مقالات

منهج التقويم القمري: رؤية إسلامية عبد الحفيظ الندوي

يُعَدّ موضوع التقويم القمري أحد القضايا التي تُناقَش على نطاق واسع داخل المجتمع الإسلامي اليوم على مستوى العالم. فالزمن ضرورةٌ لا غنى عنها للبشرية جمعاء، بغض النظر عن الدين أو الموقع الجغرافي أو اللغة. فمنذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا، تبنّى الإنسان أساليبَ متنوعة لحساب الزمن، بعضها اندثر بمرور الزمن، وبعضها الآخر خضع للتعديل والتطوير ليستمر في الاستخدام.

عند دراسة مناهج التقويم المختلفة التي تتبعها الأديان والمذاهب المختلفة، نجد أنها غالبًا ما تعكس رؤيتها العقائدية الخاصة. إلا أنّ الإسلام، بصفته دينًا عالميًا، قدّم للبشرية جميعًا منظومة متكاملة من المبادئ التي تضمن تنظيم الحياة بأفضل شكل ممكن، دون إمكانية الاستعاضة عنها ببدائل أخرى. ومع ذلك، فإن الإسلام لا يفرض هذه المبادئ قسرًا، بل يمنح الإنسان حرية الاختيار، لكنه يحذّره من أن تجاهل هذه التوجيهات قد يؤدي إلى عواقب في الدنيا والآخرة.

من هنا، فإن أيّ أمرٍ ورد فيه نصٌّ واضحٌ من الله ورسوله ﷺ لا ينبغي للمسلم أن يبحث له عن بدائل أخرى. إلا أنّ واقع المسلمين اليوم يعكس أنهم قد ابتعدوا عن التوجيهات الإسلامية بشأن التقويم القمري، مما أدى إلى ظهور نقاشات ومحاولات للإصلاح والتصحيح داخل الأمة نفسها. لذا، من الضروري دراسة طبيعة الزمن وفهم موقع التقويم القمري ضمن الرؤية الإسلامية.

الزمن في الإسلام

يرى الإسلام أنّ الزمن هو وعيٌ يرافق حياة الإنسان وأحداثها، وهو معيار لتقييم النجاح والفشل في الدنيا. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في سورة العصر، حيث أقسم الله تعالى بالزمن، وبيّن أنّ الفلاح الحقيقي يقوم على أربعة أسس:

1. الإيمان بالحق.

2. العمل بمقتضى هذا الحق.

3. التواصي بالحق.

4. التواصي بالصبر.

 

فمن يغفل عن هذه المبادئ يقع في الخسران. كما أن أركان الإسلام الخمسة تتماشى مع وحدات الزمن الأساسية، مما يدل على أن التقويم الإسلامي ليس مجرد وسيلة لتحديد التواريخ، بل هو جزء من هيكلة الحياة الإسلامية:

الشهادة: تمثل كل لحظة في حياة المسلم.

الصلاة: تقسم اليوم إلى خمس فترات، فيما يجمع صلاة الجمعة بين أيام الأسبوع.

الزكاة: تعتمد على دورة السنة القمرية التي تمتد 12 شهرًا.

الصيام: مرتبط بالشهر القمري، الذي قد يكون 29 أو 30 يومًا.

الحج: يمثّل دورة حياة الإنسان، ويُحسب بالسنوات القمرية.

القرآن والتقويم القمري

لقد وضّح القرآن الكريم بشكلٍ لا يقبل اللبس العلاقة بين الزمن والتقويم، وذلك عبر ثلاثة تعابير رئيسية:

1. “لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ”

جاء هذا التعبير في قوله تعالى:

﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (يونس: 5)

ويظهر هذا المصطلح أيضًا في سورة الإسراء:

﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ (الإسراء: 12)

تؤكد هذه الآيات أن الهدف من جعل الشمس والقمر في نظام محدد هو معرفة عدد السنوات وحساب الزمن، ما يدلّ على ضرورة اعتماد نظام زمني دقيق يتماشى مع الفطرة الكونية.

2. التقويم كظاهرة كونية شاملة

تُخاطب هذه الآيات جميع البشر، وليس فئةً أو مجموعة دينية معينة، مما يدل على أن مفهوم الزمن والتقويم ليس مقصورًا على المسلمين، بل هو جزء من النظام الإلهي الشامل الذي ينظم حياة البشرية.

3. “ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ”

يصف القرآن الكريم المنهج الإسلامي بأنه “الدِّينُ الْقَيِّمُ”، أي المستقيم الثابت الذي لا اعوجاج فيه. وقد استخدم هذا المصطلح لوصف القرآن نفسه في سورة الكهف:

﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًۭا ۜ قَيِّمًۭا﴾ (الكهف: 1-2)

وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية، بما في ذلك التقويم القمري، هي نظام متكامل ومستقيم لا يقبل التغيير أو الاستبدال.

الخلاصة

إنّ التقويم القمري ليس مجرد نظام لحساب الأيام والشهور، بل هو جزء من النظام الإسلامي الأشمل الذي ينظم حياة المسلمين وفقًا للأوامر الإلهية. وقد أكّد القرآن الكريم على أن الزمن هو أحد الشواهد الكبرى على حكمة الله في تنظيم الكون، وأن التقويم القمري هو المعيار الذي ينبغي أن يعتمد عليه المسلمون في عباداتهم وأعمالهم.

إنّ أي محاولة لاستبدال هذا النظام بنظم أخرى تتجاهل الفطرة الكونية التي أقامها الله، وتبتعد عن النهج الإسلامي القويم. ومن هنا، فإن المسلمين مدعوون للعودة إلى التقويم القمري، ليس لمجرد كونه تقويمًا دينيًا، ولكن لأنه جزء لا يتجزأ من النظام الذي أرساه الله لتنظيم حياة البشر في الدنيا والآخرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق