الرئيسيةشعر وشعراء

عبد اللطيف عقل: شاعر ينبض بالقصائد ومفكر يبشّر بالفلسفة (1942- 1993)

بسام الكعبي
صباح أول يوم دراسي مطلع أيلول 1973، طَرَقَ باب الصف الأول ثانوي في مدرسة الجاحظ بمدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة، رجل مربوع القامة، معتدل المظهر، ذو بشرة قمحية وشعر رمادي غزير؛ تدلى بتلقائية دون عناية على جبين دقيق يلمع بالحكمة، وقد إرتدى عدسات طبية سميكة، كادت أن تحجب لون عينيه.
ألقى معتدل القامة بعصبية عدساته الرمادية، وميدالية تحمل رزمة مفاتيح على طاولة معدمة للمعلم، إنتصبت فوق كرسي خشبي كالح أمام لوح زيتي حَجزَ الجدار المقابل لمقاعد الطلبة. رفع صاحب الشَعر الطويل أكمام قميصه بحركة مسرحية تشي بالاستعداد للمنازلة! ثم أطال النظر الصارم في ملامح شبان يافعين؛ يتوزعون على أدراج بائسة لصف واسع، يكتظ بطلبة إعدادي قادمين من مدارس المدينة، ومخيمات اللاجئين الملاصقة والقرى المجاورة.
بتفلّسف عليكم!
بعد تأمل بدا طويلا وقاسياً بتفحص الملامح، أجبر الأبرياء جميعاً على إلتزام الصمت: هدأ الصف مرة واحدة، ووقع تحت سطوة نظرات متفحصة لمعلم قوي الشخصية ومتماسك فجّر سؤال المواجهة دفعة واحدة في وجوهنا: “أين زعران مخيم بلاطة؟ الأزعر من مخيمات عسكر والعين والفارعة وعصيرة وبيت فوريك وسالم.. يرفع أصبعه؟ ما في ولا أزعر واحد في الصف”؟
تبادلتُ بصمت النظرات مع زملائي في إشارة على “صحة” الإدعاء “بعداء” بعض معلمي المدرسة لأبناء القرى والمخيمات على وجه الخصوص! وعندما لم يجرؤ أحد على “التحدي”، تجوّل صاحب السطوة في غرفة الصف عدة دقائق، ثم وقف خلف طاولة المعلم: أنزل أكمام قميصه، إرتدى عدساته، تناول رزمة مفاتيحه، غيّر من ملامحه الصارمة؛ قبل أن يفصح عن هويته ويُعرف بنفسه: “إسمي عبد اللطيف عقل أستاذ الفلسفة. كنتُ بتفلسف عليكم بالمعنى الدارج المعروف بينكم، لكن ما سنتعلمه يا شباب في مادة الفلسفة أمر مختلف تماماً” ثم أطلق دفعة أسئلة بشكل مفاجئ قبل أن نلتقط الأنفاس:
بماذا تشتهر نابلس؟
– بالصابون أستاذ
لكن شوارعها وسخة! وبماذا أيضاً؟
– بالكنافة أستاذ
لكنها مدينة مرّة! وبماذا أيضاً؟
– بدور العبادة أستاذ
لكن الإيمان في حاراتها محدود الانتشار!
تابع أستاذ الفلسفة طرح الأسئلة الأولى عن تناقضات المدينة، وطبقاتها الاجتماعية، وبلدتها القديمة، وتجارها وفقرائها، ثم تناول خطفاً الثقافة والفن والاحتلال، وخَلصَ إلى أهمية استيعاب فلسفة التناقض، وأطلق عليها الإسم السحري (الديالكتيك): مصطلح جديد نسمعه لأول مرة من أستاذ مادة الفلسفة التي نتفحص هويتها أيضاً للمرة الأولى.
محاضرته الأولى التي لم تتجاوز أربعين دقيقة سَحَرتني، كما معظم زملائي في الصف، وتركتْ بصمة في عقلي، بل غيّرتْ إتجاه حياتي، وجردتني من الاهتمام بالرياضيات والفيزياء والكيمياء إلى الفلسفة المجردة..أي حقل عصف بي؟ وأي معلم لمادة الفلسفة الجديدة أسس لبدء مسيرة التنوير، ومحاصرة الأساطير، ونقد الفكرة النمطية المعلبة والشائعة بشأن المعرفة، التربية، الأخلاق، الأديان، تدوين التاريخ، وطبقية السلطة الحاكمة..وقد تلقيتُ طوال المرحلة الثانوية رؤية فلسفية علمية مجردة؛ استوعب ما تيّسر من حقلها الشائك طالب ثانوي بمستوى عادي وقدرات متواضعة؛ وفرها نقاش الصف بعرض أفكار المنهاج التربوي المتوفر، وحتى نقد أبواب المعرفة في الكتاب.
للحق، خَسر الطلبة، بقصد، أحد أركان المعرفة بقرار الاحتلال شطب مادة الفلسفة من المنهاج التربوي الثانوي سنة 1976، وخَسر الفقراء منهم معلماً غاب عن مادة الفلسفة، لكنه ظل حريصاً على نقاشها بطرق مختلفة في الأمسيات الثقافية بمركز شباب بلاطة بسبب إقامته المؤقتة في رفيديا غرب نابلس. تواصل مع شباب الأرياف والمخيمات؛ لأسباب فكرية طبقية، وربما أيضاً من أجل كسر غربة أستاذ الفلسفة والشاعر في مدينة تجارية حيوية حفرت بقوة حضورها التاريخي في جبل النار ونهضت بأعجوبة في ممر ضيق بين جبلين شبه متلاصقين ومتقابلين وعملاقين: جرزيم وعيبال.
تناقضات المدينة
الأسئلة الفلسفية التي طرحها الأستاذ عقل علينا في الصف الأول ثانوي حول المدينة وتناقضاتها، قد تجد تفسيراً أدبياً في دراسة نشرها الناقد والكاتب عادل الأسطة سنة 1977 تحت عنوان: (تجربة المدينة في شعر عبد اللطيف عقل) وورد في مقطع من الدراسة النقدية: “تناول عقل موضوع المدينة في مجموعاته الشعرية. ونظرة على حياته من خلال دواوينه توضح حنينه إلى القرية، فالشاعر عاش في جو القرية ثم إنتقل إلى المدينة، ولذلك ظلت القرية حيّة في ذهنه” وأوضح الناقد الأسطة في دراسته الطويلة:”أن الشاعر دخل المدينة غريباً، وحاول إصلاحها لكنه بلغ درجة اليأس وعاد يشعر بالغربة من جديد. لم يستمر في مسيرته رغم أنه يعترف أنه مقصر، وقد دار في دائرة مغلقة فأنتهى إلى حيث بدأ. تمرد على وضع المدينة وحاول إصلاحها لكنه يئس ولم يستمر”..لكن بعد عشرين سنة على دراسة الأسطة القيّمة، تمكن ثلاثة من الأكاديميين البارزين وضع كتاب قيّم حول تجربة عقل في الأدب والثقافة عقب ست جلسات من الحوار الطويل مع الشاعر والكاتب خلال عام 1993 وصدرت ضمن كتاب سنة 1999.
حوارات عقل
لم يبخل ثلاثة من أساتذة الأدب العربي المرموقين في كلية آداب جامعة بيرزيت: عبد الكريم أبو خشان، عيسى أبو شمسية ومحمود العطشان في طرح أسئلة الثقافة والأدب على الشاعر الكبير عبد اللطيف عقل، وأفتتحت جلسة الحوار الأولى منتصف نيسان 1993 في بيته في شارع الارسال بمدينة رام الله. تناولت الجلسات الست مسار حياته الأدبية والثقافية، واهتمت بمرحلة الطفولة والمعاناة في قرية مهمشة جنوبي نابلس، وأبرزت الجلسات مراحل الدراسة وتجاوز العقبات حتى الحصول على أعلى شهادة، وقد جاءت كل هذه الحوارات في كتاب بعنوان (محاورات عقل في الأدب والثقافة) صدر سنة 1999 عن بيت الشعر في رام الله، وحَمل الكتابُ إهداءً يقطر وفاءً: “إلى روح عبد اللطيف عقل”.
رحل المعلم والشاعر والمفكر ظهر الخميس 26 آب 1993 بنوبة قلبية مفاجئة في منزل صديقه الأستاذ الجامعي الدكتور فوزي المساعيد في حي رفيديا غربي نابلس، وقد كان مدعواً وأسرته على الغداء، ونقله زميله المساعيد إلى مشفى رفيديا المجاور على وجه السرعة؛ لكنه القدر الذي لا مفر منه، وقد خَطَفَ بعد غيابه بشهرين والدته المسنة.
غادر الشاعر والكاتب قبل أن تنتهي حوارات الشغف المشتعلة بالتاريخ والأدب مع كبار أساتذة الأدب والثقافة، ونقش الأساتذة في مقدمة الكتاب، القصيرة والمحكمة، اعترافاً صريحاً: “لم يكن الدكتور عبد اللطيف عقل مجرد شاعر يروي سيرته، كان إنساناً متميّزاً يدلف إلى دهاليز طفولة قاسية ليعيد فصول مأساتها، ويربط بروح الفنان المسرحي بينها وبين معالم الإبداع في حياته” لكن الأساتذة الكبار كشفوا سر عدم إكتمال حوراتهم العميقة مع المفكر والفيلسوف:”اتفقنا بعد الجلسة السادسة أن يكون حديثنا عن المسرح، وكنا نعدُ أنفسنا بحوار خاص لأنه الحقل الذي يصل فيه الفنان إلى جمهوره..إنه يخاطبه، ويحاوره ويتلقى منه..كان يكتب مسرحية بعنوان الهجاج وكان ينوي أن يقوم بتمثيلها وإخراجها، وعلى حين غرة جاء الخبر بارداً أو قاطعاً لا رجعة فيه: عبد اللطيف عقل في ذمة الله.
غاب الشاعر والمفكر والفيلسوف، لكن قصيدته (حب على الطريقة الفلسطينية) لَمعتْ عندما خطفت أجمل الألحان الموسيقية الغنائية، وحجزتْ مكانتها في وجدان الناس، وقد جاءت بحبكة بليغة تربط بين الوطن والحبيبة، وتغرق في مفردات ريف جميل ومقاوم؛ يشغل وجدان الشاعر وعقل الفيلسوف:
أعيشكُ في المحل تيناً وزيتاً
وألبسُ عريك ثوباً معطر
وأبني خرائب عينيك بيتاً
وأهواك حيّاً وأهواك ميتاً
وإن جعتُ أقتاتُ زعتر
وأمسحُ وجهي بشعركِ الملتاع
ليحمرَ وجهي المغبرْ
وأولدُ في راحتيك جنيناً
وأنمو وأنمو وأكبر
شاعر الفلسفة
شَكَلتْ المحطات المفصليّة في حياته المبكرة، مسيرة شاعر بارع وأستاذ فلسفة فذّ؛ رغم رحلته القصيرة (1942- 1993) التي بالكاد تجاوزت الخمسين عاماً بأشهر قليلة..كيف نهض شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعر من الرماد؟ وكيف إنتصر على قسوة ظروفه؟ وقد بَرَع الأساتذة الثلاثة الكبار: عبد الكريم أبو خشان، عيسى أبو شمسية ومحمود العطشان؛ في التقاط جذر التشكيل الأساس، وعناصر الاندفاع الأولى في مستهل جلسة من المحاورات الست؛ وقد أطلوا فيها على عمق الشاعر الكبير، ومهروا كتاباً أدبياً قيّماً أبرز مهارة المبدع في بناء أدوات الشعر، ونظرياته، وصوره، وبلاغته، وفن حبكة النصوص، وبراعة كتابات عقل الفلسفية والمسرحية.
اليتيم المتفوق
توفي والده عطا سليمان عقل مطلع آذار 1948 بسبب عضة جمل نالت من ذراعه، ورفض والده نصيحة الأطباء بضرورة بترها لئلا تفتك “الغرغيرنا” وتموت خلايا جسده، وقال إنه يفضل الموت على أن يعيش بذراع واحدة لا تفيد فلاحاً يعمل في الزراعة قبل أن تتطور تقنياً عمليات حراثة الأرض وحصاد المنتوج. لم يصمد عطا سليمان طويلاً في مواجهة عضة الجمل القاتلة، ورحل قبل أن يتجاوز آخر العنقود عبد اللطيف السادسة من عمره، تاركاً خلفه أرملة وثلاثة أبناء وأربع بنات أصغرهم اليتيم عبد اللطيف.
عاش الصغير بعد زواج والدته في غرفة والده المتواضعة في حوش واسع لأفراد العائلة الممتدة ومنهم الحاجة المسنة التقية حليمة، التي اهتمت بالصغير عبد اللطيف، وظهرت في بعض نصوصه كحاجة حكيمة وفية لا ترد طلب مساعدة لفقير محتاج.
تقاسم عبد اللطيف الغرفة البسيطة مع شقيقيه سليمان المعروف أيضاً بإسم راشد (1930) ومحمد (1933) وأصغر شقيقاته رجيحة (1936)، ثم تنازل مع محمد ورجيحة عن الغرفة للشقيق سليمان بعد زواجه واقامته فيها. انتقل برفقتهما إلى سقيفة متواضعة جداً بجوار غرفة سليمان، وعاش فيها فترة طويلة، حتى أن قصائده المدرسية الأولى كان يوقعها بإسم (صاحب السقيفة).
مبكراً فَقَدَ عبد اللطيف والده، وتزوجت والدته، وانتقل من غرفة واسعة إلى سقيفة ضيقة، ثم عثر بين جدرانها المتواضعة على شقيقته الشابة رجيحة ميتة بجواره قبل أن تتجاوز السادسة عشرة من عمرها: طلب منها صباحاً أن تنهض لتحضر له ساندويشة الزعتر في طريقه صباحاً إلى الصف الثاني في المدرسة الابتدائية. لم تنهض كالمعتاد، وغابت للأبد عن حياته، وقد كانت الشابة العزباء كل حياته بحكم انشغال شقيقاته الثلاث المتزوجات معظم الوقت باحتياجات عائلتهن وشؤون أطفالهن.
للأخت الكبرى مريم أربعة أبناء وخمس بنات، أكبرهم محمود وكان من جيل عبد اللطيف يليه محمد، إسماعيل وعقل. رحل إبن أخته الدكتور محمود عقل سنة 2001 أستاذ علم الاجتماع في جامعة النجاح، ورحلت الشقيقة الكبرى مريم أواخر سنة 2013 ونجلها محمد سنة 2014، فيما يعيش الشقيق الثالث إسماعيل في الولايات المتحدة، وعاد الرابع عقل ليستقر في ديراستيا بعد عمل في الصحافة والترجمة دام 35 سنة في الامارات العربية المتحدة، ورحل في دير استيا سنة 2017، ولم تتمكن بنات مريم: فاطة خاتمة وعائشة من إكمال تعليمهن، فيما حصلت سلوى وفدوى على شهادات جامعية.
أنجبت الشقيقة الثانية كافية ثلاث بنات وتوفيت سنة 2012، فيما توفيت الشقيقة الثالثة ربيحة صيف 2015، وكانت قد أنجبت خمسة أبناء أكبرهم الطبيب زهير عبد القادر أبو فارس نقيب الأطباء السابق في الأردن؛ الذي حاز على الدكتوراه في الطب عام 1980 من جامعة روستوف في الاتحاد السوفياتي السابق، والمعلمين حسين وحسني، والمهندسين حسام ونظام.
أنجب سليمان، الشقيق الأكبر، إبنة واحدة تدعى عطاف قبل وفاته مبكراً في ريعان شبابه عندما خسر معركته بمواجهة سرطان الدم، فيما تزوج الأسير المحرر محمد في الأربعينات من عمره، وأنجب ثلاثة أبناء: تماضر، عطا وسليمان، وقد رحل منذ سنوات بعيدة بعد قضاء سنوات طويلة في السجون الأردنية والمعتقلات الإسرائيلية.
روى المهندس حسام أبو فارس، ابن شقيقة الشاعر، أن والدته ربيحة وشقيقتيها كافية ومريم كان لديهن مهمة واضحة منتظمة أواسط الخمسينات تجاه الأشقاء الثلاثة: زيارة السجين محمد في سجن الجفر الصحراوي، زيارة الجندي المريض سليمان في المستشفى العسكري، والاهتمام بشؤون شاعر السقيفة الفتى اليافع عبد اللطيف.
دَخل عبد اللطيف سنة 1949 الصف الأول ابتدائي في قرية ديراستيا على بُعد ثلاثين كيلو متراً جنوب غربي نابلس؛ بناء على شهادة تقدير سن منحها أحد أطباء المدينة؛ تفيد بأنه في السابعة من العمر، علماً أنه لم يتجاوز الخامسة ومن مواليد 1942. وفَرتْ شهادة الطبيب فرصة مبكرة لدخوله الأول إبتدائي ومنافسته لزملائه في الدراسة وتفوقه عليهم. تأثر الطالب في المرحلة الإعدادية بطريقة إلقاء أستاذه محمد عبود أبو حجلة للشعر، وبالذات قصيدة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة. كان المدرس يغني القصيدة وينغّم فيها، ما ترك أثراً في نفس طالب أبدى إهتماماً بالقصائد، وإنتظم بالتردد على مكتبة فقيرة للمدرسة؛ بحثاً عن دواوين شعر، ثم أطلع زملاءه مبكراً على قصيدته الأولى، ليطلب منه المعلم أبو حجلة إلقاء أبياتها أمام طلبة مدرسة دير استيا الإعدادية.
انتقل إلى المدرسة الثانوية في سلفيت سنة 1958، وبعد شهرين من دراسته في الصف الأول ثانوي، اعتقله الأمن الأردني بتهمة حيازة منشورات شيوعية؛ كان ينوي تهريبها إلى شقيقه محمد الذي انخرط في الحزب الشيوعي الأردني منذ تأسيسه عام 1951. تعرض الفتى للضرب، واحتجز مع شقيقه وستين رفيقاً شيوعياً في سجن نابلس المركزي، ثم أطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر بسبب صغر سنه، وكفالة عمه وزوج أخته، وعدم ثبوت التهمة عليه، وتحمل شقيقه مسؤولية الإنتماء للحزب.
عاد الفتى المحرر إلى ديراستيا وعاش أصعب أيامه في العمل بالكسارات والأعمال الشاقة في قرية معدمة: الاقطاع الزراعي يهيمن على معظم أراضيها، ويحرم غالبية الفلاحين من تملك أراضٍ زراعية توفر العدالة الاجتماعية والعيش بكرامة؛ وذلك إنسجاماً مع البنية الاقتصادية السائدة والمشوهة، واستجابة لخارطة توزيع طبقي يستند على سيطرة الامبراطورية العثمانية، مروراً بقيام كولونيالية بريطانية باحتلال فلسطين وتشجيع الهجرة اليهودية، والمساهمة بنكبة فلسطين 1948 وتقسيمها بين الكيان المغتصب، وإمارة شرق الأردن بإقتطاع الضفة الغربية وإعلان المملكة الأردنية، واخضاع قطاع غزة للنفوذ المصري.
جَرَدَ هذا التركيب الطبقي الفلاحين في ديراستيا من حقوقهم الاجتماعية بالعدالة، ودفع محمد عقل للانخراط في صفوف الحزب الشيوعي، وعبَّدَ الطريق أمام الشاعر عبد اللطيف للانتماء إلى الفكر الاشتراكي، وتعزيز ثقافة الطبقة في خطابه، والدفاع في أشعاره ونصوصه عن حقوق الفقراء، لكن دون إنتماء حزبي ونشاط عضوي في صفوف قوى سياسية يسارية.
قضى شقيقه محمد سبع سنوات في معتقل الجفر الأردني قبل تحرره من السجن مطلع نيسان 1965، عندما كان عبد اللطيف ينهي سنته الأخيرة في جامعة دمشق، ولم يلتقِ الشقيقان طوال ثماني سنوات. لم تنته معاناة شقيقه محمد مع نهاية الحقبة الأردنية؛ فقد أعتقل إدارياً في سجون الاحتلال أواسط السبعينات، وقضى ثلاث سنوات ونصف بذريعة الانتماء للجبهة الوطنية. غاب محمد عقل (أبو عطا) منذ سنوات بعد تجربة قاسية في سجن الجفر الصحراوي، رحل الفقير بكبرياء وقامة عالية، وقد امتلك ضمير مناضل حقيقي صلب لا يعرف التراجع: لم يتذيّل يوماً لمسؤول يمتلك نفوذاً فصائلياً. حافظ على مسافة محكمة مع الهيئات العليا للتنظيمات فرضتها نوعيته ومستوى ثقافته التقدمية. لم يبحث عن امتيازات شخصية واهتم بطبيعة العلاقات الرفاقية الديمقراطية. لم يلتحق سوى بمنظمات كفاحية متجنباً مؤسسات التمويل. لم يصفق لأفراد وظل يهتف لكفاح الفقراء، ونضال الكادحين واللاجئين من أبناء شعبه.
أبدى عبد اللطيف إهتماماً مبكراً بنشاط الحزب الشيوعي الأردني منذ أواسط الخمسينات، وتأثر برؤيته وفلسفته وتحليلاته الطبقية، واقتنع الفقير بفكرة شقيقه الفلسفية أن الشيوعية تمتلك قدرة على مواجهة الجوع، وتخليص المعدمين منه، بدليل أن الاتحاد السوفياتي الشيوعي يوفر العلاج والعمل والدراسة للكادحين. سَيّطرتْ الفكرة المثالية على عقل الفتى، وغاب عنه درجة التعارض بين فكرة فلسفية مثالية، وإمكانية تطبيقها بمعزل عن سطوة أداة دولة طبقية؛ تحتكر العنف والثروة مهما تعددت طبعات الخطاب والتسميات لأداة الهيمنة والشمولية؛ إذا لم تتعرض لمساءلة حقيقية وشفافة تكبح جماح تغولها، ونفوذها، وسيطرتها، ونزعتها لتوريث سلطة غير طوعية.
منحة الفلسفة
تمكن شقيقه سليمان، أحد جنود الجيش الأردني، من تسجيله بواسطة ضابط في كلية فيصل الثاني التابعة للجيش والقائمة في حي العبدلي بالعاصمة عمان. واظب عبد اللطيف على الدراسة فيها، بعد انقطاع عن المدرسة، والحيلولة دون عودته إلى مدرسة سلفيت الثانوية بذريعة الاعتقال السياسي. أقام عبد اللطيف سنتين في السكن الداخلي لطلبة كلية فيصل، وتقدم لامتحان الثانوي العامة سنة 1962 وحصل على الترتيب الثامن على مستوى المملكة الأردنية، ونال منحة لدراسة الفلسفة في جامعة دمشق.
اهتم بالدراسة الجامعية، وإنكب على المراجع الفكرية والفلسفية في المكتبة الظاهرية، وحصل سنة 1966 على درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من دائرة الفلسفة في كلية آداب جامعة دمشق.
عاد إلى عمان ولم يتمكن من الالتحاق بوظيفته كمعيد في الجامعة الأردنية؛ لأنه فشل في الحصول على “شهادة حُسن سلوك” أردنية من دائرة المخابرات! اشتغل معلماً للفلسفة في مدارس طوباس ونابلس قبل الاحتلال، وواصل وظيفته كمعلم للفلسفة بعد الاحتلال، وعمل محاضراً غير متفرغ في جامعة بيت لحم (1973- 1975). أقام سنوات في نابلس لكنه حرص على زيارات منتظمة لبلدته بسبب عشقه للمباني القديمة، والبساتين وأشجار التين، وقد روى الأقرباء والأصدقاء أن معظم وقت زيارته للقرية كان يقضيه في الأراضي الزراعية الجبلية؛ متنقلاً بين المباني التاريخية القديمة والتلال وأشجار اللوز والتين والزيتون.
ألغتْ سلطة الاحتلال مادة الفلسفة من منهاج المدارس الثانوية سنة 1976، وعرضتْ التربية والتعليم على الأستاذ عبد اللطيف عقل تعليم مادة اللغة العربية، لكن عاشق الفلسفة أبدى امتعاضاً وعدم رغبة في تعليم اللغة العربية عقب تجربة قصيرة في بعض مدارس نابلس.
تلقى منتصف السبعينات عرضاً للعمل في الخليج العربي من صديقه القديم أحمد الزغلول المقيم في الكويت. خاطب الزغلول إبن بلدته ديراستيا بقصيدة تحت عنوان (رسالة إلى صديق قديم):
أحنُ إلى طفولتنا
فسحر روائها ثملُ
تقادم عهدها
فكأنّ يمحو رسمها المللُ
كأنا ما رسمنا الريحَ
تسرقُ خضرة الزيتون
في الواد
الذي ضمه الجبلُ
كاّنا ما لَصَصْنا التينَ
من مسطاح أم خليل
ما قاسمتك اللسعات
من نحل بقوار
تدفق حوله العسلُ
وإختتم قصيدته الجميلة التي تحرض الشباب على رفض الهجرة، وتقطر صورها بالوفاء للوطن، والعتاب الصريح للأصدقاء المهاجرين طوعاً:
تزين لي الرحيل
كأنَّ لا يكفيك مَنْ رحلوا
وتغريني بأني
إنّ أتيتُ إليكَ
مثل البدر أكتملُ
فشكراً يا صديق طفولتي
اختلفتْ بنا السبلُ
أنا نبض التراب دمي
فكيف أخونُ نبضَ دمي وأرتحلُ!
شبح البغدادي
لم يرتحل الشاعر للعمل في سوق الخليج، لكنه ارتحل لاستكمال دراساته العليا، وقبل مغادرته طارده شبح الحسن بن زريق (البغدادي) الذي هَجَر العراق إلى الأندلس أثناء الهجوم التتري على الخلافة العباسية في بغداد، غادر بن زريق وطنه بحثاً عن الرزق والأمان، ولسوء حظه بلغ قرطبة في نهاية حكم الخلافة الأموية تحت سلطة غير مستقرة بقيادة الأمير عبد الرحمن الخامس. تدهورتْ أحوال إبن زريق وإشتد مرضه، ومات وحيداً غريباً سنة 1029م في قرطبة؛ قبل عامين من تفكك الخلافة الأموية (1031م)؛ إثر حرب أهلية مهدتْ الطريق لنشوء ملوك الطوائف: تنافست 22 إمارة فيما بينها على النفوذ والسلطة، وحرصتْ على التحالف مع الأعداء لإسقاط الخصم ودحر مملكته!
عُثر تحت وسادة الراحل إبن زريق في أحد نُزل قرطبة، على قصيدة شعرية يتيمة، باتت تعرف بإسم (العينية) أو (الفراقية) خاطب فيها الشاعر زوجته وحبيبته المعترضة على هجرته الطوعية بعيداً عن البصر ومنفياً عن الوطن، وكتب أبياتها بخفقات قلبه، وجاءت بأرق بلاغة شعرية، وأكثر الصور توهجاً بعاطفة كشفت ندم العنيد، ووجع الغريب، واعتبرتْ القصيدة من عيون الشعر العربي، وحُظيتْ بدراسات عديدة وعميقة في الأدب العربي:
لا تَعْذُليهِ فإن العَذلَ يُولُعُه
قد قُلتِ حقاً ولكن ليس يَسمَعُه
جاوزتِ في لومِه حداً أضرَ به
من حيث قدرتِ أن اللوم ينفَعَه
فاستعملي الرفقَ في تأنيبه بدلا
مِنْ عَذلِه فهو مُضنى القلبِ يوجُعُه
في مقالته السردية (الوطن جغرافية الجسد والجسد وطن الروح: إياك والضلال) إستعاد الشاعر عبد اللطيف عقل طفولته الأولى على وقع صوت معلم المدرسة يردد مسحوراً مقاطع من قصيدة إبن زريق: “كنتُ لا أملك من متاع التلاميذ الصغار إلا التحديق في فم المعلم، توفي المعلم لكن صدى صوته لم يمت في أعماقي، وكبرت ونمت شخصية بن زريق المغتربة في نفسي سنة بعد سنة وعقداً بعد عقد”. شرح في مقالته أيضاً تأثير السحر الأول لأشعار بن زريق وتكسر أحلامه في العثور على الرزق والأمان بعيداً عن بلاد الرافدين، وكتب قائلا:”…لكن شيئاً جديداً كان يتلبسني صباح ذلك اليوم من العام 1976. فتحتُ رأسي ونظرتُ فيه، فرأيتُ رأس الحسن بن زريق، وشققتُ صدري عن قلبي فطالعني قلب الحسن بن زريق، وفحصتُ إرادتي ثانية فإذا فيها إرادة الحسن بن زريق…” ثم انفجرت مطولته الشعرية (الحسن بن زريق ما زال يرحل!) مطلع الثمانيات، واختصر فيها الشاعر عقل المسافة الزمنية بين الهزائم القديمة للسلاطين والنكبات الحديثة للأنظمة، فيما ظلت الضحية واحدة تتشظى منذ قرون على سيف الاستبداد، ونار الغزوات، وسكين الاغتراب:
خرائب بغداد
مسكونة بنساء الخليفة
مسكونة بالجياع، يلوكون
برد الصفيح،
ومسكونة بالتتار
فيا وجه أمي المغمس بالوقت
والطين، قل لي، متى كنت هذي
التجاعيد، كيف أتتك الغواياتُ
من أين جاءك
هذا الحوار..؟
خرائب بغداد
مسكونة بالعسسْ
يعدون خطو المساء، إذا
همَّ جفن المخيم بالنوم
يحصون حتى النفسْ
غادر الشاعر الوطن لاستكمال دراسته العليا في الولايات المتحدة، ونال درجة الماجستير من جامعة كاليفورنيا سنة 1980 وعاد للعمل كمحاضر سنة 1981 في جامعة بيت لحم، ثم تابع دراسته وحاز على شهادة الدكتوراه في علم النفس التجريبي من جامعة هيوستن عام 1983..وتجنب الشاعر وقائع مأساة الحسن بن زريق، وقد شغلته طويلاً وسيطرت فلسفياً على تفكيره بتأمل ظروف موت (البغدادي) وحيداً غريباً بعيداً عن حبيبته ووطنه.
يُسجل للمفكر عبد اللطيف عقل أنه إعتمد على موهبته وقدراته الذاتية من أجل انتزاع التفوق والتحليق عالياً في مناصبه الأكاديمية والبحثية؛ ذلك أنه لم يكن يوماً نتاج أية سلطة، وظل نقدياً برؤية فلسفية حتى الرمق الأخير. رحل في أوج عطائه الأدبي والثقافي عندما قطع الموت الطريق على أجمل قصائد لم تتحرر من موهبة شعرية باتت في ذروة العطاء وسقف البهاء، وخسر فقراء فلسطين وشبابها المناضل أجمل صور شعرية تساند كفاحهم الوطني في التحرير، ونضالهم التقدمي الاشتراكي في التحرر والعدالة والكرامة.
تزوج من المعلمة فاطمة حمد سنة 1968 زميلة الدراسة في جامعة دمشق، وأقام المعلمان في حي رفيديا بمدينة نابلس قبل الانفصال عام 1972 دون أن ينجب الطليقان أطفالا، ثم تزوج سنة 1979 من سُليمة خضر التي تخرجت من كلية النجاح، وغادر برفقتها إلى مدينة هيوستن جنوب الولايات المتحدة لاستكمال دراساته العليا، ورزق بإبنتيه التوأم ليلى وسلمى عام 1981، الطيب سنة 1984، ورزق بإبنته جفرا في الأردن عام 1990، وقد نالتْ جفرا، أنثى الغزال والشابة اليافعة الجميلة التي إكتمل بدرها، إهداء ديوانه (بيان العار والرجوع) الصادر في القدس سنة 1992:
لجفرا التي فجرتْ في العروبة أيامها
أحبَلتْ رملها بالسَّحابْ
لجفرا التي قَدحَتْ نارَها فتفتَّح زهرُ
القيامة في القدس فوق القبابْ
لجفرا القناديلُ مضويةٌ
والنهارُ انتسابْ
لجفرا البطولات في وطن الشهداء
أكرسُ جفرا الكتابْ
أقام عقب تخرجه عدة سنوات في الأردن، وعاد إلى الوطن في حقبة الانتفاضة الأولى التي اندلعت شرارتها الأولى ظهيرة 9 كانون أول 1987. استأجر شقة سكنية في شارع الارسال بمدينة رام الله، وتمكن من استعادة وظيفته كأستاذ محاضر في جامعة النجاح بمدينة نابلس، وتسلم منصب عميد البحث العلمي ثم نائب رئيس الجامعة للعلاقات الدولية والشؤون الثقافية، وتميّز بحضوره بين زملائه وطلبته.
زيت السراج
شغفه بالمسرح دفعه بكل قوة للسعي مع صديقه وجاره ابراهيم النجار من أجل استئجار المبنى المهجور لسينما (الجميل) في رام الله، وتواصل مع أصحاب المبنى عائلة فريتخ التي تقيم في نابلس، ونجح سنة 1991 بتوقيع عقد استئجار لمدة خمس سنوات، بقيمة ستة آلاف دينار سنوياً. أشرف دون دعم مادي محلي أو طرف عربي أو مؤسسة دولية، على ترميم المبنى وصيانته من جديد، ونفض الغبار عن سينما الجميل وجددها وأطلق عليها مسرح (السراج)، لكن الشاعر رحل قبل أن يشهد ضوء السراج. تابع شريكه ابراهيم عملية الترميم المكلفة ووظف جهده الشخصي في العمل المباشر لتقليل التكلفة المالية. نجح في مهمته وأكمل ترميم المبنى، وافتتحه منتصف تشرين أول 1993 باقامة حفل تأبين للشاعر عقل في أربعينية رحيله.
انطفأ السراج بعد رحيل الشاعر أبي الطيب، رغم أن (السراج) وفر مسرحاً لعدد كبير من النشاطات الثقافية طوال أربع سنوات دون أن يتمكن من تغطية تكاليف التشغيل وتسديد كلفة الترميم، ترافقت مع فشل محاولة مشتركة لاقامة نادي للسينما بالتعاون مع إحدى مسؤولات وزارة الثقافة وبتمويل من الاتحاد الاوروبي. حصل ورثة عقل وابراهيم النجار على عرض بتعويض مالي بنقل المبنى إلى مستأجر جديد. تحول (السراج) إلى سينما (القصبة) سنة 1998 عندما تمكن المسرحي جورج ابراهيم من استقطاب تمويل من مؤسسات مانحة ساعدته على توسيع مشروع القصبة.
انقسم المهتمون بالشأن الثقافي على هوية (القصبة) وطبيعة أفلام السينما ونشاطات المسرح الثقافية المختلفة: مجموعة قاطعت (القصبة) واعتبرته صيغة من التطبيع الثقافي مع المحتل، وأخرى دافعتْ عن المشروع الجديد، وواظبتْ سنوات على المشاركة بنشاطات مسرح القصبة قبل إغلاق أبوابه مؤخراً بذريعة توقف التمويل..”لو” تمكن الشاعر عبد اللطيف عقل من “النجاة” من قدر الغياب! سيظل دون شك وفياً إلى سراج الفقراء مختلفاً عن نخبة القصبة..أعترفُ أنه افتراض خارج الاختبار؛ لكنه استنتاج افتراضي أشاعه تاريخ الراحل، ومواقفه المتماسكة، ورؤيته الواضحة، وثقافته التقدمية، وفلسفته الطبقية المنحازة إلى الفقراء:
في حياته ما قرأ ولا كتب
في حياته ما قطع شجرة، ولا طعن بقرة
في حياته ما جاب سيرة النويورك تايمس بغيابها
في حياته ما رفع صوته على أحد،
إلا بقوله تفضل..والله غير تتفضل”.
من قصيدة (عبد الهادي يصارع دولة عظمى)
موهبة متفردة
أصدر الشاعر، الذي لمعَ بموهبته الفذة فقط بعيداً عن أي إسناد سلطوي متجنباً امتيازات هيئات التمويل ورشوات جمعيات المال الريعي، مجموعة من النصوص الأدبية: في الحقل المسرحي نشر المفتاح (1976). العرس (1980). تشريقة بني مازن (1985). البلاد طلبت أهلها (1989). الحَجر في مطرحو قنطار (1990). محاكمة فنس بن شعفاط ( 1991).
أصدر كتابين في الحقل الأكاديمي: علم النفس الاجتماعي (1985) والاهدار التربوي (1983)، وصدرتْ أيضاً مجموعة من مقالاته في كتابين: (سر العصفور الأزرق كالدم) سنة 1985 و (الشلام عليكم) سنة 2007. تضمن الكتاب الأخير 23 مقالة لمعت صباح كل سبت في صحيفة (القدس) المحلية، بدءاً من أواسط تموز 1992 حتى نهاية السنة، تحت زاوية ثابتة صمدت ستة أشهر بعنوان (الشلام عليكم). تضمن الغلاف الأخير للكتاب الصادر عن منشورات (بيت الشعر) في رام الله وصفاً للمقالات :”هذه الأوراق صرخات ذابحة حالمة بالتغيير ومؤانسة الفقراء والمحرومين..وهي صفعات لاهبة للزاحفين وراء الورق الأخضر والأذلاء المهانين الكذبة..”
تميزتْ غالبية مقالات (الشلام عليكم) بأسلوب الكتابة الساخرة؛ التي تبرع بتوظيف الحس الشعبي الساخر بمقالة هزلية، تختلط فيها الأمنيات مع خيالات الأسطورة، وبراعة النقد الشعبي اللاذع للواقع الفلسطيني مطلع التسعينات على وقع بدء مفاوضات شريحة اجتماعية متنفذة مع الكيان المغتصب: اختتم مقالته (للقدس سلام) بعد سرد حوار مع ضيف نقدي غاضب وصل صدفة إلى مكتبه الجامعي؛ وإنهال بالشتائم على الزعامات المحلية والعربية والدولية:”جاء موعد واحدة من المحاضرات..تركتُ الزملاء وخرجتُ، وفي المساء كنتُ أجلسُ في شرفة الفندق الوطني بعد جولة مطولة في شوارع القدس العتيقة..نظرتُ في المارة، ونظر بعضهم في البعض الآخر. كان أمامي ورق أبيض، وحوانيت ذات زجاج..نهضتُ بتثاقل، وتركتُ القدس..ظلت هناك، في مكانها من الأرض، وحيث وضعتها السماء. حين فتحتُ رأسي على مصراعيه اختلط صوت المؤذن الرخيم بأصوات الأجراس، سعدتُ بهذه الجوقة في رأسي وأبطأت..أبطأتُ..حتى حد الغناء”.
وفي مقالته (لحظة قبل الوداع) التي نشرها قبل رحيله بتسعة أشهر كتب في منتصف النص حواراً مع صديقه الذي طرح عليه السؤال:”-كأنك ترثي المقالة الأسبوعية وتفكر بالسفر؟. قلتُ لصديقي: لحظة قبل الوداع، فمن الناس إخوة وأصدقاء، كنتُ وإياهم على موعد كل يوم سبت..منهم من كان يسعد بالصباح، وثلاثة على الأكثر تمنوا أن أكف عن الكلام. واحد قال إنه لا يفهم المقصود تماماً، واثنان اقتحما جوهر الدنيا من خلال الكلمات، أما المئات فتبدل منهم السلام إلى ما هو أكثر عمقاً من مجرد القراءة، وظل السؤال يركض بيني وبينهم، مرة تطارده الشرطة الفلسطينية، ومرة يحط على طاولة المفاوضات، وفي أكثر المرات يهاجر معي من الورق إلى الذات..”
تعاون اتحاد كتّاب فلسطين مع بيت الشعر من أجل إصدار الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الراحل أبي الطيب، وجاءت في مجلدين: الأول حجز 500 صفحة من القطع المتوسط وتضمن الدواوين: شواطئ القمر (1964). أغاني القمة والقاع (1972). هي أو الموت (1973). قصائد عن حب لا يعرف الرحمة (1975). وحجز المجلد الثاني 430 صفحة وتضمن الدواوين : الأطفال يطاردون الجراد (1976). حوارية الحزن الواحد (1985). الحسن بن زريق ما زال يرحل (1986). بيان العار والرجوع (1992). التوبة عن التوبة (2006).
وجاء تقديم الشاعر مراد السوداني رئيس إتحاد الكُتاب للأعمال الكاملة تحت عنوان (عبد اللطيف عقل، شاعر السقيفة وناي الأرض المحتلة): “إنه المبدع اليتيم والغريب الصلب المتمرّد عبد اللطيف عقل، الذي خذله المشتغلون بالشأن الثقافي وحاصروه وأنكروه حيّاً ومَيْتاً، ولكنّه ينهض قولة عالياً وشجراً محارباً ومواويل لافحة بحجم صمودنا العَفِيْ والكلام العَلِيْ ..استطاع الفيلسوف الطافح بالبلاد، بجدارة وتمكُّن لافتين أن يفكّك الواقع والوقائع ويغوص في تفاصيل اليومي وهوامش هذه الفلسطين التي انحاز لها وفاضت فيه عطاء لا يخبو وجسارة لا تلين.. نصوصه صرخات شجر يلوّح بالنزال، وأوراقه نداءات وعي ذابح حالم بالتغيير ومؤانسة الفقراء والمحرومين الذين كتب لهم عنهم ذلك الغريب القريب من شعبه ووطنه” .
تضمن غلاف الآثار الشعرية مقطعاً من ديوانه الشهير بيان العار والرجوع:
هلا بالذي ما قرأ مرةً ما كتبْ
ويتحفنا برديء الكلام إذا ما خطبْ
ولكنه يرأسُ الاتحادَ بأمر الأمير
وما اختاره ناخب
في الزمان، وفي عمره ما انتَخَبْ
هلا بالذي قبل أن بدأَ الحربَ منها انسحبْ
هلا بالحروف المريضاتِ،
إن أكرَمَتها الجرائدُ صارتْ أدبْ
وإن خوّضت في السياسة،
أرضت ضمير الأمير المرقّع بالسلّ ،
أرضتْ ضمير العربْ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق