مقالات

الدكتورة ، الروائيّة ” راوية بربارة” تكتب مقالتها عن رواية ” أرملة من الجليل”.

سُلطة الراوي الفاعلة على النصّ قراءة في رواية "أرملة من الجليل" محمّد بكريّة

الأمُّ حِضنٌ، الأمّ وطنْ، الأمّ لحنٌ وترٌ، نوتةٌ، نغمٌ عزفٌ منفردٌ، صوتٌ أغَنّ، الأمّ وطن،
الأمّ وطنٌ نرفعُ له علَمَ حاجتِنا ونغنّي له نشيدَ الانتماءِ حتّى لا نشعرَ بغربة الزمن، الأمّ وطن
الأمّ وطنٌ نلجأُ إليه حين نفقدُ الأمانَ والأمنَ والأملْ
إذا كان الأبُ عمودَ البيت، فالأمُّ صدرُ البيت ورائحتُه ونكهتُه وروحُه وغرفُه ومطبخُه وعتبةُ البيت المزدانةُ بجرّة الماء وعجينةِ الفرح، لأنَّ المرأةَ تحمِلُ ذلك التناغمَ الذي يجعلُنا نحبُّ بحنانٍ ويجعلُ العالمَ جميلًا، وعند محمّد بكريّة الأمُّ مسكَبُ الأشتالِ، وقائدةُ البيت ومدبّرَتُه ومربّيةُ الأطفال، وحمّالةُ المصاعب والمصائب، والمشجبُ الذي نعلّقُ عليه آلامَنا وأمالَنا، فتعتني بهم كما تعتني بثيابِنا، تنظّفُهم من غبارِ الأيّام، وسوسِ اليأسِ، وعَطَبِ الفساد المتراكم، وتعيدُهم إلينا حُللًا برّاقة تهفُّ رائحةُ عطائِها من جديد، لأنَّ الأمَّ هي التي تصنع الأمّة.
قال البابا فرنسيس “إنّ السلام يولد من النساء، ويبزُغ ويُبرق في رقّة الأمّهات”، إذ يمكن للمرأة أن تساهم في التحوّلِ المطلوبِ لتغيير آفاتِ العالَم والبيئةِ والحروب.
وما فعلَهُ بكريّة في روايته هو “تثمين المرأة”، تثمينُ الأرملة التي ربَّت وأنشأت ورعرعت أطفالَها وحدَها، وكبَّرتهم، وعلَّمتهم، وها هو ابنُها يُسدي لها ما فعلَتْه بسردِ سيرتِها؛
سيرةُ “أرملةٍ من الجليلِ”، وبكريّة لا يعرّفها بأل التعريف، لأنّه رغمَ روايتِه لسيرتِها الشخصيّة، إلّا أنَّ هذه الأرملةَ نُكّرت لتشملَ غيرَها من الأرامل الجليليّات، العربيّات، نُكّرتْ لأنَّ التنكير في الاسم أرملة يعمّم السيرة، ويُخرجها من سيرة امرأة واحدة، إلى سِيَرِ نساء عشن في ذاك الزمان، وفي ذاك المكان؛ والأرملة لُغويّا من لا زوج لها، وقيل الّتي مات عنها زوجها، غنيّةً كانت أم فقيرة، قال ابن قُتيبة: “سُمّيت أرملة لما يحصُل لها من الإِرمال، وهو الفقر وذَهابُ الزّاد بفَقْدِ الزّوج، يُقال أرملَ الرّجلُ، إذا فَنِيَ زادُه”.


إذن، هي سيرةٌ غيريّة – سيرةُ أرملةٍ من الجليل، لكن فيها من السيرة الذاتيّة الكثير الكثير
وهي سيرةٌ ذاتيّة لمحمّد بكريّة وفيها من الغيريّة (من سيرة أمّه) الكثير
أم يا ترى هي سيرة شعبٍ قرويّ كانت الأرضُ أمَّهُ؟
لو أراد محمّد بكريّة أن يكتبَ سيرتَه الذاتيّةَ ألَمْ تكن أمُّه هي الشخصيّة المركزيّة، ولو أراد كتابةَ سيرةِ والدَتِه ألن يكون هو الشخصيّة المركزيّة؟
هذا التطابقُ في البطولة أضفى على القصّ حالةً سرديّةً خاصّة، تراوَحَت فيها اللّغةُ بين المحكيّة “البطوفيّة” والفصيحة.
هو سردٌ يربِطُه موتيف “الخوف” ويفكّكُه شعورُ البنوّةِ والأمومةِ في التراوح الزمنيِّ، هو سردٌ يتأبّطُ سيروراتٍ تاريخيّة غيَّرَتْ وُجْهاتِنا الاجتماعيّة، وزادَتْ من خوفِ طفولةٍ محرومةٍ من الحياة الآمنة.
هي نهاراتٌ يحْكُمُها الواقعُ المريرُ، وليالٍ يلاطمُها الكابوسُ المتكرّرُ.
هي روايةٌ تستنطقُ الذاكرة- معتمدةً آليّةَ السّردِ الاسترجاعيِّ وتفعيلِ الذاكرة، فنجدُ الراوي السّاردَ يصرّحُ جهرًا بأنّه سيقولُ الحقيقةَ، ولا شيء غيرَ الحقيقةِ، لأنّ ذاكرتَهُ لن تنزاحَ ولن تنفلتَ، وكأنّه القَسَمُ يؤدّيه الراوي أمامَ القارئ، بأنّه سينقُلُ الواقعَ بحذافيرِه، دون تجميلٍ؛ فالأدبُ لا يجمّلُ الواقعَ؛ ودونَ خيالٍ، فلا مجال للخيالِ إلّا إذا كان مهربًا وهميًّا ينشِلُنا نحو الأعالي، ويضرِبنا في الأرض على حينِ صحوة.
يقول بكرية مفتتحًا الرواية: “هذا ما حدث إن لم تخنّي ذاكرتي، وأنا لا أظنّ ذلك، بل أستحيلُه، لأنّ شدّةَ الأهوالِ وقساوةَ الأحوالِ حتمًا ستنتصرُ على النسيان واحتيالِ الزمان، وعليه لن تحاول ذاكرتي الانزياحَ عن دقّة مضامينها أو الانفلات عن أشيائها” (|الرواية ص. 7)
إذًا الخيانة لن تتأتّى من الذاكرةِ مهما بَعُدَ فيها الزمانُ، لأنَّ هولَ ما حصلَ سينتصرُ على النسيان؛ وهذا الطرحُ محليٌّ يجمَعُ أدبَنا المحليّ في خانةِ الذاكرة والتذكّرِ، ويجعلُ الموتيف الدالّ علينا في قصِّنا وسردِنا وشعرِنا موتيف “النسيان” الذي لا نُتْقِنُهُ، لأنَّنا نخافُ أن تأكلَنا الضباعُ على حدّ قول كاتبِنا المرحوم سلمان ناطور، ولأنّنا أقوى من النسيان على حدّ قول نمر مرقس، ولأنّنا نرفضُ أن نصَدِّقَ أنّ هذا ما حصلَ معَنا ولنا، ونرفضُ أنْ نصدّقَ ذكرياتِنا لقساوتِها على حدّ وصيّة أمّ محمود درويش:
“ولكن لا تصدّقْ أيّةَ امرأةٍ سوايَ، ولا تصدِّق ذكرياتِكَ دائمًا”؛ بينما يذهب محمد بكريّة إلى أبعد من التذكّر والنسيان، فيعتبر “الذاكرةَ هُويّةَ صاحبِها فلا ماضٍ أو حاضر له دونها”؛ وهذا هو القول الفصل الذي تُبنى عليه كلُّ الحبكة، الذاكرةُ هي أحداثُ الطفولةِ التي كوّنت شخصيّتَنا، والتي حدّدَت لنا معالِمَ وجودِنا وكينونَتَنا، وجغرافيّتَنا وتاريخَنا وانتماءَنا، وتصرّفاتِنا، وكيفيّةَ تعاطينا مع الأحداثِ الحاصلةِ بناءً على ما اكتسبناه ممّا مرّ علينا أيّامَ الطفولةِ؛ ألا تشكِّلُ السنواتُ الخمسُ في حياة الطفل شخصيّتَهُ حسْبَ فرويد وأبحاثِ علم النفس؟ ألا يَعتبرُ فرويد الذاكرةَ “مجملَ الأحداث المنسيّة والمشاعرَ والانطباعاتِ والمتَعَ والشروخَ والهواجسَ والمخاوفَ والأهوالَ التي اعتوَرَت حياةَ الإنسان” أمّا هنري برغسون فيقول “إنّ الذاكرةَ ليست مستودعًا للذكريات الجامدة، بل هي نُخبةٌ من الأحاسيس تستثيرُ العديد من المشاعر”
لذلك يستنطقُ الكاتبُ الطفلَ الخائفَ القابعَ داخلَهُ، ويدَعُهُ يفتحُ مستودعَ الذكرياتِ، مستودعَ الأحاسيس التي تستثيرُ العديدَ من المشاعر، محمّد بكريّة يشبّهُ الذاكرةَ بتلابيبِ الوالدةِ التي نتعلّقُ فيها فلا فكاكَ لها منّا، ولا فكاكَ لنا منها، بل وأكثرَ منْ ذلك، ففي ظلِّ ما نحياهُ في الواقعِ المرِّ الذي يحاصرُنا، والذي هو النتيجة الحتميّة لِما عِشناه حتّى الآن، نجد بكرية يستدعي ذاكرتَه ليستأنسَ بالذكريات، ليفهمَ أنَّ ما آلَ إليه اليومَ إنّما هو تداعياتُ ما حصلَ لنا في الماضي، فكلّما قسَتْ عليه الحياة بأيّامِها، استدعى الذكرياتِ لتعوّضَهُ عن هذا الضياعِ، وهذا اللايقين؛ فالذكرياتُ هي اليقينُ الذي لا يخون، لذلك يمْسِكُ بمعصمِها ويلوذُ بها سلاحًا للروحِ على النفسِ، والنّفسُ أمّارةٌ بالسوءِ، والذاكرةُ تردَعُ هذه الأمّارة، وتحيي الروحَ بحَبْلٍ مُمتدٍ من الذكريات.
هذا الاعترافُ الصريحُ الواضحُ في مطلعِ الرواية هو عمليّةُ استباقٍ للمتوقَّع من القصّ، هو قَصٌّ منفَلِتٌ على غاربِه، لا يَهابُ سَطوةَ القارئِ ونقدَه، بل ينسابُ دونَ أَحكامٍ، فيخرُجُ عن قواعدِ اللّغة، ويأخذُها نحوَ المحكيّة البطوفيّة، فلا تشغلُه القاف تنقلبُ همزةً على لسان الأمّ، الساردةِ قصّتَها لابنِها الذي يرعاها، فتكون ساعاتُ الرعايةِ والاعتناءِ بالأمِّ هي ساعاتُ التناوبِ على السّرد:
“سألتُها: شو كان يساوي عبد الحي؟ أجابت بسرعة مزهوّة بنفسها: كان جدّي يُنؤُدني، جاي ينؤدني لأبوك، إسّا لمّن روَّح وبعد يومين ثلاثة ولّا سيدك بخرّف لستّك جميلة بأولها: بتعرفي هذا الزلمة إللي بأولولوا عبد الحيّ الموعِد صاحبنا؟ جاي يطلب سميّة، آلتلو ستّك يا ويلك من الله، بدو يطلبها وهي أدّ النتفة؟ ألها والله إذا إلها نصيب الله يسهّل عليها.” (الرواية ص.49)
فكما لا تشغِلُه الهمزة، لا تشغلُه قواعدُ العربيّة قدْرَ ما يُشغلُه الحدثُ الذي لم يعُدْ يقدرُ أن يكتمَه وهو الشاهد، هو الشاهدُ على اليُتْمِ، على الفقرِ، على الجوعِ، على يومِ الأرض، على الجندِ، على الخوفِ، وما لنا من ذنبٍ إلّا ما ملكَت أقدارُنا لنا أن نعيشَه في هذه البقعةِ، ضمنَ هذا التاريخ، وضمنَ وعي الراوي المولود سنة 1968، والشاهدِ على أحداث عام ألفٍ وتسعمئةٍ وستةٍ وسبعين مع بدايات الربيع، إذًا لا بدّ لنا أن نسمعَ صوتَ الراوي الطفل، وهنا يأتي دورُ القِوى الفاعلة على النصّ، فها هو الكاتبُ محمّد بكريّة الإذاعيّ المشهور والصحفيّ يتنازَعُ دورَ السّردِ مع محمّد الطفل، أصغرِ أبناء الأرملة، مع محمّدٍ الذي وُلِد، وتوفيَ والده في نفس السنة، فلم يبقَ لَه من متّكئٍ في هذه الحياة سوى “الأرملة” التي تعيله هو وسبعة من الأشقّاء، ينامون “تحت أغطية شتويّة على فراش متلاصق اصطفّ على أرض غرفة واسعةٍ في منزلٍ أرضيّ قديم، لا حدود بين الفراش فهو متداخلٌ والأغطيةُ متشابكةٌ بسببِ ضيقِ مساحةِ الغرفة التي اعتادت الوالدةُ استخدامَها في الشتاء طلبًا للدفءِ وفي الصيفِ كانت تنقُل الأمتعةَ كالفِراش والحصيرة إلى الشرفة أو البرندة”؛ وهذا الوصف التقريريّ يمتدّ حتى المخزنَ والسُّدّة وأدواتِ الرشّ وبابورَ الكاز، وهذا الوصف الواعي يأتينا من الكاتب الضمنيّ لا من الراوي، هذا الكاتبُ الذي ينحازُ للماضي بكلّ تفاصيله، وينحاز للقريةِ بكلّ ما فيها، فيصف بقصدِ التوثيق، توثيقِ البيت القرويّ بما يحتويه، بناسِهِ، وجدُرِهِ ومحتوياتِه، وذكرياتِه وجيرانِه، وهذا من متطلّباتِ سرد السيرة،
وأيُّ حدَث يسطو على الروايةِ، ويفتتُحُها، إنَّه الحدثُ المهولُ الذي يسيطر على الذاكرة، يرويه محمّد ليزيلَ عن صدره حِملًا راقدًا، ليزيلَ عن أكتافِهِ حِملِ السنين، يرويه محمّد ليوثِّقَ ذكرى تاريخيّة مجتمعيّة سياسيّة غيّرتْ نبضَ الواقعِ، ذكرى يوم الأرض؛
وكيف يرويه لنا محمّد، يرويه من خلالِ هلَع الأمّ وهي تسمعُ طَرْقاتٍ قويّةً على الباب الحديديّ، “فتلمْلِمُ حطّتَها البيضاء “غطاءَ الرأس التراثيّ” بسرعةٍ وهي تلهثُ كي تغطّي رأسَها استعدادًا لأيِّ مفاجأة” (ص. 13)
وتأتي المفاجأة “مات جابر يا الله، يا الللللللله”
وهنا يبدّل الكاتبُ دورَه، ويعطي حقَّ السّرد للراوي الطفل، الراوي الخائف، الراوي الذي يبوحُ بمخاوفِه ليرتاحَ منها، ليتخلّصَ منها، “لم تسعفْني حواسّي. بضبط نفسي من شدّة الخوف وهول الموقف، فشعرتُ أنّني تبوّلت في ملابسي، انفجرت ناحبًا في حين كانت فرائصي ترتعد ونبضات قلبي تتسارع دون سيطرة أو انضباط، وكلّما تعالت ولولة الشقيقتين وارتفع هذا الصراخ المخلوط بالندب المخيف والذي لا أزال أجهل سببه ازداد فزعي وبكائي وأحكمت التصاقي أكثر فأكثر بالوالدة …..أذكر أنني ترنّحت يمينًا ويسارًا لأنّني قابض على تلابيب أمّي وهي بدورها تتحرّك بقوّة وسرعة فتحرّكني معها وتجرّني إلى اتّجاهاتها” (ص.14)
وهنا نبدأُ بفهمِ العلاقة بين اليتيم والارملة، فهي الحامي، والملجأُ في هذه الحياة، في هذه الظروف التي توثَّقُ فيها الحقائقُ التاريخيّة في الرواية، فقد استشهَدَ الشقيقان جبر وعامر بانفجارِ قنبلتيْن وهما يرعيان الأغنامَ في تلك المنطقة، أمّا شقيقُهم الثالث جابر فقد استشهدَ في أحداثِ يومِ الأرض التي وقَعَت في شهر آذار.
وهذا الحدَثُ هو الذي زرعَ الخوفَ في القلوب، خاصّةً في قلبِ الطفلين محمود ومحمّد اللذيْن تنازعا الفراشَ مع الوالدة، فنامَ هذا عن يمينها وذاك عن يسارِها ليشعُرا بالأمان، لكنّ الأمّ لم تُجِد أساليبَ التربية الحديثة وانتقَصَتْها المعلوماتُ حولَ كيفيّةِ التعاطي معَ هذه الحالات، فهي أميّة لم تتعلّم الكتابةَ والقراءة…. لقد اعتادتْ ضَمَّنا إليها كلّما عشعشَ الخوفُ فينا تحتضنُ الخائفَ الملهوفَ في فراشِها وتضعُ رأسَ المندسِّ على ساعدِها، هكذا حمتْنا من الخوفِ وطرَدَتِ الهواجسَ من نفوسنا” (الرواية ص. 20)
وبعدَ التحرّرِ الأوّليِّ مِن خوفِ الطفولة الأوّل، ومن الظَّلام، يتبدّلُ الراوي ثانيةً، فينتقلُ السّردُ إلى الكاتبِ الذي ينقلُ لنا تفاصيلَ الحدثِ التاريخيّ، فيوثّقُ بالتواريخ والأحداثِ والشخصيّاتِ والزمان والمكان، فلا تخونُه الذاكرةُ لا عن منعِ التجوّلِ، ولا عن تدخُّلِ بعضِ شيوخِ القرية للحيلولةِ دون تصاعدِ الأوضاعِ الأمنيّة، وهنا تختلطُ الأدوارُ السرديّةُ إذ يستنطقُ محمّد من داخلِه ذاك الصحفيّ الذي يرتّب له التقاريرَ، فلا يتخلّى عنه في بعض الأحيان، وما بين الكاتبِ الصحفيّ، والكاتب الشاعر، والراوي الطفل، يسير السّرد شائقًا، يشركُنا كقرّاء في عمليّة إنتاج النصّ، عمليّة اكتشاف الراوي السّارد، عدا عن دخول الوالدة أيضًا كشخصيّة مركزيّة فيتراوح السّرد بين الأرملة والطفل، يتناوبان على البطولة، خاصّةً في الحدث الخاصّ جدًّا، أحداث يوم الأرض، الحدث الذي سطّر صراخَه وأصواتَ البكاء، ورُعْبَه، في ذاكرةِ طفلٍ مرعوبٍ، طفلٍ كبّرَه الحدث، فرآه بعين الفاهم حين سردَه، مفصّلًا الضررَ الذي صنعهُ الجنود، فها هي الأرملة “تتصدّى لجنازير الدبابات التي طحنت المساكبَ أحدَ أهمّ مصادرِ رزقنا، والتي استنزفت كلَّ اهتمامنا وطاقاتِنا لتجهيزِها وزراعتِها والاعتناء بها”؛ شارحًا خوفَه ومشاعرَه كطفلٍ، يسمعُ الصراخَ والعويلَ، ويرى الدباباتِ والجنازيرَ، فيحتلُّه الخوفُ، والهلعُ يسكُنُه، ولا يهدّئ من روعه إلّا أمُّه “لكني أنا الوحيد من التقطتني أمّي ورفعتني إلى صدرِها تقبّلني وتضمّني بقوّة علّها تبدّد خوفي وتهدّئ روعي” (ص. 34)
لقد استعانَ الراوي برواةٍ آخرين يساعدونَه على سرد الحدث، وذلك، لأنّه حسب علم الاجتماع، فإنّ المرء يتمكّن من خلال الحوار مع الآخر من استذكار خِبرات ومَحطّات مهمّة في مساره الحياتيّ، مستخلصًا أنّ عمليّة التذكّر الفرديّة، على الرغم من طابِعِها البيولوجيّ، لا يمكن أن تتحقّق من دون إطار اجتماعيّ معيّن يلفُّها، وهذا يجعل التجاربَ الذاتيّةَ للفرد قابلةً للتذكّر والتفسير جمعيًّا، عدا عن أنّ هذه التجاربَ الذاتيّة كانت ضمن إطار جمْعيّ لأهلِ البلد والبلدان المجاورة، كانت تجربة مرَّ بها شعب بأكمله، وهذا دعا الكاتب الضمنيّ/محمّد المذي اتّخذ موقفًا من كلّ ما جرى، دعاه يبحثُ عمّن يساعدُه على السّرد، فساعدَتْه والدَتُه أحيانًا على سردِ ذكرياتِها هي، وساعدَهُ الطفلُ الذي كان يستنبطنه على سرد ذكرياته هو، وساعدَه محمّد الصحفيّ حينًا على كتابة الوصف التقريريّ لأنّ الرواية أصبحت ديوان العرب، الديوان الذي يوثّق وقائعَنا وأيّامَنا وعاداتِنا وتقاليدَنا، ومأكلَنا ومشربَنا، وظروفَ حياتِنا، وساعده محمّد الشاعر أيضًا في السّرد، وفي اللّغة، وكلّ هذا ليوسّعَ دوائرَ السرد، ليوصِلَ بين الماضي والحاضر، ليحاولَ أن يتخلّصَ من خوف الماضي الذي لا يفارقُه، ليؤكّدَ أنَّ السيرةَ الذاتيّةَ هي سيرةٌ جمعيّة، وأنّ الحدث على اختلافِ جغرافيّته تشابَهَ عند الجميع، وهكذا تحوّل السّردُ الفرديّ إلى ذاكرةٍ جمعيّة، فبكريّة لا يفصل بين ما هو من سيرتِه الخاصة وبين ما هو من سيرة شعبِه فصلًا تامًّا، فذاكرته الذاتيّة هي جزء من ذاكرة شعبه الجماعيّة،
ولماذا كان من المهمّ إعادةَ سردِ ما جرى؟ ليس فقط للذاكرة والتاريخ، إنّما وأهمّ من ذلك، لأنّ الذاكرةَ تقوم بإعادة تشكيلِ الماضي في الزمن الحاضر؛ فنفهمَ تبعيّاتِ هذا الماضي على حاضرنا، وأيضًا على مستقبلنا؛ ومن جهةٍ ثانية فإنّ التذكّر هو عمليّة إعادة بناء الماضي، وما أحوجَنا إلى ذلك؛ وما أحوجنا إلى عمليّة ترميم النّفسِ والذكرياتِ والتصرّفات لنفهمَ ما حصل، ونأخذَ منه تبصّراتٍ تحمي مستقبلَنا، وكان لا بدّ لبكريّة أن يكتُبَ، لأنّ الكتابةَ هي عمليّةُ تنفيسٍ وتفريغٍ وتطهيرٍ للنفس، ولأنّ صراعَ الإنسان مع واقعِهِ هو ما كان محورَ الأدب، وهو ما نجدُه الآنَ وما سيبقى إلى الأبد، صراعُ الإنسان مع مفاهيمَ غيرِ مفسَّرةٍ كالموت، وأسئلةِ الكون الكبيرة التي راودَتِ الكاتب “الموت كم استنزف تفكيري كي أعرف مكنوناتِه وخباياه، كم بحثتُ في النصوص الدينيّة وقرأت فصولًا كثيرة في فلسفة الحياة والموت لأعرف ماذا يخبّئُ لبني البشر” (ص. 64)
هما سيرتان تداخلتا سيرةُ أرملةٍ من الجليل، وسيرةُ طفلٍ ابنِ أرملةٍ جليليّة، وهذا السّرد المضاعَف، أعطانا زاويَتي سردٍ مختلفتيْن، ووصلَ ماضينا بحاضرِنا، وأعطى للقصّة إطارَها، فقرأْنا روايتيْن متداخلتيْن، روايةَ الأرملة، وروايةَ الطفل الذي كبُرَ، ومنهما روايةَ شعبٍ كبُر في وقت الأزمات، فخلق لنا أدبًا يشبُهنا، يميّزُنا، يحاكينا ويحكينا لأنّ الأدبَ مشغولٌ بتغيير آليّات الواقع، تلك الآليّات التي ستتغيّر إذا ما تحرّرنا وغيّرنا ما في أنفسنا.
شكرًا للسرد اللاهث، السّردِ الذي كان يركض لا فواصل ولا نقاط توقِفُهُ، فهذا السردُ المكتوبُ على سجيّته، يجعلُ الأرملةَ، لروحها السلام، فخرًا لنسائنا، والكاتبَ قدوةً لأدبائنا، وكلّ منتَج جديد وشعبنا بألف خير وسلام وأمان.

راوية جرجورة بربارة
نصّ الكلمة التي ألقيت في نادي حيفا الثقافيّ
22-08-2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق