسان وهم الاكتفاء بذاته، ولتقول له: إنك في قبضة الله، فارجع إليه، لا إلى وهم الأسباب وحدها، لم تكن معجزة عيسى -عليه السلام- حدثًا تاريخيًا نُودِعه الذاكرة، بل هي تذكرة للأمم كلها، أن لله فعلاً يُبهر، وقدرة تُخرس، ورحمة تشمل، وأنه هو من يُخرج الحيّ من الميت، والنور من الظلمة، والعزة من الذل.
* عندما تنطق الفطرة الطاهرة
حين نطق الطفل في المهد، نطق بالحق، لا بالدفاع عن أمه فقط، بل بإعلان الرسالة: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم: 30).
لقد تكلّم ليُعلّم العالم أن الطهر لا يُدافع عنه بالبكاء، بل يشهد له نور الله، وأن الذي يطعن في الشرفاء ويقذف الطاهرات، ليس لسانه هو منطق الصدق، بل قلبه قد ران عليه الظلام.
* درسٌ لكل من ضاقت به السُبل
في تلك اللحظة الفارقة، سَطعت الحقيقة: أن من يثق بالله لا يخيب، ومن صدّق بوعده لا يُهان، وأن الإيمان الصادق قادر على أن يُغيّر مجرى الطبيعة.
المعجزة لم تكن في الميلاد فقط، بل في كل الطريق: في الصبر، في الثقة، في السكينة التي نزلت على قلب مريم -عليها السلام-
* وفي زماننا هذا…
في زمنٍ تتقاذف فيه الأمة أمواج الفتن، وتتكالب عليها المحن، ويشتد عليها الحصار من داخلها وخارجها، تبدو قصة العذراء التي أنجبت دون زوج، شعاعًا من النور يخترق عتمة الشك والضعف والوهن، إنها ليست حكاية من التاريخ الغابر، بل هي نداء متجدد لكل من أظلمت في عينه الطرق، وتعسّرت أمامه الأسباب: أنِ اثبُت، فالله قادر على خرق قوانين الكون إذا شاء، وناصر لعباده إذا صدقوا.
نحن بحاجة إلى هذا اليقين؛ أن ننظر إلى ما وراء المعادلات البشرية، إلى وعد الله الذي لا يُخلف، إلى قدرة الله التي لا تُقهر، فكما قال تعالى: ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ (مريم: 9)، فلتكن تلك الكلمة الباقية التي نحملها في قلوبنا، نُجدد بها ثقتنا بالله، ونستمد منها عزمنا في مواجهة التحديات، ونبني بها فجرًا جديدًا للأمة، لا يصنعه إلا أولئك الذين امتلأت أرواحهم بـ أنوار اليقين…
بوركتم ولكم مني التحية والسلام
• عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “كلمة رضيع زلزلت القوم: شهادة الإيمان في مهد الطفولة”
* اللهم في خير أيامك، ارزقنا إخلاصًا لا يداخله رياء، وبصيرة لا يعترضها هوى، ووفّق أمتنا لما فيه عزها، وامنن علينا وعلى أبناء شعبنا بالأمن والسلام.
* مقالة رقم: (1979)
* 06. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألإثنين. 02.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
***********
* إرادة الله تُعجز وتُنجِز!
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “أنوار اليقين: بين رحلة التوحيد والإيمان، في زمن التحديات”
* عنوان المقالة: “كلمة رضيع زلزلت القوم: شهادة الإيمان في مهد الطفولة” (3)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
في سجلّ المعجزات الربانية، تتصدّر مشاهد تتحدى قوانين الطبيعة وتفتح نوافذ الدهشة على مصراعيها، ومن أندرها أن ينطق الرضيع بكلمة الحقّ في لحظة فاصلة، ليكون لسانًا للتوحيد، وشاهدًا على صدق الإيمان، إنها قصة الصِّدّيقة مريم وولدها عيسى عليه السلام، حين نطق من مهده معلنًا كلمة التوحيد، فهزّ بها قلوب القوم وأبطل ظنونهم التي كانت من سجاياهم،
لقد كانت مريم -عليها السلام- قد عادت إلى قومها تحمل بين ذراعيها وليدًا ولم يمسسها بشر، فأحاطت بها الألسُن والشكوك، وظنّ الناس بها الظنون، فما كانت بحاجة إلى محامٍ ولا بيان، بل أُمِرت أن تصمت، وتشير فقط إلى المهد، فإذا بالمهد ينبض بالكلام: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم: 29-30). يا للهول! رضيع يتكلم؟ بل يشهد لله بالعبودية، ويعلن نبوته، ويبرّئ أمّه، ويكشف رسالته منذ اللحظة الأولى! إنها كلمة قلبت الموازين، ولم تكن مجرد صوت طفل، بل كانت إعلانًا ربّانيًا بأن مشيئة الله فوق كل مألوف، وأن الرسالة تبدأ منذ اللحظة الأولى حين يشاء الله.
* معجزة لا تُنسى: حين صمتت الطبيعة وتكلم الإيمان
هذا الحدث الجلل لم يكن خرقًا لسنّة الله عبثًا، بل لحكمة عظيمة: أن الله يدافع عن أوليائه ويُظهر آياته في وقت الشدّة، ويجعل من رحم العجز بابًا للنصر، لقد شاء الله أن تكون أولى كلمات هذا الرضيع إعلان عبوديته لله، وليس ادعاء ألوهية كما ضلّ أقوام لاحقون، قال: ﴿إني عبد الله﴾، فكانت هذه أول لبنة في صرح التوحيد، ودرسًا خالدًا لكل من انحرف عن جادّة العقيدة.
وما أعجبها من لحظة! قوم يتجمهرون حول امرأة طاهرة، ظنّوا بها السوء، ولم يتوقّعوا أن يكون الردّ من ذاك الذي في المهد! أيُّ هزّةٍ إيمانية تلك التي خالطت القلوب؟ وأي رعدة سرَت في الأوصال حين سمعوا صوت الرضيع يتكلم وينطق باسم الله؟ لقد سقطت حُجَجُهم، وبُهت الذين كفروا، ووقف التوحيد شامخًا في لحظة مزلزلة.
* كلمة رضيعة أخرى… على لسان الحقّ
وفي الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري ومسلم يخبرنا النبي ﷺ عن ثلاثة نطقوا وهم في المهد، ومنهم غلام امرأة كانت تُرضعه، فرآها تمرّ على رجل حسن الهيئة على فرس، فقالت: “اللهم اجعل ابني مثله”، فنطق الطفل: “اللهم لا تجعلني مثله!”، ثم مرّت أمة تُضرب ويُقال لها زانية، فقالت الأم: “اللهم لا تجعل ابني مثلها”، فقال الرضيع: “اللهم اجعلني مثلها!”، فتساءلت أمه، فأجابه الرضيع بتفسير غيبي عجيب: أن الأول كان جبارًا، والثانية كانت مظلومة.. (البخاري حديث رقم: 3436، 3464)، (مسلم حديث رقم: 2550) ما أعظم ما تحمل هذه القصص من رسائل! حين ينطق الطفل باسم الله، ويفهم الغيب بوحي، ويكون شاهدًا على زيف الظاهر، فاعلم أن لله في خلقه سننًا تتجاوز إدراك العقول، وتوقظ القلوب وتُدهش العقلاء، وتصفع الظالمين.
* دروس من المهد: بين البراءة واليقين
كلمة الرضيع لم تكن مجرد صوت مدهش، بل كانت بلاغًا من الله في زمن الحاجة، وإشعارًا بأن الدفاع عن أوليائه لا يتوقّف على الأسباب البشرية، بل يُساق من حيث لا يُحتسب.
وفي زمن طغت فيه الأصوات العالية، وكثر فيه الباطل، نحن بحاجة لتلك الكلمة النقية الصافية، التي خرجت من فم رضيع، ولم تشُبها مصالح، ولا تلوّثها حسابات، فكانت كلمة حقّ، خالصة لله، هزّت الجموع، وثبّتت التوحيد.
* خاتمة: اليقين يُولد ولو في المهد
ما بين مهد الرضيع وصمت الأم، تجلّت أعظم آيات الإيمان: أن الكلمة قد تخرج من حيث لا يُتوقّع، وأن الله يُظهر نوره ولو كره الكافرون، في زمن التحديات، نحتاج أن نعيد تأمل هذه القصة العجيبة، لا فقط بإعجاب، بل بيقين: أن من يتوكل على الله، يدافع الله عنه، ولو كان لا يزال في المهد… وللحديث بقيّة
بوركتم ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “عجوزٌ حمَلَت: ما لا يخطُر ببال، بشائرُ الرب القدير ”
* اللهم في خير أيامك، ارزقنا إخلاصًا لا يداخله رياء، وبصيرة لا يعترضها هوى، ووفّق أمتنا لما فيه عزها، وامنن علينا وعلى أبناء شعبنا بالأمن والسلام.
* مقالة رقم: (1980)
* 07. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألثلاثاء. 03.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)