مقالات

نظرية المعرفة عند ابن رشد ؛ العقل، التجربة، والتأويل الفلسفي

سالم بفوت

“تُعد نظرية المعرفة عند ابن رشد تجليًا فريدًا لمشروع فلسفي عقلاني أراد به الفيلسوف الأندلسي أن يوفق بين الفلسفة والدين، وأن يؤسس لعلاقة صحية بين العقل والنقل، بعيدًا عن الجمود النصي أو الانغلاق الدوغمائي. ينطلق ابن رشد من تصور معرفي عقلاني يرى في العقل أداة جوهرية لفهم الوجود، ويعتبر أن الإنسان، بما هو كائن عاقل، يمتلك قابلية فطرية لاكتساب المعرفة عبر الحواس أولًا، ثم العقل ثانيًا، في تدرج متصاعد نحو التجريد والكليّات.

يرى ابن رشد أن المعرفة تبدأ بالحس والتجربة، أي أن الإدراك الحسي هو أولى خطوات التلقي المعرفي، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يرى أن الحواس تُزود العقل بالمعطيات الأولية، التي يعالجها ليصوغ منها مفاهيم كلية. ومن هنا يتأسس البعد العقلي في نظرية المعرفة لديه، حيث يحتل العقل مكانة مركزية بوصفه جوهر الإدراك، وغايته بلوغ الحقيقة عبر التأمل المنطقي والاستدلال البرهاني. وهذا يُميز ابن رشد عن بعض المتكلمين الذين عولوا على النقل والتسليم أكثر مما عولوا على البرهان.

في مشروعه التأويلي، يظهر ابن رشد كمدافع شرس عن تطابق العقل والشريعة، مؤكدًا أن الحقيقة واحدة، سواء أدركناها بالفلسفة أو بالدين، ومن ثمّ فإن الاختلاف بين الظاهر الديني والمضمون الفلسفي ليس اختلاف تضاد، بل اختلاف تأويل. المعرفة عند ابن رشد لا تنفصل عن التأويل العقلاني للنصوص، ولهذا نجده يدعو إلى ضرورة تأويل النصوص الشرعية إذا تعارض ظاهرها مع البرهان العقلي اليقيني، مستشهدًا بقاعدة أصولية تقول: “ما أدى إلى اليقين فهو حق، وإن خالف ظاهر الشرع”. بهذا، يقيم ابن رشد نظرية معرفية تتجاوز ثنائية النقل/العقل، لتؤسس لتكامل خلاق بينهما.

كما يرتبط موقفه المعرفي بتقسيمه الشهير لأنواع الخطاب المعرفي إلى ثلاث مراتب: الخطابة، الجدل، والبرهان. ويرى أن أغلب الناس لا يستطيعون إدراك الحقيقة إلا من خلال الخطابة والموعظة، بينما يتوجه الجدل إلى أهل الكلام وأصحاب المذاهب، أما البرهان فهو أعلى مراتب اليقين، ويختص به الفلاسفة والمتأملون في الوجود. بهذا التصور، يضع ابن رشد سلمًا معرفيًا يُفاضل فيه بين الطرق المؤدية إلى الحقيقة، دون أن يُقصي أحدًا، لكنه يُميز بشكل حاسم بين درجات الإقناع وقوة الحجة.

ولا يمكن إغفال الأثر الأرسطي العميق في نظرية المعرفة عند ابن رشد؛ فقد سار على خطى أرسطو في التأكيد على أهمية التجربة والعقل كوسيلتين للوصول إلى العلم الحقيقي، لكنه لم يكن مجرد شارح للفلسفة اليونانية، بل مفكرًا مجددًا أعاد توطين الفلسفة في السياق الإسلامي. وقد اتضحت عبقريته في كتابه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، حيث أسس لمفهوم جديد للمعرفة يجمع بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين) باعتبارهما طريقين متكاملين لا متعارضين إلى الحقيقة.

إن نظرية المعرفة عند ابن رشد هي في جوهرها دعوة لتحرير العقل من التبعية العمياء للنص، دون أن تقطع صلته بالوحي، وهي بذلك تعبر عن أرقى محاولات الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط لتحقيق توافق بين الدين والعقل، بين الإيمان والبرهان، بين الوحي والفلسفة. وقد كان لهذا المشروع تأثير كبير في الفكر الأوروبي اللاتيني، حيث اعتُبر ابن رشد “المعلم الثاني” بعد أرسطو، وأسهمت شروحاته ونظريته المعرفية في تأسيس ملامح العقلانية الحديثة في أوروبا.

في النهاية، فإن نظرية المعرفة عند ابن رشد ليست مجرد مقولات فلسفية مجرّدة، بل هي رؤية حضارية تهدف إلى بناء مجتمع يستنير بالعقل، ويُقدّر المعرفة، ويجعل من الفهم والتأويل أساسًا للتعايش والتقدم. ولهذا فإن إعادة قراءة مشروعه المعرفي اليوم تظل ضرورة فكرية، في ظل ما يشهده العالم العربي من أزمات فكرية ومعرفية تتعلق بمكانة العقل وحدود التأويل.”

د.حمدي سيد محمد محمود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق