مقالات

رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * إعلام الداخل الفلسطيني: بين التوجيه والتضليل (4) (5)(6)(7) (8)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* من يملك الإعلام؟ قراءة في مراكز التأثير والتوجيه

يُعد الإعلام اليوم من أكثر الأدوات تأثيرًا في تشكيل الوعي العام، وصياغة الرأي الجمعي، وتوجيه الاتجاهات الاجتماعية والسياسية، ولأن الداخل الفلسطيني يعيش تحديات خاصة، فإن الإعلام بالنسبة له ليس مجرد أداة لنقل الأخبار، بل هو ميدان للصراع على الهوية والرواية، بين من يسعى إلى طمسها أو تشويهها، ومن يعمل على ترسيخها وتعزيز حضورها، وهنا يبرز السؤال الجوهري: من يملك الإعلام؟ ومن يتحكم في مضامينه؟ وكيف تُدار مراكز التأثير والتوجيه داخله؟
* الملكية والإدارة: بين الاستقلال والتبعية
في الداخل الفلسطيني، تتعدد مصادر الإعلام وتتفاوت في درجة استقلاليتها وتأثيرها، يمكن تصنيفها ضمن الفئات التالية:
1- الإعلام الرسمي الإسرائيلي:
يشمل القنوات الإخبارية والإذاعات والصحف الممولة من قبل الحكومة الإسرائيلية، هذه الوسائل تتبنى الرواية الرسمية للدولة، وتعكس سياساتها وأجنداتها، وهي تهمّش القضايا الفلسطينية أو تقدمها بمنظور يتماشى مع المصالح الإسرائيلية.

2- الإعلام الخاص التجاري:
يضم محطات تلفزيونية وإذاعية وصحفًا محلية يمتلكها رجال أعمال فلسطينيون أو شركات تجارية، ورغم أن بعض هذه الوسائل تُظهر استقلالية نسبية، إلا أن ارتباطها بالتمويل الإعلاني يفرض عليها قيودًا، حيث تعتمد على إعلانات من شركات إسرائيلية أو مؤسسات دولية، مما قد يؤثر على طبيعة المحتوى المطروح.

3- الإعلام الحزبي والمؤسساتي:
وهو الإعلام الذي تديره الأحزاب أو الجمعيات الأهلية، ويعتمد على أجندات محددة تخدم مصالحه السياسية أو الفكرية. يتميز بوضوح توجهه الأيديولوجي، لكنه يواجه تحدي الوصول إلى جمهور واسع بسبب الاستقطاب السياسي.

4- الإعلام الشعبي والرقمي:
مع تطور التكنولوجيا، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي ساحة إعلامية مفتوحة تتيح للأفراد التأثير المباشر على الرأي العام، لكن هذه المساحة ليست محصنة من الاختراق، حيث تُستخدم الخوارزميات للحد من انتشار محتوى معين، كما يتم توظيفها أحيانًا لخدمة أجندات مضادة.

* مراكز التأثير والتوجيه
رغم تعدد الجهات الإعلامية، فإن السيطرة الفعلية على الإعلام تُمارَس عبر عدة أدوات خفية وظاهرة، منها:

1- الإعلانات التجارية والتمويل:
تتحكم الشركات الكبرى والمعلِنون في توجيه المحتوى الإعلامي، حيث يفرض الممولون خطوطًا حمراء تحول دون تناول قضايا معينة قد تؤثر على مصالحهم الاقتصادية أو علاقاتهم السياسية.

2- السياسات الحكومية والتشريعات:
تستخدم إسرائيل القوانين والتراخيص كأداة للضغط على الإعلام الفلسطيني، سواء من خلال التضييق القانوني أو فرض الغرامات أو إغلاق المؤسسات الإعلامية بحجج أمنية.

3- النفوذ الأيديولوجي والتأطير الثقافي:
بعض وسائل الإعلام تعمل على غرس تصورات معينة تخدم جهات بعينها، فتُبرز قضايا وتُهمل أخرى، أو تُعيد صياغة الأحداث بما يتناسب مع رؤيتها.

4- الخوارزميات والمنصات الرقمية:
تتحكم الشركات المالكة لمنصات التواصل في مدى انتشار المحتوى الفلسطيني، حيث يتم تقييد بعض الحسابات أو حذف منشورات بحجة “مخالفة المعايير”، ما يجعل الإعلام الرقمي خاضعًا لمعايير ليست دائمًا محايدة، وجميعنا تم التشويش على صفحاته أو الغاءها أو منع أصحابها من التعليق في الفيس والانستا والتك توك وغيرها من المنصات الرقمية

* بين التحديات والفرص
الإعلام في الداخل الفلسطيني يواجه تحديات جمّة، منها:
1- التهميش الإعلامي:
حيث يتم التعامل مع قضايا فلسطينيي الداخل كمسائل ثانوية، ويتم تجاهلها في كثير من التغطيات الإعلامية العربية والدولية.
2- الرقابة والتضييق:
سواء عبر القوانين أو السياسات التحريرية أو من خلال الضغوط المالية.
3- ضعف التمويل المستقل:
مما يجعل المؤسسات الإعلامية مضطرة للبحث عن مصادر تمويل قد تؤثر على استقلالية خطابها.
لكن في المقابل، هناك فرص يمكن استثمارها لتعزيز الإعلام الفلسطيني:
4- استقلالية الإعلام الرقمي:
من خلال بناء منصات إعلامية بديلة لا تعتمد على تمويل خارجي مشروط.
5- تعزيز الوعي الإعلامي:
بحيث يصبح الجمهور قادرًا على التمييز بين الإعلام الموضوعي والموجه.
6- دعم المبادرات الإعلامية الشبابية:
التي تسعى إلى تقديم رواية فلسطينية أصيلة بعيدًا عن التأثيرات المشوهة.

الخاتمة
إن الإجابة عن سؤال “من يملك الإعلام؟” لا تتعلق فقط بملكية القنوات والصحف، بل تمتد إلى السيطرة الفكرية والتوجيه المعنوي، فالمعركة ليست مجرد منافسة على الأخبار، بل هي صراع على الرواية والهوية، ومن هنا، فإن بناء إعلام فلسطيني قوي ومستقل يتطلب وعيًا، وتمكينًا، ودعمًا مستمرًا للمبادرات التي تعزز الصوت الفلسطيني في الداخل، بعيدًا عن الهيمنة والتأثيرات المشوهة.. ولكم مني التحية والسلام

• عنوان مقالة الغد مع المشيئة: ( الإعلام العبري وتأثيره على مجتمع الداخل الفلسطيني ).

* طاب صباحكم ونهاركم، وسائر أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا.
* مقالة رقم: (1882)
* 25. شعبان . 1446هـ
* الأثنين . 24.02.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة
* إعلام الداخل الفلسطيني: بين التوجيه والتضليل (5)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* الإعلام العبري وتأثيره على مجتمع الداخل الفلسطيني

في ظل تعاظم الدور الذي يلعبه الإعلام في تشكيل الوعي وصياغة الأفكار، بات الإعلام العبري أحد المؤثرات البارزة على مجتمع الداخل الفلسطيني، فمن خلال محطات التلفزة، والصحف، والمواقع الإخبارية، ومنصات التواصل الاجتماعي، تُصنع صورة ذهنية تتراوح بين التوجيه الصريح والتضليل المُمَنهج، وهنا يبرز التساؤل: كيف يؤثر الإعلام العبري على مجتمعنا، وما هي ملامح هذا التأثير؟
1. التطبيع النفسي وتكريس الرواية الرسمية
يعمل الإعلام العبري على تقديم المحتوى بطريقة تُشرّع الرواية الرسمية، مما يؤثر على وعي الأفراد في الداخل الفلسطيني، خاصة لدى الأجيال الناشئة التي تتابع الإعلام العبري بحكم البيئة المحيطة، يتم توظيف المصطلحات بعناية، حيث يجري طمس المصطلحات ذات الطابع الوطني والإسلامي، واستبدالها بمفاهيم تخدم الأجندة السائدة، مثل استبدال مصطلح “الاحتلال” بمصطلح “الجيش”، و”الشهداء” بـ”المخربين”. وهذا ما يُطلق عليه مغسلة الكلمات
2. خلق الازدواجية في الهوية والانتماء
يشكل الإعلام العبري نافذة لكثير من أبناء الداخل الفلسطيني نحو المجتمع الإسرائيلي، لكنه في الوقت ذاته يُحدث فجوة في الهوية والانتماء، إذ تتعرض بعض الشرائح إلى تشويش فكري يجعلها في حالة تذبذب بين الانتماء القومي والديني من جهة، وبين الواقع المفروض من جهة أخرى، حيث يتم تسويق فكرة “التعايش” بمعايير مختلّة، تضع الفلسطيني في موقع التابع لا الندّ.
3. التلاعب بالعواطف والتأثير على المزاج العام
يُدرك الإعلام العبري أهمية التأثير النفسي، فيعمد إلى بث الأخبار بطريقة انتقائية، على سبيل المثال، يتم تضخيم الجرائم الداخلية في المجتمع العربي، مما يرسّخ لدى المواطن فكرة الفوضى وانعدام الأمن، ويشجعه على تقبّل الحلول الأمنية المفروضة، وفي المقابل، يتم التقليل من شأن الاعتداءات التي يتعرض لها الفلسطينيون، بحيث تصبح جزءًا من الخبر العابر الذي لا يثير التفاعل المطلوب.
4. استهداف اللغة والثقافة
في العقود الأخيرة، شهدنا تراجعًا ملحوظًا في استخدام اللغة العربية في الداخل الفلسطيني، ويعود ذلك جزئيًا إلى التأثير الإعلامي، البرامج الإخبارية، والمسلسلات، وحتى الدعايات التجارية تُقدَّم باللغة العبرية، مما يؤدي إلى ضعف التفاعل مع المحتوى العربي، وفقدان بعض المصطلحات التي تعبّر عن القضايا الفلسطينية بعمقها الحقيقي.. يكفي أن تدخل الى المدن والقرى لتجد غالبية اليافطات باللغة العبرية.
5- تهميش القضايا الجوهرية لصالح قضايا جانبية
يتعمد الإعلام العبري تسليط الضوء على قضايا داخلية معينة داخل المجتمع العربي مثل قضايا العنف، لكنه في المقابل يهمّش القضايا الكبرى مثل الحقوق الوطنية والملفات السياسية الساخنة، يتم دفع المواطن العربي نحو نقاشات ثانوية تبعده عن التفكير في قضاياه المصيرية.
6. الحلول والبدائل الإعلامية
من أجل مواجهة هذا التأثير، لا بد من تعزيز الإعلام العربي المحلي القادر على تقديم خطاب بديل، هذا يشمل دعم الصحافة المستقلة، وتعزيز المحتوى الرقمي الهادف، وإنشاء قنوات تواصل تضمن وصول المعلومات الصحيحة بعيدًا عن التلاعب، كما أن على الأفراد رفع مستوى وعيهم الإعلامي، بحيث يتمكنون من تحليل الأخبار وفهم الرسائل الخفية في الخطاب الإعلامي العبري.
* خاتمة
إن الإعلام العبري ليس مجرد وسيلة نقل أخبار، بل هو أداة تُستخدم لصياغة الوعي وفق أجندات معينة، وما لم يكن لدينا إدراك نقدي تجاه هذا الإعلام، فإن التأثير السلبي سيزداد عمقًا، لذا، فإن بناء وعي مجتمعي مستنير هو خط الدفاع الأول أمام هذا التحدي الإعلامي المتنامي.. ولكم مني كل التحايا والسلام

• عنوان مقالة الغد مع المشيئة: ( دور الإعلام المحلي: بين التوعية والتبعية ).

* طاب صباحكم ونهاركم، وسائر أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا.
* مقالة رقم: (1883)
* 26. شعبان . 1446هـ
* الثلاثاء . 25.02.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة
* إعلام الداخل الفلسطيني: بين التوجيه والتضليل (6)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* دور الإعلام المحلي: بين التوعية والتبعي

في الداخل الفلسطيني، يُعدّ الإعلام المحلي أحد أهم الأدوات التي تشكل الوعي الجمعي، إذ يحمل مسؤولية إيصال الحقيقة إلى الناس، وتسليط الضوء على قضاياهم، وتعزيز هويتهم الوطنية والثقافية، غير أنّ هذا الدور لا يخلو من تحديات، فالإعلام المحلي قد يقع أحيانًا بين مطرقة التوعية وسندان التبعية، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى استقلاليته وقدرته على أداء رسالته بموضوعية.

* الإعلام المحلي والتوعية المجتمعية
الإعلام المحلي، إذا كان مهنيًا ومستقلًا، يؤدي دورًا محوريًا في توعية الجمهور، إذ يعمل على:
1- نقل القضايا الحقيقية: التي تهم المجتمع، بعيدًا عن الدعاية الموجهة أو محاولات طمس الحقائق.

2- تعزيز الهوية والانتماء: من خلال التركيز على القضايا الوطنية والثقافية، ومواجهة محاولات الأسرلة والتهميش.

3- تمكين الجمهور من فهم واقعهم السياسي والاجتماعي: عبر تقديم المعلومات الموثوقة، مما يساعدهم على اتخاذ قرارات واعية.

4- محاربة التضليل الإعلامي: الذي تمارسه بعض الجهات، من خلال كشف الحقائق وتقديم رواية مهنية متوازنة، فالإعلام المحلي، في الداخل الفلسطيني تحديدًا، ليس مجرد ناقل أخبار، بل هو لاعب رئيسي في معركة الوعي، يواجه تحديات كثيرة للحفاظ على استقلاليته ومصداقيته.

* بين الاستقلالية والتبعية
رغم الدور التوعوي الذي يُفترض أن يؤديه، يعاني الإعلام المحلي من ضغوط عدة تدفعه نحو التبعية، سواء للجهات السياسية أو الاقتصادية. ومن أبرز أشكال التبعية:
1- التبعية السياسية: حيث تتحول بعض الوسائل الإعلامية إلى أدوات ترويج لجهات معينة، على حساب القضايا الجوهرية.
2- التبعية الاقتصادية: إذ تعتمد وسائل الإعلام على الإعلانات والتمويل الخارجي، مما قد يؤثر على توجهاتها التحريرية.
3- التبعية الثقافية والإعلامية: حيث تتأثر بعض الوسائل المحلية بالإعلام الإسرائيلي أو العالمي، مما قد يؤدي إلى تبني أجندات لا تخدم المجتمع الفلسطيني.
هذه التحديات تجعل من الصعب على الإعلام المحلي أن يكون مستقلًا تمامًا، لكنه لا يزال قادرًا على تحقيق التوازن من خلال سياسات تحريرية واضحة، ووعي مجتمعي يدعم الإعلام المهني الحر.

*,كيف نحمي الإعلام المحلي من التبعية؟
لحماية الإعلام المحلي وضمان دوره التوعوي، لا بد من اتخاذ خطوات عملية، منها:
1- تعزيز التمويل المستقل عبر الاشتراكات الجماهيرية أو دعم المؤسسات الوطنية، لتقليل التأثيرات الخارجية.

2- إرساء مواثيق شرف إعلامية تضمن التزام الصحفيين بالمهنية والموضوعية.

3- تطوير الإعلام البديل من خلال دعم المنصات الرقمية المستقلة، التي تتيح حرية أكبر في نقل القضايا الجوهرية.

4- رفع الوعي الجماهيري بأهمية الإعلام المستقل، ودوره في حماية الحقوق وتعزيز الوعي الوطني.
خاتمة
الإعلام المحلي في الداخل الفلسطيني يواجه تحديًا مستمرًا بين التوعية والتبعية، وهو مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بالتمسك بالمهنية والموضوعية، ليكون صوتًا حقيقيًا لقضايا الناس، لا مجرد أداة تخدم مصالح جهات معينة، إنّ بناء إعلام قوي ومستقل ليس مسؤولية الصحفيين فقط، بل هو مسؤولية مجتمعية تتطلب دعمًا واعيًا ووعيًا نقديًا يميز بين الإعلام الحر والإعلام الموجّه. ولكم مني كل التحايا والسلام

* عنوان مقالة الغد مع المشيئة: ( الصحافة الحرة في الداخل الفلسطيني: هل هي ممكنة؟).

* طاب صباحكم ونهاركم، وسائر أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا.
* مقالة رقم: (1884)
* 27. شعبان . 1446هـ
* الأربعاء . 26.02.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة
* إعلام الداخل الفلسطيني: بين التوجيه والتضليل (7)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* الصحافة الحرة في الداخل الفلسطيني: هل هي ممكنة?

الصحافة الحرة هي صوت الناس، وحقهم الطبيعي في معرفة الحقيقة بلا تقييد أو تضليل، لكن عندما ننظر إلى واقع الإعلام عندنا في الداخل الفلسطيني، نجد أنفسنا أمام تحديات معقدة، من قوانين تفرض رقابة صارمة، إلى ضغوط اقتصادية، وصولًا إلى إشكاليات مجتمعية تجعل من الصعب على الصحفي أن يعمل باستقلالية وبحرّيةٍ تامة، فهل يمكن أن تكون عندنا صحافة حرة حقيقية؟ أم أن الواقع يجعلها مجرد حلم بعيد المنال؟

* التحديات القانونية والتشريعية
كل من يعمل في الإعلام هنا يعرف جيدًا أن الصحافة عندنا ليست كأي صحافة أخرى، فالقوانين الإسرائيلية تضع لنا خطوطًا حمراء يصعب تجاوزها، مثل قانون “التحريض” الذي يُستخدم لقمع الأصوات المعارضة، وقانون “مكافحة الإرهاب” الذي قد يجعل أي حديث عن المقاومة أو النضال الفلسطيني يُفسَّر على أنه جريمة ودعمًا للإرهاب أضف إلى ذلك، أن هناك أخبارًا وأحداثًا لا يمكننا تغطيتها بحرية، إما بسبب الرقابة العسكرية أو بسبب الخوف من تبعات قانونية قد تصل إلى الاعتقال والملاحقة.

* الضغوط الاقتصادية والإعلانية
يعاني الإعلام في الداخل الفلسطيني من قلة الموارد، لأن أغلب الصحف والمواقع تعتمد على الإعلانات، وهي بدورها تخضع لاعتبارات سياسية وتجارية، الشركات الكبيرة تفضل دعم الإعلام الذي يتجنب “الإحراج”، والإعلام الفلسطيني المستقل يجد نفسه بلا تمويل كافٍ للاستمرار، هذا يعني أننا أمام خيارين: إما أن نكون إعلامًا تجاريًا محايدًا، أو أن نحاول الاستمرار رغم الصعوبات بتمويل محدود واستقلالية نسبية.

* التحديات المجتمعية والثقافية
ليس فقط السلطة من تمارس الضغط علينا، حتى مجتمعنا في الداخل له دور في تقييد حرية الإعلام. الصحفي الذي يحاول كشف قضايا حساسة، مثل العنف والجريمة، قد يجد نفسه مستهدفًا أو مهددًا من قِبَل عصابات الإجرام، وهناك دائمًا حساسية من تغطية بعض المواضيع التي تمس العادات والتقاليد أو تضع شخصيات نافذة في مواقف محرجة مما يجعل الصحفي دائمًا في معادلة صعبة بين التزامه الأخلاقي بنقل الحقيقة وبين الحرص على سلامته الشخصية.

* الإعلام البديل كوسيلة مقاومة
مع كل هذه القيود، صار الإعلام الرقمي ومساحات التواصل الاجتماعي متنفسًا مهمًا، منصات مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك أصبحت وسائل فعالة لنقل الأخبار وكشف الحقائق دون الحاجة إلى مؤسسات رسمية، لكن حتى هذه المساحات ليست آمنة تمامًا، إذ تتعرض يوميًا لحذف منشورات، وحظر صفحات، وتقليص وصول المحتوى الفلسطيني، في محاولة واضحة لإسكات صوتنا حتى في الفضاء الرقمي.

* هل يمكن أن تكون عندنا صحافة حرة؟
الصحافة الحرة ليست مستحيلة، لكنها تتطلب منا العمل بوعي وإصرار، فإذا أردنا إعلامًا مستقلًا، يجب أن ندعم الصحافة الاستقصائية، ونؤسس منصات لا تخضع للضغوط الاقتصادية، ونستفيد بذكاء من الإعلام الرقمي، كما أن على الصحفيين أن يكونوا أكثر وعيًا بالقوانين لحماية أنفسهم من الملاحقات.

* خاتمة
نحن في الداخل الفلسطيني نعيش في واقع إعلامي معقد، لكن هذا لا يعني الاستسلام، كل صوت حر، وكل خبر يُنقل بشجاعة، وكل منصة ترفض التوجيه والتضليل، هي خطوة نحو صحافة حرة تعبر عن همومنا وتنقل واقعنا كما هو، لا كما يريدون لنا أن نراه، الطريق صعب، لكنه ليس مستحيلًا، والخيار في النهاية لنا إما أن نكون إعلامًا حرًا رغم التحديات، أو نترك الساحة لمن يريد أن يصنع واقعًا إعلاميًا على مقاسه.
ولكم مني كل التحايا والسلام.

* عنوان مقالة الغد مع المشيئة: ( كيف نواجه الأخبار الكاذبة والإشاعات الإعلامية؟ ).

* طاب صباحكم ونهاركم، وسائر أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يبلّغنا رمضان..
* مقالة رقم: (1885)
* 28. شعبان . 1446هـ
* الخميس . 27.02.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة
* إعلام الداخل الفلسطيني: بين التوجيه والتضليل (8)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* كيف نواجه الأخبار الكاذبة والإشاعات الإعلامية؟
في عصرٍ أصبحت فيه المعلومة تنتقل بسرعة غير مسبوقة عبر وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، باتت الإشاعات والأخبار الكاذبة واحدة من أخطر الظواهر التي تهدد وعي المجتمعات واستقرارها، يزداد تأثير هذه الظاهرة في الداخل الفلسطيني، حيث تُستخدم الأخبار الكاذبة أحيانًا كأداة لتوجيه الرأي العام أو تشويهه، فكيف نحصّن أنفسنا وأبناءنا ضد هذه الظاهرة؟

أولًا: التثبت من الأخبار وعدم التسرع في نشرها
في ظل انتشار الأخبار بسرعة البرق، أصبح التأكد من صحتها ضرورة شرعية وعقلية، فقد أمرنا الله تعالى بالتثبت من الأخبار قبل تناقلها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6).
إن تداول الأخبار الكاذبة دون تحقق قد يؤدي إلى فتن اجتماعية، أو ظلم للأفراد، أو حتى صناعة رأي عام مبني على الكذب والوهم، ومن أخطر ما نشهده اليوم هو استغلال بعض الجهات لهذه الإشاعات بهدف التأثير على المزاج الشعبي وتحقيق مكاسب سياسية أو اجتماعية.

ثانيًا: معرفة خصائص الأخبار الكاذبة وأساليب نشرها
لكي نكون قادرين على مواجهة الإشاعات، لا بد من فهم طبيعة هذه الأخبار، ومن أهم خصائصها:
• الإثارة والمبالغة: غالبًا ما تكون الأخبار الكاذبة مكتوبة بأسلوب يهدف إلى إثارة المشاعر، سواء بالخوف أو الغضب أو الفرح غير المبرر.
• غياب المصدر الموثوق: عند البحث عن مصدر الخبر، نجد أنه غير موثوق، أو أن الخبر غير منشور في وسائل إعلام موثوقة.
• تكرار النشر دون دليل: تنتشر هذه الأخبار على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن عند التحقق لا نجد أي دليل حقيقي يدعمها.

ثالثًا: نشر ثقافة التفكير النقدي
يجب علينا تعليم أنفسنا وأبناءنا مهارات التفكير النقدي عند تلقي الأخبار. فليس كل ما يُنشر صحيحًا، ولا كل ما يُقال يُصدّق. قال النبي ﷺ: كفى بالمرء كذبًا أن يُحدّث بكل ما سمع (رواه مسلم). وهذا توجيه نبوي واضح بأن المسلم مسؤول عن نقل الأخبار، ولا يجوز أن يكون مجرد ناقل لكل ما يرد إليه.

رابعًا: دعم الإعلام المهني والموثوق
مواجهة الأخبار الكاذبة تحتاج إلى تعزيز دور الإعلام المهني المستقل، القائم على الحقائق والتوازن. الإعلام البديل أيضًا يمكن أن يكون أداة فعالة في نقل الحقيقة، شريطة أن يلتزم بالمصداقية ويبتعد عن التهويل والتضليل.
في الداخل الفلسطيني، حيث تعاني بعض الوسائل الإعلامية من التحيز أو الضغوط، يصبح من الضروري دعم المنصات التي تسعى لنقل الحقيقة دون تشويه أو تزييف.
خامسًا: دور التكنولوجيا في كشف الأخبار الكاذبة
يمكن استخدام التقنيات الحديثة للتحقق من الأخبار، ومنها:
• البحث العكسي عن الصور: عبر أدوات مثل “Google Reverse Image Search”، يمكننا التحقق مما إذا كانت الصورة المرفقة بالخبر قديمة أو مأخوذة من سياق مختلف.
• التأكد من المصادر: من خلال مواقع التحقق من الأخبار (Fact-checking websites)، يمكننا معرفة ما إذا كانت المعلومة التي وصلتنا صحيحة أم ملفقة.
• تحليل أسلوب الخبر: يمكن أن تساعد تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل النصوص واكتشاف الأنماط التي تدل على التزييف أو التضليل.

سادسًا: التوعية المجتمعية بأهمية الإعلام المسؤول
يجب أن تكون هناك برامج توعية مستمرة في المدارس، والمعاهد والكليات، والمساجد، حول خطورة نشر الأخبار الكاذبة، وأهمية التحقق من المعلومات قبل تداولها. فالأخبار الكاذبة ليست مجرد خطأ بسيط، بل قد تؤدي إلى فتن مجتمعية وأضرار جسيمة.

سابعًا: دور القوانين والتشريعات في الحد من الإشاعات
لا يمكن الاكتفاء بالجهود الفردية والمجتمعية في مواجهة الأخبار الكاذبة، بل يجب أن يكون هناك إطار قانوني يحاسب الجهات أو الأفراد الذين ينشرون الإشاعات بقصد التضليل أو التحريض، بعض الدول سنت قوانين تعاقب مروجي الأخبار الكاذبة، لا سيما إذا كانت تهدد الأمن العام أو تثير الفتنة.
في الداخل الفلسطيني، من المهم الدفع نحو تعزيز الوعي القانوني بشأن التعامل مع الأخبار الكاذبة، بحيث يدرك الناس مسؤوليتهم القانونية عند نشر أو إعادة نشر معلومات غير موثوقة. كما أن دعم الصحافة المهنية ومطالبة المؤسسات الإعلامية بالشفافية والمصداقية يعد جزءًا من الحل في مواجهة هذه الظاهرة.
خاتمة
مواجهة الأخبار الكاذبة والإشاعات الإعلامية تتطلب وعيًا فرديًا وجماعيًا، وتعزيزًا لمبادئ التثبت والتفكير النقدي، ودعمًا للمصادر الإعلامية الموثوقة. بامتلاك هذه الأدوات، نستطيع حماية مجتمعنا من التضليل وبناء وعي إعلامي قوي يحصّن أبناءنا من التلاعب الإعلامي.
ولكم مني تحياتي وسلامي

* عنوان مقالة الغد مع المشيئة: ( المسؤولية الأخلاقية للإعلاميين والمثقفين في الداخل الفلسطيني ).

* طاب صباحكم ونهاركم، وسائر أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يبلّغنا رمضان، جمعة مباركة
* مقالة رقم: (1886)
* 29. شعبان . 1446هـ
* الجمعة . 28.02.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق