مقالات
أنت تخسر إذا لم تقرأ، فقط اعط من وقتك ثلاث دقائق لتكتشف ذلك “رؤية”5-6
هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران - مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية - سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة وعنوانها: * التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* من الترفيه إلى التبلّد: رحلة التحول من إنسان حسّاس إلى متفرج بارد (5)
– في البدء، كان الإنسان يضحك ويبكي من قلبه، كان يندهش لأبسط منظر، ويهتزّ لأدنى مأساة، كان يفتح عينيه على الحياة بعاطفةٍ طازجة، لم تُمزّقها الشاشات بعد، ولم تضعها في قالب الترفيه الجاهز، ثم جاء زمن “السكْر الرقمي”، حيث صار كل شيء مبثوثًا بلا نهاية: مأساة في دقيقة، نكتة في خمس ثوانٍ، بكاءٌ مصطنع، وضحكٌ مُعلّب، ومن هنا تبدأ الرحلة: من الترفيه… إلى التبلّد.
* التسلية… بداية الغرق في الحياد العاطفي
– لم يكن الترفيه عدوًّا في بدايته، بل كان متنفسًا للروح، لكن المحتوى الحديث لم يكتفِ بالتسلية، بل اجتاح الإنسان من الداخل، غيّر تموضعه العاطفي، وأعاد برمجته على ردود فعل فورية، بلا عمق، كل مشهد مأسوي صار “مجرد فيديو آخر”، وكل حكاية إنسانية تحوّلت إلى “ترند” يُنسى بعد يومين.
– كم مرةً بكينا بصدق على مشهد إنساني على الشاشة؟ وكم مرةً شاهدناه ومررنا عليه ببرود لأن قبله كان فيديو ساخر وبعده رقصة؟ لقد اعتدنا على القفز العاطفي، حتى صار فينا شيء يشبه “التصلّب الشعوري”، لا نحب بعمق، ولا نكره بصدق، لا ننغمس، لا نحتج، لا نغضب، لا نبكي… نحن نكتفي بالمشاهدة والصمت.
* المحتوى المتقلب: طاحونة الإحساس البارد
– ما الذي يفعله بك هذا المحتوى المتقلب؟
إنه يسرق ترتيبك الفطري للمشاعر، فلا يعود الحزن حزنًا عميقًا، بل نغمة حزينة لبضع ثوانٍ، ولا تعود المأساة تستدعي التفاعل، بل “إعجابًا” أو “تعليقًا”، وهكذا نتحوّل من كائنات حية تنفعل وتتفاعل، إلى “متفرجين باردين” نستهلك المآسي كأنها فقرات عرض.
* من الاستهلاك إلى الإدمان: كيف نُخدّر أنفسنا؟
– حين يتحوّل الإنسان إلى مستهلك دائم للمحتوى، فإن الحواس تتخدر بالتدريج، فمشهد الدم لم يعد يقلب المعدة، وصوت بكاء الطفل الجائع لم يعد يحرك القلب، لقد امتلأ القلب بالمحتوى حتى خمد، ليس لأننا سيئون، بل لأننا مُنهكون.
– تخيّل آلة تصرخ لك ألف مرة في اليوم: “انظر!”، “تفاعل!”، “اشعر!”، “اضحك!”، “ابكِ!”… ثم لا تتركك لحظة للتنفس.
أليست هذه آلة تعذيب؟ لكنها تغلف نفسها باسم: الترفيه.
* من التفاعل إلى اللا مبالاة: كيف أصبح الإنسان متفرّجًا فقط؟
– ما الفرق بين “الإنسان المتفاعل” و”المتفرج البارد”؟
الأول يرى الحزن فيتحرك ليغيّر، الثاني يرى المأساة، فيحرّك إصبعه فقط للتمرير. هذه النقلة الخطيرة – من القلب إلى الإصبع – هي ما جعل من إنسان اليوم كائنًا غير منخرط في العالم، بل مشاهدًا منفصلًا عنه.
– المتفرج البارد لا يعنيه أن يتألم الآخرون ما دام “المقطع التالي” مسلٍّ أكثر، هو لا يكره أحدًا، لكنه لا يحبّ أحدًا أيضًا، لا يتعاطف، ولا يكره، لا يتبنّى قضايا، ولا يحمل همًّاّ يعيش في حياد مخيف، وكأن كل ما يمرّ أمامه لا يخصّه.
* استعادة الإحساس: العودة من التيه
– إن كنت تقرأ هذه السطور، فاعلم أن بقايا الشعور ما زالت حيّة فيك، وأنك لم تتحوّل كليًا بعد إلى “شاهد غير معني” أو: “شاهد مشفشِ حاجة” والعودة تبدأ من قرار: أن تتوقف، أن تصمت، أن لا تستهلك كل شيء.
اختر أن تشاهد أقل… لتشعر أكثر.
– اختر أن تحذف الضجيج… لتسمع أنين قلبك من جديد.
اختر أن تبكي من عمق، لا من فيديو.
وأن تضحك من روح، لا من مقطع.
* وفي الختام: الإنسان الذي بكى… ثم توقف
– ليس أشد ألمًا من أن ترى إنسانًا يشاهد مأساة، ثم يضحك بعدها بثوانٍ، بلا حرج، بلا توتر. هذا المشهد- الذي يتكرر في حياتنا كل يوم- هو الإعلان الرسمي عن “موت الإحساس البشري”.
فلنُعِد صياغة أنفسنا قبل أن تنطفئ مشاعرنا بالكامل. فلنُعِد اكتشاف البكاء الصادق، والضحك العميق، والتفاعل الحقيقي.
– ربما لا نستطيع كبح طوفان المحتوى، لكننا نستطيع أن نُعيد لأنفسنا حقّ الشعور.
لأننا ببساطة… ما زلنا بشرًا… ولكم مني كلّ تحيةً وسلام
* وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: “الأسرة المشتتة: كيف تُساهم وسائل التواصل في تفكيك الروابط العائلية؟”
إذا أردت أن تربح فاقرأ هذه المقالة، أعط من وقتك ثلاث دقائق إذا تكرّمت!
رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة، عنوان السلسلة:
* التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟
* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
عنوان المقالة:
* الأسرة المشتتة: كيف تُساهم وسائل التواصل في تفكيك الروابط العائلية. (6)
– لم يكن التفكك الأسري يومًا نتيجة زلزالٍ مفاجئ يهدم كل شيء، بل غالبًا ما يبدأ كشقوقٍ صغيرة في جدران المودّة، يتسلل منها البُعد شيئًا فشيئًا، حتى ينهار البناء أو يكاد، واليوم لا شيء يُعمّق تلك الشقوق مثل دوامة المحتوى المتقلب في وسائل التواصل الاجتماعي، التي اجتاحت بيوتنا لا كأدوات للتسلية فقط، بل كقوى تُعيد تشكيل المشاعر والعلاقات والأولويات.
– لقد كان البيت العربي المسلم، على مرّ الأزمان، ملاذًا دافئًا، تُخيط فيه العلاقات بخيوط القرب والحديث، والنقاش والسجال الهادئ، والمشاركة اليومية في تفاصيل الحياة، أما اليوم، فقد أصبح كثيرٌ من بيوتنا مجرّد سقفٍ واحد لذواتٍ متباعدة، يجمعها الجدران وتفرقها الشاشات.
1. الصمت الرقمي: حين تتكلم الأجهزة وتخرس الأرواح
– ما أكثر ما نرى أسرة تجتمع جسديًا حول مائدة الطعام، لكنها مفككة شعوريًا: الأب يُقلب الأخبار، الأم تتابع وصفة جديدة، الابن غارق في لعبة، والابنة تبتسم لشخص لا تعرفه سوى عبر الشاشة، الأصوات الوحيدة الحاضرة: نغمات الإشعارات، وضحكات مصطنعة من مقاطع الفيديو، في حين يغيب الحوار الحقيقي، ويذبل السؤال البسيط: “كيف كان يومك؟”
– وسائل التواصل لم تخلق فقط بديلًا للتواصل الحقيقي، بل جعلت التشتّت عادة، والانتباه الكامل عبئًا، فكيف تُبنى علاقات في بيئة لا يُسمع فيها صوت الروح، ولا يُلتفت فيها إلى لغة العيون، ولا يُعطى فيها أحد وقتًا كاملاً من القلب؟
2. المقارنة المسمومة: حين تُصبح الأسرة ساحة للمنافسة بدل المحبة
– لا تقتصر خطورة هذه الوسائل على التشتّت فقط، بل تتعداها إلى زرع شعور دائم بالنقص وعدم الرضا، فحين ترى الأم صور الأمهات “المثاليات” على إنستغرام، ويُشاهد الأب ما يعرضه الآخرون من رحلات وممتلكات ومظاهر “السعادة المثالية”، تبدأ المقارنات المسمومة، وتتحول العلاقة الأسرية من ساحة للسكينة إلى ساحة للضغط والتوتر واللوم المتبادل.
– يرى الشاب والده “أقل نجاحًا” من والد صديقه، وتجد الفتاة في أمها “نقصًا” مقارنة بأمٍّ لا تعرف عنها إلا ما أراد الحساب أن يُظهره، وهكذا، تتسلل المرارة إلى النفوس، ويُكسر الإعجاب المتبادل، ويضيع الامتنان لصالح توقعات لا تُروى.
3. انزياح المرجعيات: من الحكمة الأبوية إلى مؤثري التيك توك
– ما الذي يحدث حين يصبح المراهق أقرب عاطفيًا لمؤثر على “تيك توك” من والده؟ حين تصبح الفتاة أكثر ثقة في نصائح إنفلونسر؛- هو شخص له تأثير ومتابعين كثُر عبر وسائل التواصل- لا يعرفها من تلك التي تقدّمها أمها؟ حين يُسأل “جوجل” قبل الجلوس مع الجدّ؟
لقد غيّرت وسائل التواصل مرجعيات التعلُّم والنموّ والتوجيه، لتجعلها آنية، متقلبة، مشروطة بعدد المتابعين لا بصدق الكلمة، وهذه ليست فقط إزاحة للسلطة التربوية، بل إفراغ للبيت من جوهره: أن يكون مرسى الحكمة، لا محطة عبور للمحتوى الزائف.
4. الألفة المخدوشة: حين تختفي المساحة الآمنة
– الأسرة هي المساحة التي يُفترض أن نكون فيها “نحن” دون تجميل، دون ضغط، دون مقارنة، لكن حين تنشأ العائلة في ظل وجودٍ دائم على السوشال ميديا، تصبح حتى اللحظات الخاصة مشروعًا للنشر أو التزييف ويبدأ كل فرد في حماية ذاته، في إخفاء ضعفه، خوفًا من أن يُسخّف أو يُقارَن أو يُنتَقَد، لا من العائلة فقط، بل من جمهور مجهول يطلّ على حياتهم من خلف الشاشة.
5. هل من عودة؟
لسنا في معركة خاسرة، ما زال بإمكاننا أن نُعيد لبيوتنا روحها، إن نحن قررنا أن نُحرّرها من العبودية غير المُعلنة للشاشات، الأمر لا يتعلق بإلغاء التكنولوجيا، بل بإعادة ترتيب علاقتنا بها، أن نُحدّد أوقاتًا بلا هواتف، لحظاتٍ للحديث دون مقاطعة، وسهراتٍ لا تشتتها إشعارات.
– نحتاج أن نُربّي أبناءنا على حبّ الجلوس مع الأسرة، لا كواجب ثقيل، بل كملاذ آمن، وأن نستعيد الدفء، بالقصص العائلية، بالسؤال عن تفاصيل اليوم، وبإحياء لحظات الصدق والمشاعر.
في النهاية…
– إذا كانت وسائل التواصل تصوغ مشاعرنا، فلنصغ مشاعرًا أقوى منها داخل بيوتنا، وإذا كان المحتوى المتقلب يربكنا، فلنثبت جذورنا في علاقات لا تهزّها العواصف.
– الأسرة ليست صورة على فيسبوك، ولا فيديو على إنستغرام، أو على تك توك، الأسرة حياةٌ حقيقية، لا تكتمل إلا بالصدق، والاهتمام، والحضور… ولكم مني كلّ تحيةً وسلام
* وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: ” الدعاية السامة: كيف تؤثر الإعلانات المتكررة على قراراتنا واستهلاكنا؟ ”
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1936)
* 21. شوال . 1446 هـ
* ألسبت. 19.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب )