مقالات
رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: (أدبِ الخِلاف في الإسلام)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* المقالة الأخير في السلسلة
* نماذج من أدب الخلاف عند العلماء (12)
ما من أمة من الأمم إلا ويعتريها الخلاف، ولكن الفرق الجوهري يكمن في كيفية التعامل معه، وقد أرسى علماء الإسلام قواعد رفيعة لأدب الخلاف، شكّلت تراثًا تربويًا وأخلاقيًا يعكس عمق الفهم وسَعة الصدر وصدق النية، وفي هذه المقالة الختامية من سلسلة “أدب الخلاف في الإسلام”، نعرض نماذج مضيئة من حياة العلماء، تُجسد بأفعالهم لا بأقوالهم كيف يكون الخلاف رحمة، إذا ضُبط بالمنهج الرباني والأدب النبوي.
1. الشافعي ومالك: خالفه في الرأي وأجله في القلب
كان الإمام الشافعي من كبار تلامذة الإمام مالك بن أنس، ومع ذلك خالفه في كثير من المسائل الفقهية، بل ألّف في الرد عليه، كما في “الرسالة” و”الأم”، ولكنه قال عن مالك: “إذا ذُكر العلماء فمالك النجم”، وكان يقول: “ما رأيت أحدًا أعظم في نفسه من مالك، كان إذا ذكر النبي ﷺ احمرّ وجهه وتغير حاله هيبة له ﷺ”، لم يمنعه الخلاف الفقهي من تعظيم شيخه وتقديره، ولم يُغيّب عنه فضله أو مكانته.
2. الشافعي ومحمد بن الحسن: مناظرة في الحبّ والاحترام
التقى الإمام الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، ودار بينهما حوار طويل في مسائل الفقه، استمرت أيامًا، وبعد أن انتهت المناظرات، قيل للشافعي: “كيف رأيت محمد بن الحسن؟” قال: “رأيته يناظِر ليُنصف لا ليُغلب، ويُراجعني إذا أخطأت، ويَقبل مني إذا أصبت، فلما افترقنا قال لي: ألا يزال الود بيننا؟ فقلت: نعم، وإن لم نتفق”، هذا هو أدب الخلاف حين يسمو بالقلوب فلا يجعلها أسيرة لنتائج الجدل.
3. الذهبي وابن تيمية: النقد مع الحفاظ على الهيبة
الإمام الذهبي، مع حبّه الشديد لشيخه ابن تيمية، لم يمنعه ذلك من أن يخالفه أحيانًا في بعض القضايا، بل كتب له ناصحًا في رسالة مشهورة: “يا شيخنا، إنك رجل لك باع طويل في العلم، وقلّ أن يجهلك أحد، ولكنك تكلّمت في مسائل لو سكتّ عنها لكان خيرًا، وخصومك يتربصون بك”، ومع هذا كان يترجم له في “السير” بأجمل العبارات ويثني على علمه وزهده وفضله.
4. النووي والرازي: الخلاف لا يمنع الثناء
الإمام النووي، في شرحه لصحيح مسلم، خالف فخر الدين الرازي في بعض مسائل العقيدة، ومع ذلك قال فيه: “كان من أذكياء العالم، وله كتب نافعة، وكان مقصدُه الخير، وإن خالف في بعض الأمور”، لم يمنعه الخلاف العقدي من حسن الظن بأخيه وذكر فضله وإحسانه.
5. ابن عبد البر والخطابي: النقد الموزون
كان ابن عبد البر يخالف الخطابي في بعض تأويلاته الحديثية، ويُشير إلى ذلك، ولكنه يقول عنه: “وهو من أهل العلم والدين، وكان واسع الرواية، حسن القصد، مشتهرًا بالخير”، فجمع بين النقد المنهجي، والثناء العادل، وهذا هو التوازن الذي يفتقده كثيرون.
* ومضة أخيرة: لنُحيي هذا الأدب في واقعنا
لسنا بحاجة إلى اجتهاد جديد في أدب الخلاف، بل نحن بحاجة إلى قلوب تحسن الظن، وألسنة تضبط الكلمة، وعقول لا تضخم الجزئيات، أدب الخلاف ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة ملحة لصون وحدة الصف وحماية الثوابت من التآكل، وإذا أردنا نهضة علمية حقيقية، فلنبدأ من حيث بدأ العلماء: بإخلاص النية، وتعظيم الحق، وتوقير المخالف مهما اشتد الخلاف.
* خاتمة: تربية قلب قبل بناء فكر
• إن النماذج السابقة تدل على أن أدب الخلاف لم يكن عند العلماء مجرد تنظير، بل سلوك متجذر في نفوسهم، نابع من صدق النية، وتعظيم الحق، والرحمة بالخلق، كانوا يعلمون أن الخلاف سنة كونية، ولكن الفجور في الخصومة والانتصار للنفس ليس من الدين في شيء ولذا، تركوا لنا هذا الإرث العظيم من النماذج العملية، التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
– إننا اليوم، في عصر تكثر فيه المنابر وتقل فيه الأخلاق، مدعوون لاستعادة هذا النَفَس العلمي والأخلاقي، فنعيد للخلاف بهاءه، وللأدب منزلته، وللعلم حرمته.. ولكم مني التحيّة والسلام.
• ،اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1930)
* 15. شوال . 1446 هـ
* ألأحد. 13.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)