مقالات
رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟

* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* الانفعال السريع والانطفاء العاطفي: كيف تُعيد وسائل التواصل تشكيل مشاعرنا؟ (3)
* في زمن السرعة، من تبقّى لِيَتأمّل؟
لم تُعد مشاعرنا تنمو كما كانت تنمو في زمن الرسائل الورقية والبُعد المكاني، اليوم باتت تُختزل في رموز، وتُبثّ في ثوانٍ، وتُستهلك في لحظة عابرة، وسائل التواصل الاجتماعي لا تُعبر عن مشاعرنا فقط، بل تعيد تشكيلها من الداخل، تُعيد هندسة الجهاز العاطفي في عقولنا، وتجعلنا أكثر عرضة للانفعال السريع، وأقل قدرة على التعمق والتأنّي، نشتعل فجأة… ثم ننطفئ بسرعة أكبر.
* الانفعال السريع: ثقافة الضغط على الزر
حين نقرأ خبرًا أو نرى مقطعًا مؤثرًا، نجد أنفسنا ننفعل فورًا: غضب، حزن، ضحك، تعاطف… كلها مشاعر تُفجَّر في لحظات قصيرة، وسائل التواصل لا تمنحك الوقت لتتأمل، بل تدفعك للردّ السريع، للانخراط في التفاعل الفوري: اضغط “أعجبني”، “غاضب”، “شارك”، “علّق”.
بهذا، يتحول الإنسان من كائن يُنضِج مشاعره بالتجربة والوعي، إلى كائن يستهلك المشاعر مثلما يستهلك مقطعًا قصيرًا أو “ريلز” عابرًا، هذا السلوك يغذي ردّات الفعل أكثر من بناء المواقف.
* الانطفاء العاطفي: الإرهاق من التكرار
في المقابل، كثافة المحتوى العاطفي على مدار اليوم تُحدث ما يشبه “التخدير العاطفي”، فكم مرة رأيت صورة لطفل يبكي، أو أم ثكلى، أو مأساة إنسانية… ثم مررت عليها وكأنها إعلان آخر؟
– نحن لا نكفّ عن الانفعال، ولكن هذا الانفعال لم يَعُد يثمر تعاطفًا حقيقيًا أو موقفًا فعليًا، بل أصبح ردة فعل “افتراضية” لا تتعدى الشاشة.
– هذا التكرار يُنتج ما يسميه علماء النفس “الإنهاك العاطفي”، حيث يفقد الإنسان قدرته على التأثر الطبيعي، ويبدأ يمر على مشاهد الألم بنفس البرود الذي يمر فيه على الإعلانات، وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن يتحول القلب إلى شاشة باردة، لا تنفعل إلا بصوت المؤثرات.
* من صناعة المشاعر، إلى صناعتها ضدنا!
وسائل التواصل تُصنع وتُدار بخوارزميات تهدف إلى جذب الانتباه، ولذا فإن المحتوى العاطفي المثير يُروَّج له أكثر من غيره، هذا يعني أن مشاعرنا أصبحت سلعة، وأن انفعالاتنا ليست تعبيرًا عن ذاتنا، بل نتيجة لما قررته خوارزمية مهتمة بالربح والإدمان.
– وبالتالي، نحن لا نتحكم بمشاعرنا كما نظن، بل نُقاد أحيانًا بانفعالات لا علاقة لها بتجربتنا الشخصية، بل بتجربة خُطط لها لتثير استجابتنا.
* كيف نستعيد توازننا العاطفي؟
– الوعي أولاً. يجب أن نُدرك أننا نعيش في بيئة رقمية تعيد تشكيل طريقة شعورنا وتفاعلنا، لا يكفي أن نكون مستخدمين أذكياء، بل يجب أن نكون “شهودًا” على أنفسنا: متى انفعَلْنا؟ لماذا؟ هل استحق الأمر ردّة فعلنا؟ هل المشهد الذي رأيناه يُبرر حالة الحزن التي دخلنا فيها؟ وهل استمر هذا الحزن ليقودنا لفعل ما؟ أم أننا انطفأنا بعد لحظات؟
– ثانيًا، الانسحاب الواعي من كثافة المحتوى العاطفي ضرورة روحية وعقلية، لا يجب أن نُحمّل أنفسنا عبء كل مشهد مؤلم في العالم، فليس من الإنسانية أن نحترق لأجل كل شيء، بل من الحكمة أن نعرف متى نحزن، وكيف نحزن، ولماذا.
– وأخيرًا، لنعد لتأمل مشاعرنا بعيدًا عن الزحام الرقمي. لنسأل أنفسنا بصدق: من نكون في ظل هذا الطوفان من الانفعالات؟ وهل ما نشعر به يُشبه ما كنا سنشعر به لو لم تكن بيننا وبين العالم شاشة؟..ولكم مني تحيةً وسلام
• وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: “هل ما نشاهده يوميًا يُغيّر من شخصياتنا؟ نظرة في التأثيرات السلوكية العميقة”
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1933)
* 18. شوال . 1446 هـ
* ألأربعاء. 16.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)