مقالات

* وهمُ الاكتفاء * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية * عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية” عنوان المقالة: “ما أغنى عني ماليه”: تأمل في وَهْم الاكتفاء البشري..” (2)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* قال تعالى: ﴿مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾
(الحاقة: 28–29)، صرخة من قلب منكشف، لحظة مواجهة صارخة مع الحقيقة، حيث لا شيء ينفع، ولا أحد يسمع، ولا ظلّ يُستظلّ به.
لحظة انكشاف توهم الاكتفاء، وسقوط كل ما اعتقده الإنسان درعًا وسندًا.
* وهمُ الغِنى… حين يُخدَع القلب بالمؤقت الزائل!
نحن نعيش في زمن يُروَّج فيه للاكتفاء الذاتي كقيمة عُليا، ولكن بأي معنى؟
القرآن لا يعارض الغنى، بل يحذّر من وهْمِه.
المال قد يكون نعمة، لكنّه يصبح خديعة كبرى حين يُصوَّر على أنه مصدر الأمان، وموطن القيمة الذاتية.
حين يُقنعك الإعلام، والثقافة، والمجتمع، بأنك تُقاس بما في حسابك، يُزرع وهْم الاكتفاء في داخلك…
فتبدأ رحلتك مع “الإله الخفي” الذي يقرر قراراتك، ويشكّل مخاوفك، ويؤطر طموحاتك…وذلك الإله هو: المال.
* ﴿مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ﴾…
ليست مجرد جملة، بل مرآة لكل من ربط كيانه بما يملك.
ففي لحظة الحقيقة، لا يشفع المال، ولا يُجدي الادّخار، ولا تُنقذك الأرقام.
ما يُغنيك حقًا هو ما زُرع في قلبك من صدق، وإيمان، واتصال بالله.
* السلطان الزائل… حين يخذُلك العنوان
ليست الصرخة وحدها تجاه المال، بل تتعداه إلى السلطان: ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ المنصب، النفوذ، التأثير… كل هذه الأشياء تنهار في لحظة.
كان يتكئ عليها كعصا، فتبين أنها قصبة مكسورة.
السلطة التي تُرعب الناس، لا تملك أن تُطيل الحياة لحظة واحدة، ولا أن تدفع عن صاحبها ظُلْمة الحساب.
وهنا يُفهم عمق الآية: أن كل ما كان الإنسان يظنه “قوّته”، يتحوّل إلى “خيبة” حين لا يكون موصولًا بالله.
* التديّن الحقيقي… هو التحرّر من التعلّق
التوحيد ليس نفيًا نظريًا للآلهة، بل تحريرٌ عملي من التعلّقات المزيفة.
حين تقول: “لا إله إلا الله”، فأنت تقول: لن أعلّق قلبي بمال، ولا بمنصب، ولا بجماهير، ولا بقبول الناس…لأن ذلك كلّه زائلٌ، هش، لا يصمد في الموقف الحقّ.
ولهذا… فإن التديّن الذي لا يُنتج حرية داخلية، ولا يخلع أصنام النفس، هو قشرة بلا لبّ.
* حين تنطق النفس أخيرًا
القرآن هنا لا يروي قصة رجل ماضٍ فقط، بل يكشف لحظة سقوطنا جميعًا حين نتوهّم الاكتفاء.
تأمّل… كم مرّة تصرّفت بدافع من الخوف على مالك؟
كم مرة سايرت باطلًا من أجل سلطان؟
كم مرة أخّرت عملًا لله، لأنك استندت إلى ما تملكه لا إلى من يملكك؟
الآية تجعلنا نسمع الصوت الأخير لنفس خُدعت طويلًا، فنكاد نسمع من داخلها ألم الإدراك المتأخر، وندمًا لا ينفع.
* خلاصة الرحلة الثانية
إن الاكتفاء ليس في الظاهر، بل في الداخل.
ليس في الرصيد، بل في اليقين.
ليس في المنصب، بل في المعنى الذي تحمله، والنية التي توجهك، “ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه”…
ليست فقط آيتين في سورة الحاقة، بل ناقوس إنذار لكل من بنى عمره على الظل أو القِشر، وترك الجوهر…
أحبتي: انتظروا في المقالة القادمة بإذن الله كيفَ نقف أمام مشهد آخر من مشاهد الانكشاف الرحيم: “ألم نشرح لك صدرك، رحلة الداخل نحو السكينة”
“ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2021)
* 19 . محرّم .1447 هـ
* الأثنين . 14.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

اترك تعليقاً

إغلاق