مقالات
هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: (أدبِ الخِلاف في الإسلام)

رؤية
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* نحو ثقافة خلاف بنّاء: خطوات عملية (9)
– في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الأحداث وتتباين فيه الآراء، يُصبح الخلاف أمرًا لا مفر منه، بل علامة على حيوية المجتمعات وتعدد زوايا النظر، لكن المشكلة ليست في وجود الخلاف، بل في كيفية إدارته: هل نبني به أم نهدم؟ وهل نرتقي من خلاله أم ننحدر؟
– لقد علّمنا الإسلام منذ بواكيره أن الخلاف سنة كونية، قال تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين﴾ (هود: 118)، فكان الاعتراف بالاختلاف مقدمة لآداب التعامل معه، لا ذريعة للقطيعة أو التباغض.
– فما الذي يجعل الخلاف بنّاءً لا هدامًا؟ وما الخطوات العملية التي يمكن أن نتخذها لتحويل اختلافاتنا إلى جسرٍ للحوار والتكامل بدل أن تكون سيفًا للخصومة والانقسام؟
1. تصحيح النية: الخلاف بحثٌ عن الحق لا انتصار للنفس
أول ما يُصلح الخلاف هو أن نتذكر لماذا نختلف؟ هل الهدف الوصول إلى الصواب، أم إثبات الذات والهيمنة بالرأي؟ كان الإمام الشافعي يقول: “ما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يُوفَّق ويُسدَّد ويُعان، وما كلمت أحدًا قط إلا ولم أُبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو على لسانه.”
2. الفصل بين الفكرة وصاحبها
علينا أن نناقش الأفكار لا الأشخاص، وأن نُبقي مساحة الاحترام محفوظة مهما اختلفت وجهات النظر، ننتقد القول لا القائل، ونعترض على الرأي دون أن نمسّ الكرامة أو النوايا، فكم ضيّع الناس من الحق بسبب شخصنته، وكم أضاعوا من الحكمة حين مزجوها بالهوى.
3. إتقان مهارات الحوار
الخلاف لا يُدار بالصوت المرتفع، بل بالحُجَّة والإنصات والتدرج في الطرح. والنبي ﷺ كان يستمع حتى للمعترضين عليه، ويُحاورهم بكل أدبٍ ولين، ويُقدّم لهم الدليل والبيان قبل الحُكم أو الرد.د، وقد قال الله تعالى: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ (النحل: 125).
4. الاعتراف بجزئية الحق لدى الآخر
ليس من شرط الاتفاق أن يُسلّم أحد الطرفين بكل شيء للآخر، فقد يكون في كل رأي شيء من الصواب، وقد تتكامل الآراء لتُنتج رؤية أوضح، وهنا يظهر نُضج الإنسان الذي يملك الجرأة ليقول: “أخطأت”، أو “أصبت في كذا لكن جانبك الصواب في كذا”.
5. التمييز بين الثوابت والمتغيرات
ليست كل المسائل سواء، فهناك ثوابت لا تحتمل الخلاف (كأصول العقيدة)، وهناك مساحات واسعة للاجتهاد والخلاف السائغ، من الخطأ أن نتعامل مع كل اختلاف كما لو كان على أمر قطعي، الفقهاء اختلفوا قرونًا في المسائل الفرعية، ولم يمنعهم ذلك من التزاور والتعاون.
6. عدم تحويل الخلاف إلى قطيعة
من المؤلم أن ترى إخوة في الدين والعلم أو حتى في البيت، يفترقون لأجل رأي اجتهادي أو موقفٍ عابر، فحتى إن اشتد الخلاف، تبقى الأخوّة فوق كل اعتبار، قال سفيان الثوري: “إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد له عذرًا فقل: لعل له عذرًا لا أعلمه.”
7. القدوة في الخلاف
ليكن سلوكك في الخلاف دعوة بحد ذاته، لا فقط أقوالًا أو تنظيرًا، فحين يرى الناس أن الاختلاف لم يفسد المودة بينك وبين من تخالفه، سيعيدون التفكير في تعاملهم مع من خاصموهم.
خاتمة:
الخلاف البنّاء لا يعني غياب التباين، بل حضور الأدب، والنية الصادقة، والتواصل الراقي، إنه طريق منضبط لا يُلغِي أحدًا، بل يحتضن الجميع في إطار التكامل والتعاون، فلنربِّ أنفسنا وأبناءنا على هذه الثقافة، ولنكن جزءًا من الحل، وليس جزءًا من المشكلة، ولا سببًا في تأجيج الخصومة.
فهل نبدأ اليوم، بخطوة واحدة على الأقل، نحو خلافٍ أكثر نضجًا وأدبًا؟.. ولكم مني التحية والسلام
• عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: “الخلاف بين الصحابة: دروس في الإنصاف وضبط النفس”
• اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1927)
* 12. شوال . 1446 هـ
* ألخميس. 10.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)