مقالات
رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: (أدبِ الخِلاف في الإسلام 5-6)
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول:
(أدبِ الخِلاف في الإسلام)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* كيف نختلف دون أن نفترق؟ (5)
الاختلاف هو سنة من سنن الحياة، وهو جزء طبيعي من العلاقات الإنسانية، فكل فرد يحمل فكرًا ورأيًا مختلفًا عن الآخر، وهذا الاختلاف قد يكون مصدرًا للتحدي، ولكنه أيضًا يمكن أن يكون مصدرًا للغنى الفكري والتنوع الاجتماعي، من هنا، يصبح السؤال: كيف نختلف دون أن نفترق؟ كيف يمكننا أن نحافظ على الاحترام والمحبة رغم اختلافاتنا؟
في الإسلام، نجد أن أدب الخلاف يتسم بالحكمة والمرونة، ويقوم على مبادئ أساسية تضمن الحفاظ على روابط الأخوة والتفاهم بين الناس، لننظر في بعض هذه المبادئ.
* أولًا: التفاهم والاحترام المتبادل
الاختلاف في الرأي لا يعني الهجوم على الشخص الآخر أو انتقاده بشكل جارح، من المهم أن نتذكر أن احترام الآخر في حالة الاختلاف هو من أسمى المبادئ الإسلامية، يقول الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: 83). يجب أن يكون اختلافنا مبنيًا على احترام فكر الآخر دون التقليل من قيمته الإنسانية.
* ثانيًا: التفريق بين الشخص والفكرة
من المهم أن نفرق بين رأي الشخص وشخصيته، إذا اختلفنا مع شخص حول فكرة أو رأي، فلا يعني ذلك أننا نختلف معه كإنسان، الإسلام يدعو إلى الحفاظ على العلاقات الإنسانية حتى في حالات الخلاف، في الحديث الشريف، قالرسول الله ﷺ: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” (متفق عليه). هذه دعوة واضحة لبناء العلاقات على أساس من التعاون والمساندة، وليس على التفكك بسبب الاختلاف.
* ثالثًا: حسن الاستماع والتواضع
من أساسيات أدب الخلاف في الإسلام أن نستمع جيدًا للآخرين، وأن نكون متواضعين في طرح آرائنا، يجب أن نكون مستعدين للاستماع إلى الآخرين بفهم وبدون تعصب، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تَفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ (البقرة: 11). الاحترام هنا يظهر في أننا ننصت بعناية لما يقوله الآخر، وأن نكون على استعداد لتغيير رأينا إذا تبين لنا خطأه.
* رابعًا: تجنب التصعيد والتهجم
في حالات الخلاف، يجب تجنب التصعيد أو التهجم على الشخص الآخر، فالإسلام يحث على التعامل مع الخلافات بهدوء فالتعامل مع الخلافات بروح من التسامح والتفاهم يجعل الاختلافات لا تؤدي إلى التصعيد أو التقاطع.
* خامسًا: التواصل الجيد والوضوح
أحد الأسباب الرئيسية لاختلافاتنا هو نقص التواصل الجيد والوضوح، إذا تم توضيح الأفكار بشكل دقيق وصريح، قد يتضح للآخرين أننا لا نختلف معهم كما يظنون، في القرآن الكريم، نجد دعوة مستمرة إلى حسن التعامل مع الآخرين والتواصل معهم بشكل جيد، يقول الله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76)، وهذا يشير إلى أن التواضع في الفكر والاستعداد لتقبل المعرفة من الآخرين هي من السمات التي يجب أن نتحلى بها في حياتنا اليومية.
* سادسًا: التسامح والمرونة
أحد المبادئ الأساسية التي يدعونا إليها الإسلام في أدب الخلاف هو التسامح. الاختلاف ليس سببًا للفرقة، بل هو فرصة للتعلم والنمو، التسامح لا يعني التنازل عن المبادئ، ولكن يعني القدرة على التعايش مع الاختلافات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من لا يغفر لا يُغفر له” (رواه البخاري في الأدب المفرد)، وهذا يظهر أهمية التسامح في حياتنا اليومية، خاصة عند التعامل مع الخلافات.
* سابعًا: التوجه نحو المصالح المشتركة
في حالات الاختلاف، يجب أن نبحث دائمًا عن المصالح المشتركة التي يمكن أن تجمعنا، فالإسلام يحثنا على أن نعمل معًا لتحقيق الخير المشترك وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾ (المائدة: 2). البحث عن النقاط التي نتفق عليها يساعد في تخفيف حدة الخلافات ويسهم في تعزيز التعاون والتفاهم.
* ثامنًا: عدم الإصرار على رأي معين
في الخلافات الفكرية والعلمية، يجب أن نتجنب الإصرار على آرائنا بشكل تعصبي، في الإسلام، يُشجع المسلم على أن يكون منفتحًا على الحق والتعلم من الآخرين، كما قال ﷺ : “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (متفق عليه). هذا المبدأ يدعونا إلى أن نكون متواضعين في آرائنا، وأن نكون مستعدين لتقبل الرأي الآخر.
* خاتمة
في الختام، يجب أن نعلم أن الاختلاف ليس سببًا للفرقة، بل هو جزء من طبيعة الحياة، يمكننا أن نختلف ونبقى متحابين، إذا تعاملنا مع الخلاف بحكمة واحترام وتفهُّم، الإسلام يضع لنا أدبًا رفيعًا في التعامل مع الاختلافات، ونحن مطالبون بأن نلتزم بهذه المبادئ لنحافظ على علاقاتنا الإنسانية والدينية في مجتمعنا.
• عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: “خطاب التهجم والتجريح: كيف يفسد بيئة الحوار؟” (5)
• اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1923)
* 08. شوال . 1446 هـ
* الأحد. 06.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
أعطِ من وقتك ثلاث دقائق، لن تخسر
رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول:
(أدبِ الخِلاف في الإسلام)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* خطاب التهجم والتجريح: كيف يفسد بيئة الحوار؟ (6)
– في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التفاعل عبر الوسائط المختلفة، يُصبح الخطابُ أكثر من مجرد كلمات تُقال؛ بل هو رسالةٌ تُشكّل العقول، وتصوغ المواقف، وتبني الجسور أو تهدمها، وفي قلب هذا المشهد المتأجج، يبرز خطاب التهجم والتجريح كأداةٍ هدّامة، تُفسد بيئة الحوار، وتُحول ساحاته من منصاتٍ للتلاقي والتفاهم إلى معاركٍ للإقصاء والإفحام، والسؤال الذي يجب أن يُطرح بجدّية: كيف وصلنا إلى هذا الانحدار في لغة الخطاب؟ وهل يمكن أن نجد في الإسلام دواءً لهذا الداء؟
– لقد جاء الإسلام ليبني الإنسان، ولينشئ أمةً راقية في أخلاقها، سامية في حوارها، متجردة في سعيها للحق، ولذلك كانت الأخلاق هي البُنية التحتية لأي نقاشٍ أو حوار، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾(البقرة: 83). وهذا أمرٌ عام، يشمل المؤمن والكافر، الصديق والخصم، فكيف إذا كان الحوار بين إخوةٍ في الدين أو أبناء وطنٍ واحد؟
– خطاب التهجم والتجريح ليس مجرد انفعالٍ عابر، بل هو انحرافٌ عن منهجٍ قرآني أصيل في الحوار، انظر إلى منطق القرآن في حواره مع أهل الكتاب: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (العنكبوت: 46). فحتى في مقام الخلاف العقائدي، يأمرنا الإسلام أن لا نتجاوز حدود الأدب، ولا نغرق في مستنقع السباب والتجريح.
– عندما يسود خطاب التهجم، تُستبدل الحجة بالشتيمة، ويُغتال المقصد النبيل من الحوار، ولا يعود الهدف الوصول إلى الحق أو تقريب وجهات النظر، بل يتحول إلى محاولة للنّيل من الآخر، إسقاطه، تشويهه، حتى لو كان على حساب الحقيقة، وهنا يُصاب المتلقي بالحيرة: أهذا حوار أم تصفية حسابات؟ أهذا فكر أم نزوة غضبٍ مقنعة؟
– ولعل أخطر ما في هذا الخطاب، أنه يخلق بيئةً خانقة لا تُنتج معرفة، ولا تُثري النقاش. إذ يشعر الناس بالخوف من التعبير عن آرائهم، خشية التهجم عليهم، فيسود الصمت أو النفاق، وتغيب حرية التعبير الحقيقية، فيتحول المجتمع إلى حقل ألغامٍ لفظية، يَخشى فيه الناس الكلمة قبل أن ينطقوها، وتُدفن فيه القضايا قبل أن تُناقش.
– إن النبي ﷺ وهو أبلغ مَن نطق بالحجة، ما كان فاحشًا ولا مُتفحشًا، وكان إذا خالفه أحدٌ لا يرد إلا بأدبٍ جمّ، بل انظر إلى قوله: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه» (صحيح مسلم). فلو طبقنا هذا الحديث على واقع الحوار اليوم، لوجدنا أن غياب الرفق هو الذي شانه، وأن التهجم هو ما أفسد معناه.
– إن الحاجة إلى مراجعة خطابنا اليوم باتت ضرورة حضارية، وليست ترفًا لغويًا. فالأمم تُقاس برقيّ خطابها، كما تُقاس بقوتها الاقتصادية والسياسية، وإذا أردنا أن نبني نهضة حقيقية، فعلينا أن نبدأ من اللسان، من الكلمة، من طريقة مخاطبة الآخر.
– أيها القارئ الكريم، لنعُد إلى نبع الإسلام الصافي، حيث كان الحوار طريقًا إلى الهداية، لا وسيلةً للإقصاء، ولنجعل من أدب الخطاب مِقياسًا لمستوى وعي المجتمع، لا مجرد زينة لفظية نُجمّل بها الخُطب، فالكلمة إمّا أن تبني أو تهدم، وإما أن تفتح قلبًا أو تُغلق عقلًا.
– فلنحذر من أن نُفسد بألسنتنا ما بنيناه بسنين من الجهد والفكر، ولنعلم أن صوت الحق لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى وضوحٍ وصدقٍ واحترام…ولكم منّي التحيّة والسلام
• عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: “دور الإعلام في تأجيج الخلافات أو تهذيبها ” (6)
• اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1924)
* 09. شوال . 1446 هـ
* الأثنين. 07.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)