مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية #ابو_صير_وابو_قير / الأجزاء الثلاث الاولى

مصطفى رشد

حكاية #ابو_صير_وابو_قير
الجزء الاول

يحكى أنّ رجلين كانا في الإسكندرية ،وكان أحدهما صباغاً، واسمه أبو قير وكان الثاني حلاقا ،واسمه أبو صير، وهما جارين في السّوق ،وكان أبو قير صانعا ماهرا لكنّه تعوّد على النّصب والاحتيال، و إذا أعطاه أحدٌ شيئا، ليصبغه له، يطلب منه الثمن مسبّقا ، فإذا أخذ المال، أنفقه على نفسه. ولمّا ينفذ ما عنده يبيع حاجة الزّبون ، ولا يأكل إلا طيباً من أفخر المأكول ولا يشرب إلا من أجود النّبيذ وكان دائما في محافل الزّهو والطرب، ، فإذا أتاه صاحب البضاعة يقول له : تعال غدا لي قبل طلوع الشّمس فتلقى حاجتك ، فيروح، ثم يأتيه في ثاني يوم ، فيقول له تعال في غدا لأنه أمس كان عندي ضيوف فقمت بواجبهم حتى راحوا ،و غدا تعال خذ قماشك مصبوغاً ،فيروح ويأتيه في ثالث يوم ،فيقول له إنّي كنت أمس معذوراً ،لأنّ زوجتي ولدت بالليل وطول النهار، وأنا أقضي مصالحها ،ولكن في الغد تعال ،وخذ حاجتك مصبوغة ،فيأتي الزّبون في الموعد ، فيطلع له بحيلةٍ أخرى ،ويحلف له على صدقه .

ثمّ أنّ الصّباغ لا يزال يعد الزبون حتى يقلق ،ويقول له: أعطني حاجتي فإني لا أريد صبغاً، فيقول والله يا أخي أنا مستحٍ منك ولكن أخبرك بالصحيح والله ينتقم ممّن يؤذي الناس في أمتعتهم، فيقول له أخبرني ماذا حصل فيجيب : أما حاجتك ،فأني صبغتها صبغاً ليس له نظيًرا ونشرتها على الحبل ،فسرقت ،ولا أدري من سرقها فإن كان صاحب الحاجة من أهل الخير ،يقول له يعوض الله عليّ، وإن كان من أهل الشّر يتخاصم معه ، ولا يحصل منه على شيء .ولم يزل على هذا السّلوك حتى شاع ذكره بين الناس، وصار الناس يحذّر بعضهم من أبي قير ويضربون به الأمثال ،وامتنعوا عنه جميعاً ،وصار لا يقع معه إلا الجاهل بحاله، ومع ذلك لا بدّ له كل يومٍ من خصومة مع خلق الله فحصل له كساد بهذا السّبب ،فصار يأتي إلى دكّان جاره الحلاق أبي صير ويقعد داخله قبالة المصبغة ،فإن رأى أحدٌ جاهلاً بحاله واقفاً على بابه شيءٌ يريد صبغه يقوم من دكّان الحلاق فيسأله عن حاجته ؟ فيقول له : خذ أصبغ لي هذا الشيء ،ويقول له هات الأجرة مسبقاً ،ثمّ يحتال عليه .

واتفق له في يومٍ من الأيام أنه أخذ حاجةً من رجلٍ من الأعيان ،ثمّ باعها ،وصرف ثمنها وصار صاحبها يجيء إليه في كلّ يومٍ، فلا يجده في الدّكان لأنّه إذا رآه عنده شيء يهرب منه عند الحلاق أبي صير، فلما لم يجده ذلك الرّجل في دكّانه، وأعياه ذلك ،ذهب إلى القاضي وأتاه برسولٍ من طرفه وسمر باب الدكان بحضرة جماعة من المسلمين وختمه لأنه لم ير فيها غير بعض أواني مكسره ولم يجد فيها شيئاً يقوم مقام حاجته، ثم أخذ الرسول المفتاح وقال للجيران: قولوا له يجيء بحاجة هذا الرجل ويأتي ليأخذ مفتاح دكانه.ثمّ ذهب الرجل والرسول إلى حالهما فقال أبو صير لأبي قير: ويحك، فإن كل من جاء لك بحاجةٍ تختفي عندك، أين راح متاع هذا الرّجل ؟ قال : يا جاري ،لقد سرق منّي!!! قال أبو صير: أمرك عجيب ،كلّ من أعطاك حاجةً يسرقها منك لصٌ، هل يعقل هذا ؟ ولكن أظن أنك تكذب، فأخبرني بقصتك يا جاري !!!فأجاب : لم يسرق مني شيء !!!

فقال أبو صير : وما تفعل في متاع النّاس؟ أجابه :كلّ من أعطاني حاجةً أبيعها، وأصرف ثمنها على نفسي ،صاح أبو صير: أيحلّ لك هذا من الله ؟ قال أبو قير : إنّما أفعل هذا لأنّ صنعتي كاسدة، وأنا فقير رغم مهارتي ، فتنهّد أبو صير ،واشتكى له من حاله، وقال: أنا أيضا بارع في الحلاقة ، ولكن قليلا ما يأتيني الحرفاء، لأنّ دكاني صغير، و قد كرهت هذه الصنعة يا أخي.!!! فقال له أبو قير : وأنا أيضاً كرهت حالي،ولكن يا أخي ما الداعي لإقامتنا في هذه البلدة ؟ هلم بنا نسافر، و نتفرج على بلاد الناس، وصنعتنا في أيدينا ، فإذا سافرنا نشم الهواء ،ونرتاح من هذا الهمّ، وما زال أبو قير يزيّن السّفر لأبي صير، حتى رغب في الارتحال، ثم أنهما اتّفقا على السّفر.

#ابو_صير_وابو_قير
الجزء الثاني

وحين عزما على السفر قال أبو قير لأبي صير: نحن صرنا أخوين ولا فرق بيننا فينبغي أننا نقرأ الفاتحة على أن من يشتغل يعيل الآخر ،وما نجمعه من مال نضعه في صندوقٍ فإذا رجعنا إلى الإسكندرية نقسمه بيننا بالحق والإنصاف، قال أبو صير :وهو كذلك !!! ثم أن أبا صير قفل الدكان وأعطى المفاتيح لصاحبها ،وأبو قير ترك المفاتيح عند رسول القاضي ،وترك الدكان مقفولةً مختومةً ،وركبا سفينة أبحرت بهما ومن حسن حظ الحلاق أنّه لم يكن غيره وكان هناك مائة وعشرون رجلاً غير الريس والبحرية. قام الحلاق وقال للصّباغ : يا أخي هذا بحر نحتاج فيه إلى الأكل والشرب وليس معنا إلا قليلٌ من الزاد ،وربما يقول لي أحدهم تعال يا أحلق لي فأحلق له برغيف أو بنصف فضة أو بشرية ماء فانتفع بذلك أنا وأنت، فقال له الصّباغ لا بأس.

ثم حط رأسه ونام ،في حين نهض الحلاق وأخذ عدته والطاسة ،ووضع على كتفه خرقة ، وشقّ بين الرّكاب فقال له واحد تعال أحلق لي فحلق له فلما إنتهى أعطاه الرجل أه نصف فضّة فقال له لو فأعطيتني رغيفاً كان أبرك في هذا البحر لأنّ لي رفيقاً وزادنا شيء قليل فأعطاه رغيفاً وقطعة جبن وملأ له الطاسة ماء حلواً فأخذ ذلك وأتى إلى أبي قير وقال له: خذ هذا الرغيف وكله بالجبن واشرب ما في الطاسة فأخذ ذلك منه وأكل وشرب ثم أن أبا صير بعد ذلك حمل عدته وعبر بين الركاب فحلق لإنسان برغيفين ولآخر بقطعة جبن واشتد عليه الطلب وأصبح كل من يقول له أحلق لي رأسي يشرط عليه رغيفين ونصف فضّة وليس في السّفينة غيره فما جاء المغرب حتى جمع ثلاثين رغيفاً وثلاثين نصف فضة ،وقدرا من جبن وزيتون وغلال، و كلما يطلب حاجة يعطونه إياها حتى أصبح لديه شيءٌ كثيرٌ وحلق للقبطان، وشكا له قلة الزاد في السفر فقال له القبطان :مرحباً بك هات رفيقك في كلّ ليلةٍ وتعشيا عندي، ولا تحملاهما ما دمتما مسافرين معنا ثم رجع إلى الصباغ فرآه لم يزل نائماً فأيقظه فلما أفاق أبو قير، رأى قربه شيءٌ كثيرٌ من خبز ،وجبن، وزيتون وغلال.

فقال له من أين لك ذلك ؟أجابه صديقه: من فيض الله تعالى، فأراد أن يأكل، فقال له أبو صير: لا تأكل يا أخي من هذا ،واتركه ينفعنا في وقت آخر ،واعلم أني حلقت للقبطان ،وشكوت إليه قلة الزاد، فقال لي مرحباً بك هات رفيقك كل ليلةٍ وتعشيا عندي، فأوّل عشاءنا عند القبطان في هذه الليلة فقال له أبو صير أنا مريض من البحر ،ولا أقدر أن أقوم من مكاني فدعني أتعشى من الطعام الذي قربي واذهب  أنت وحدك عند القبطان فقال له لا بأس بذلك ثم جلس يتفرج عليه وهو يأكل فرآه يقطع اللقمة كما يقطع الحجارة من الجبل ويبتلعها ابتلاع الغول الذي له أيام ما أكل وإذا بنوتي جاء وقال يا أسطى يقول لك القبطان هات رفيقك وتعال للعشاء .

فراح الحلاق وحده، فرأى القبطان جالساً وقدامه سفرة فيها عشرون لوناً أو أكثر وهو وجماعته ينتظرونه ورفيقه فلما رآه القبطان قال له أين رفيقك فقال له يا سيدي إنه مريض من البحر فقال له القبطان لا بأس عليه ستزول عنه المرض، تعال أنت تعشى  معنا ،وبعد أن تعشى الحلاق قال له القبطان خذ هذا الصحن معك إلى رفيقك فأخذه أبو صير وأتى إلى أبي قير فرآه يطحن بأسنانه ما عنده من الأكل مثل الجمل ويلحق اللقمة باالأخرى على عجل!!! فقال له أبو صير: أما قلت لك انتظرني فإن القبطان خيره كثير، فشاهد أي شيءٍ بعث به إليك لما أخبرته بأنك مريض، فقال هات: فناوله الصحن فأخذه منه وهو ملهوف على ما فيه من لحم وعلى غيره من الأكل ، فتركه أبو صير وراح إلى القبطان وشرب القهوة هناك ،ثم رجع إلى أبي قير فرآه قد أكل جميع ما في الصّحن ،ورماه فارغا…

#ابو_صير_و_ابو_قير
الجزء الثالث

ثمّ تمدّد ،ونام إلى الصباح ،فلما كان ثاني الأيام صار أبو صير يحلق وكلما جاء له شيءٌ يعطيه لأبي قير وأبو قير يأكل ويشرب وهو قاعدٌ لا يقوم إلا لإزاله الضرورة وكل ليلةٍ يأتي له بصحنٍ ملآن من عند القبطان واستمر على هذه الحالة عشرين يوماً حق رست السفينة على مدينة فطلعا ، ودخلا وتجولا داخلها ثم إكتريا لهما حجرة في خان وفرشها أبو صير، واشترى جميع ما يحتاجان إليه وجاء بلحم وطبخه وأبو قير نائمٌ ولم يستيقظ حتى أيقظه أبو صير ووضع السفرة بين يديه فلما أفاق أكل.

وبعد ذلك قال له لا تؤاخذني فأني مريض ،ثم نام واستمر على هذه الحالة أربعين يوماً وكل يومٍ يحمل الحلاق العدّة ،ويدور في المدينة فيعمل بالذي فيه النّصيب ويرجع فيجد أبا قير متكئا فينبهه وحين ينتبه يقبل على الأكل بلهفة فيأكل حتى يشبع ثم يعود للراحة ولم يزل كذلك مدة أربعين يوماً أخرى وكلما يقول له أبو ؟أني مريض، فلا يرضي أبو صير أن يكدر خاطره ولا يسمع كلمة تؤذيه وفي اليوم الحادي والأربعين مرض الحلاق ،ولم يقدر على الخروج، فطلب من بواب الخان أن يأتي لهما بما يأكلان ، وأبو قير يأكل ولا يستحي وبقي بواب الخان يقضي حاجتهما مدة أربعة أيامٍ.

وبعد ذلك اشتد المرض على الحلاق حتى أغمي عليه، وأما أبو قير فإنه أحرقه الجوع، فقام وفتّش في ثياب أبي صير فرأى معه صرّة كبيرة من الدّراهم فأخذها، وقفل باب الحجرة على أبي صير، ومضى دون أن يعلم أحداً بحال صديقه، ثم أن أبا قير نزل إلى السّوق واشترى ثياباً نفيسةً وصار يدور في المدينة ويتفرج فرآها حسنة الشّوارع مثلها في المدائن وجميع ملبوسها أبيض وأزرق من غير زيادة فأتى إلى صبّاغ ،فرأى جميع ما في دكّانه أزرق فأخرج له قطعة قماش، وقال له :يا معلّم خذ هذه واصبغها !!! فقال له: إن أجرته عشرين درهماً، فأجابه في بلادنا نصبغها بدرهمين!!! فقال: رح اصبغها في بلادكم ،أمّا أنا فلا أصبغها إلا بعشرين درهماً لا تنقص عن هذا القدر شيئاً.

فقال له أبو قير :حسنا أريد أن تصبغها لي باللون الأحمر ،هز ّالصّباغ رأسه وردّ عليه اعرف سوى اللون الأزق أما بقية الألوان فلا نعرف عملها ،وقال له نحن في بلادنا أربعون معلماً لا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً وإذا مات منا واحدٌ نعلم ولده وإن لم يخلف ولداً نبقى ناقصين واحداً ،والذي له ولدان نعلم واحداً منهما فإن مات علمنا أخاه وصنعتنا هذه مضبوطة ولا نعرف أن نصبغ غير الأزرق من غير زيادةٍ !!! فقال له أبو قير: اعلم أني صبّاغ وأعرف أن أصبغ سائر الألوان ،ومرادي أن أخدم عندك بالإجرة ،وأنا أعلمك جميع الألوان لأجل أن تفتخر بها على كلّ الصّباغين ،فأجابه: نحن لا نقبل غريباً يدخل في صنعتنا أبداً ،فقال : وإذا فتحت لي مصبغة وحدي؟ ردّ عليه : لا يمكنك ذلك أبداً فتركه ،وتوجّه للثّاني ،فقال له كما قال له الأول ،ولم يزل ينتقل من صبّاغ إلى آخر حتى طاف على الأربعين معلماً ،فلم يقبلوه لا أجيراً ولا معلماً، فتوجه إلى شيخ الصّباغين واخبره فقال له أنّنا لا نقبل غريباً عن بلادنا يدخل في صنعتنا، فحصل عند أبي قير غيظٌ عظيمٌ، وطلع يشكو إلى ملك تلك المدينة .

وفي الصّباح مثل في حضرته ،وقال له: يا ملك الزمان أنا غريبٌ وصنعتي الصّباغة ،جرى لي مع الصّباغين ما هو كذا وكذا ،وأنا أصبغ الأحمر ألوانا مختلفة :كالوردي والعنابي ،والأخضر ألواناً مختلفة :كالزّرعي والفستقي والزيتي ،وجناح الدّرة والأسود ألواناً مختلفة :كالفحمي والكحلي والأصفر ألوانا مختلفة :كالنّارنجي والليموني، وصار يذكر له سائر الألوان ،ثمّ قال: يا ملك الزمان كل الصباغين الذين في مدينتنا لا يخرج من أيديهم أن يصبغوا شيئاً من هذه الألوان ولا يعرفون إلا صبغ الأزرق ولم يقبلوني أن أكون عندهم معلماً ولا أجير.فقال له الملك صدقت في ذلك ولكن أنا أفتح لك مصبغة ،وأعطيك رأس مال وما عليك منهم وكل من تعرّض لك شنقته على باب دكانه، ثم أمر البنائين وقال لهم امضوا مع هذا المعلم إلى المدينة وأي مكان أعجبه فأخرجوا صاحبه منه سواء كان دكاناً أو خاناً أو غير ذلك وأبنوا له مصبغةً على مراده ومهما أمركم به فافعلوه ولا تخالفوه فيما يقول.

يتبع الحلقة 4

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق