مقالات

* مقالة مهمة جدًا رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (3)

حين يصبح التاريخ مجهولًا: إثر تغييب الرواية الأصلية على انتمائنا

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

التاريخ ليس مجرد سردٍ للأحداث، بل هو الهوية التي تَصوغ وعي الأفراد والمجتمعات، وتجعلهم يدركون موقعهم في الزمن والحضارة، لكن ماذا يحدث عندما يتم تغييب الرواية الأصلية للتاريخ؟ حينها يصبح الماضي مجهولًا، وتَفقد الأمة بوصلتها، فينشأ جيل بلا جذور واضحة، مُعرَّض للتشكيك في انتمائه، أو ربما الانسلاخ عنه تمامًا، ولمعالجة هذه القضية الهامة أطرح الموضوع من خلال نقاطٍ محددة أبدؤها بهذا العنوان:

1- التاريخ بين التزييف والتغييب
يتم تغييب الرواية الأصلية للتاريخ إما من خلال التزييف المُتعمد، حيث تُشوَّه الحقائق، أو من خلال الطمس والإهمال، حيث تُستبدل الروايات الأصيلة بأخرى مشوهة، تتوافق مع مصالح قوى معينة لا تريد الخير لغيرها أبدًا، في كلا الحالين، يُمحى جزء من الهوية الجماعية، ويُستبدل بمفاهيم جديدة قد تكون دخيلة أو مشوِّهة للحقيقة.
– مثال ذلك ما حدث في قضايا استعمارية عديدة، حيث أعادت القوى المهيمنة كتابة التاريخ لتصوّر المحتل كصاحب فضل، بينما اختفت الرواية الحقيقية التي تكشف عن المظالم والنضالات، الأمر ذاته ينطبق على محاولات طمس الهوية الإسلامية عبر تقديمها برؤية غربية مجتزأة، تحصر الإسلام في زوايا معينة، بعيدًا عن عمقه الحضاري وتأثيره على الإنسانية.

2- الهوية والانتماء في خطر
حين يُغيَّب التاريخ، يتأثر الانتماء سلبًا، فالهوية ليست مجرد شعارات أو ذكريات، بل هي منظومة قيمية مستندة إلى وعي تاريخي، وعندما يُفقَد هذا الوعي، ينشأ شعور بالاغتراب، حيث يشعر الجيل الجديد بأنه مُنبَتٌّ عن تاريخه الحقيقي؛-مُنقطِع- فتبدأ محاولات البحث عن هوية بديلة، قد تكون غربية أو فردانية لا تنتمي إلى أصله.
هذا التغييب قد يؤدي إلى تسرّب الأفكار الاستعمارية حتى بعد زوال الاحتلال المادي، إذ تبقى الشعوب تعيش في إطار المفاهيم التي غُرست فيها، فتصبح ترى نفسها من منظور الآخر، وتتبنى أحكامه ومفاهيمه دون نقد أو مراجعة.

3- إعادة الاعتبار للرواية الأصلية
إن مسؤولية إعادة التاريخ إلى وعي الأمة تقع على عاتق العلماء والمثقفين وأصحاب الفكر، فالعمل على استعادة الرواية الحقيقية لا يعني مجرد استعادة أحداث الماضي، بل يعني ترسيخ وعي سليم لدى الأجيال، يربطهم بجذورهم، ويدفعهم نحو المستقبل بثقة.
ولا بد أن تكون هذه الاستِعادة قائمة على منهج علمي رصين، لا ينجرف وراء العاطفة، بل يرتكز على البحث الموضوعي، والاستفادة من المصادر المتنوعة، مع إعادة قراءة الأحداث برؤية متكاملة، لا تتأثر بالدعاية والتشويه.
وبسبب منهجيتي في عدم الإطالة أتوقف هنا، وما قصدته من هذه المقالة تسليط الضوء على قضية خطيرة لا بد من متبعتها بكل جدية وعناية من قِبل أهل الاختصاص في التدوين وكتابة التاريخ وواقعنا في أرض الرباط الشاهد على الطرح وعلى ما أقول
* خاتمة
التاريخ هو مرآة الهوية، وتغييبه يجعل المجتمعات عرضة لفقدان أصالتها، إن إدراك خطورة تغييب الرواية الأصلية هو الخطوة الأولى لاستعادة الانتماء الحقيقي، وإحياء الذاكرة الجماعية بعيدًا عن التشويه والتزييف، وإذا كان الماضي قد كُتب وفق رؤى منحازة، فإن المستقبل بين أيدينا لنصوغه بوعي مستنير بحقائق التاريخ، لا بأوهامه، ولكم التحيّة والسلام.

* أمّا عنوان مقالتنا القادمة فهو: ( جيل بعد جيل: لماذا يشعر الشباب اليوم بغربة أشد من آبائهم؟ )

* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1869)
12. شعبان . 1446هـ
الثلاثاء . 11.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق