مقالات
الحاجة إلى علم الجيوسياسية حسن أوريد كاتب وأكاديمي من المغرب.
مصدر الحاجة لهذا العلم الجديد، هو تغير طبيعة العلاقة الدولية، أي عودة الصراع، ومنه الحرب، مما يستلزم أدوات جديدة لفهم ما يقع (غيتي إيميجز)
التحولات الكبرى التي تحدث على مستوى العلاقات الدولية، تستلزم أدوات جديدة لفهمها. ومن دون شك أن الصحافة اليومية تُسعف في تتبع ما يجري، والمجلات الأكاديمية في فهم ما يقع، ولكننا في طور جديد لم يعد تكفي فيه دراسات العلاقات الدولية، أو العلوم السياسية، أو حتى ما عُرف بدراسات حلّ النزاعات.
الحاجة ماسّة، إلى ما يُعرف بالجيوسياسية، أي المحددات التي تؤثر في سياسات الدول، والتي لا تقتصر على الجغرافيا، على أهمّيتها، ولا حتى المرجعيات الأيديولوجية.
تظلّ العلاقات الدولية مجرد توصيف لما يجري على الساحة الدولية للفاعلين، من دول ومنظمات دولية، وللأدوات المستعملة، من مرجعية قانونية: (قانون دولي، معاهدات، اتفاقيات..)، حتى مع التغير في المفاهيم والنظريات والتعريفات. وينبعث الاهتمام في الغرب بالدراسات الجيوسياسية، أو الجغراسياسية، أو الجيوبوليتيك، كما يحلو للبعض أن يسمّيها.
تكاد المكتبة العربية أن تكون خِلْوًا من مراجع في الجيوسياسية، سوى بعض الترجمات عن جيوسياسيين غربيين أو روسيين. وتبدو إرهاصات خجولة لهذا العلم الجديد، كما في كتاب لباحث من تونس، هو طارق الكحلاوي، عن “الجيوبوليتيك التونسي” (2024)، وهو في جزئه الأول يقف على مراحل نشأة هذا العلم، وتطوره منذ نهاية القرن التاسع عشر، مع بداية إرهاصاته، مع الدراسات الجغرافية أولًا، ثم الجغرافيّة السياسية ثانيًا، إلى أن استوى علمًا قائمًا بذاته، مع ماهدِين، هم: السويدي رودوف كيلين، أول من صاغ مصطلح الجيوسياسية، أو الإنجليزي هالفورد ماكيندر قُبيل الحرب العالمية الأولى، وبداية إرهاصات التنافس مع ألمانيا، أو الأميركي، ألفريم ماهان غداة الحرب العالميّة الثانية.
يمكن أن نضيف مُؤلّفًا صدر مؤخرًا عن مركز دراسات الوحدة العربية، بعنوان: “جيوبوليتيك حوض المتوسط” (2024). أما كتاب “شخصية مصر”، لجمال حمدان، ومحدد عنصر الجغرافيّة لتشكل عبقرية أمة، على أهمية الكتاب، فهو أقرب ما يكون للجغرافيّة السياسية منه إلى الجيوبوليتيك، أو علم الجيوسياسية، والفرق بين المجالين، أن الجغرافية السياسية تقف عند تأثير الجغرافية على السياسة، أما الجيوسياسية، أو الجيوبوليتيك، فلا تقف عند عنصر الجغرافية وحده، والجيوسياسية لدى البعض، هي تأثير السياسة على الجغرافيّة.
لكي نُقرّب مفهوم الجيوسياسية، أستعير هذه الصورة المجازية التي توضّح الفرق بين العلاقات الدولية، والجيوسياسية، هو أن العلاقات الدولية بمثابة قانون السير يحدد مدونة المرور للمَركبات الصغيرة والكبيرة، لكن حينما تقع الاصطدامات، وتتعطل المَركبات، تبرز الحاجة إلى ميكانيك المَركبات، أي فتح مُحركات السيارات، والوقوف على دوافعها وكوابحها، وأسباب تعثرها وتعطلها، وهو هنا، علم الجيوسياسية، أي ما هي محركات الفاعلين الدوليين، ومحفزاتهم وكوابحهم؟
مصدر الحاجة لهذا العلم الجديد، هو تغير طبيعة العلاقات الدولية، أي عودة الصراع، ومنه الحرب، مما يستلزم أدوات جديدة لفهم ما يقع. لم تعد القوة الناعمة بديلًا عن القوة (الخشنة). ولم تعد الحرب حالة عرضية، أو نشازًا، بل مكونًا بنيويًا، ويكفي أن ننظر إلى البؤر الملتهبة في العالم، والتي تتجاوز مجرد نزاع على رقعة، أو حتى على السلطة، بل ذات طبيعة وجودية، كما الحرب الروسية – الأوكرانية، أو الحرب على غزة.
يضافُ إلى ذلك قيامُ الأحلاف العسكريّة، وسباق التسلّح، وتطوّر الأدوات الحربية ومنها الحرب السيبرانية. هناك من ذهب أبعد، بإرساء علم جديد، يُسمى علم الحروب، أو البوليمولوجيا، وهي كلمة منحوتة من بوليموس الإغريقية وهي النزاع، ومنها البوليميك، ولوجيا، من لوغوس، أي علم.
جامعاتنا، ومراكز بحثنا، وطبعًا مراكز القرار، في حاجة إلى الجيوسياسية، لفهم العناصر المُحركة لسياسات الدول، داخليًا وخارجيًا. هناك قواعد محددة، منها الجغرافية، ومنها طبيعة الوعاء الجغرافي، هل هو قاريّ، أم بحري، هل به مجاري مياه؟، ونعرف المقولة الشّهيرة لهيرودوت، مصر هبة النيل، لكن المجاري المائية فقدت أهميتها منذ القرن الثامن عشر، لفائدة المنافذ البحرية. وحتى المناخ لم يعد عنصرًا محدِّدًا، يمكن تدفئة الأماكن القطبية وجعلها قابلة للحياة، ويمكن تكييف الأماكن الحارّة، وتلطيفها، ويمكن تحلية مياه البحر، بفضل عنصر جديد، وهو التكنولوجيا.
أهمية علم الجيوسياسية، هو أنه لا يقف عند العناصر المادية، وهي بالأساس الجغرافية وعناصرها، إذ يضيف إليها على عنصر التاريخ، وقراءته، والحضارة ومؤثراتها (نعيش عصرَ ما يسمّيه البعض الدول الحضارية، التي أخذت تزيح الدولة الأمة)، والتكنولوجيا (دور السكك الحديدية في فك العزلة عن مناطق في القرن التاسع عشر، ودور الثورة الرقمية حاليًا)، والاقتصاد بصفته مؤثِّرًا (وهو تحصيل حاصل)، ومؤثًّرا في دائرة علم الجيوسياسية، وهو الأمر المستجدّ.
هناك مقولة مأثورة تُنسب لنابليون من أن الجغرافية تصلح في الحرب، ويمكن أن نقول إن الجيوسياسة ينبغي أن تفهم أسباب النزاع لتجنّبها، أي قد تكون إحدى أدوات السلم، واستتباب الأمن.
إعلان
نقف عند بعض عناصر التحول التي طرأت في العقد الأخير، والتي تستلزم استدعاء علم الجيوسياسية، منها:
الوعي من أن النقطة المركزية للعالم، تظل هي الشرق الأوسط، أو هي سُرّة العالم، على خلاف ما كان ذهب إليه الرئيس أوباما في حواره الشهير مع أتلانتيك، من أن النقطة المركزية للعالم انتقلت من حوض البحر الأبيض المتوسط، إلى بحر الصين.
ساحة الصراع هي التحكم في الشرق الأوسط من أجل بسط اليد على أفريقيا، خزّان العالم. يشكل حوض البحر المتوسط فضاء نزاع على المجال البحري، من أجل ترسيم الحدود البحرية، لوضع اليد على آبار الغاز. ويبقى مجال صراع الشرق والغرب. يغدو الغاز العنصر المحدد للحروب الاقتصادية، ولخطط التنمية، يزري بالبترول.
ولا يبدو أن الطاقات المتجددة، من شأنها أن تقلل من أهمية الغاز. ويعتبر بعض علماء الجيوسياسية، الغاز بمثابة دم (كذا) العالم، وليس مجرد شريان الاقتصاد. قيام أحلاف اقتصادية على غرار الأحلاف العسكرية، واستعمال التجارة كإحدى أدوات الحرب الاقتصادية (عوض سياق العولمة حيث التجارة أداة استتباب الأمن)، ومن ذلك المشروع الذي ترعاه الولايات المتحدة المعروف بـ ” بناء جديد لعالم أفضل” عن مصطلح Build Back Better World، وهو ما يعبّر عنه بالحروف التالية B3W كرد لمبادرة الحزام والطريق المعروفة بحروفها اللاتينية الأولى BRI.
يقول المربون؛ إن التربية الجيدة هي أن تعلم أبناءك اصطياد الأرانب في مرج توجد فيها الأرانب، والتربية السيئة هي أن تُعلم أبناءك اصطياد الأرانب في مرج انقرضت فيه الأرانب، وقياسًا يمكن أن نقول؛ إن الإستراتيجية الجيدة، هي استخلاص القواعد الجديدة لفهم عالم جديد، والإستراتيجية السيئة هي النظر لعالم جديد بقواعد متجاوزة، ولذلك يغدو علم الجيوسياسية ضروريًا لفهم ما يجري، وتجنّب الصدام والصراع، وهو لذلك واحد من أدوات تحقيق السلم والأمن.