بارعات العالم العربي
الطريق إلى كَريشنا (رحلات في كشميروالهند) لـــ أ. د سناء شعلان
( رحلة ذهنية على رحلات بطبوطية في ديارالهند)
بقلم: أ.د. منى محيلان/ الأردن
عتبات الرحلة:
صدرت هذه الرحلات عن المؤسسة العربية للدراساتوالنشر سنة 2023 وتقع في 366 صفحة من القطعالمتوسط. وهي حائزة على جائزة ابن بطوطة فرعالرحلة المعاصرة 2022- 2023 . وقد أشارت الرحالةإلى أنها قامت بهذه الرحلات في 2016- 2017
(كَريشنا) هو إله رئيسي في الهندوسية، يُعبد باعتبارهالصورة الرمزية أو المجسّم للإله (فيشنو) وهو الإلهالأعلى للآلهة عندهم، يجسّد الحماية والرحمة والحنانوالمحبة. وقد استرعى الإله (كريشنا) ومعشوقتهالفضلى (راداها) انتباه د. شعلان، وكوّنا معا مثالاخالدا للعشق المخلص، على الرغم من أن (كريشنا) كان له أكثر من ستة عشر ألف محظية، وحينمااختارت شعلان عنوانها (الطريق إلى كريشنا) فإنهاتلمح منذ البداية إلى هدف مهم من أهداف رحلتهايضاف إلى الأهداف الأكاديمية والثقافية والاجتماعيةوالسياحية ألا وهو التعرف عن كثب على مكوناتالحضارة الهندية ومعتقداتها وفلسفتها التي تركت أثرافي الحضارة العربية وغيرها من الحضارات، وكما قالد. محمد ثناء الله الندوي (رفيق الرحّالة في رحلاتهافي الهند) في خاتمة الرحلة: “الفلسفة الهندية سجلتحضورها وتأثيرها البارزين على هياكل النتاج المعرفيالإنساني القديم والحديث، حتى الحضارة البابليةوالأشورية والفرعونية ببعض أبعادها المعرفيةوالأسطورية تفاعلت مع الفلسفة الهندية“.
في البدء اتجهتُ مع الرحّالة من العنوان إلى غلافمنجزها الرحلة، فاسترعى انتباهي أنه على غيرالمألوف من إبداعات الأديبة شعلان أن تأتي صفحتاالغلاف خاليتين من صورة شخصية لها، وهيالحريصة على تثبيت صورتها في العادة على أغلفةمؤلفاتها، وحين كانت تُسأل شعلان عن هذه المسألة فيلقاءاتها الأكاديمية والثقافية والشخصية كانت تقول: مذ كنتُ طفلة كنت حين أقرأ قصة أو شعرا أُسرّحخيالاتي وأتساءل عن شكل الكاتب، روائيا كان أوشاعرا أو رحّالة أو غيره من فنون الإبداع، هذا لأنه ممايرتبط في ذهني بأن هؤلاء المبدعين لهم هيئة وصورةمختلفة عن البشر باعتبارهم بشرا فوق البشر؛ وحتىلا يقع قارئي في حيرة من هيئتي فيشوّهني خففت عنهالعناء بتثبيت صورتي على أغلفة أعمالي الإبداعية.
وهنا يتساءل قارئ الرحلة: ولماذا خالفت الرحّالةشعلان منهجها في هذا المنجز الإبداعي وثبتت صورةعجائبية غرائبية على غلاف رحلتها؟!
يقول بعضهم (المكتوب مقروء من عنوانه) على اعتبارأن دلالة كلمة (المكتوب ) هي الرسائل التي كانتتُتبادل ذات زمان ورَقيّ؛ فمن عنوان الرسالة يَستشفّالقارئ محتواها؛ وهذه الرحلة تُقرأ من غلافها الذيحمل دلالات كثيرة على ما في هذه الرحلة من دهشةوغرائبية وعجائبية وقَتامة، وما تنتهي إليه من أسئلة عنإنسانية الإنسان حين تصير المعتقدات ضربا منضروب ظلمه وتهميشه وتعذيبه، وعلى هذا فإن شعلانأرادت أن تفتح نافذة على مرحلة من مراحل حياتهاابتداء من الغلاف، زمن رحلة قامت بها إلى الهندوتركت بصمة لتجربة فريدة في مسيرتها، وبالتاليفهي بدلا من أن تثبّت صورتها الشخصية الظاهريةمن الهيئة، تخطّت ذلك في لفتة بارعة إلى رسم صورتهاالداخلية الذهنية عن تجربة عاينتها بنفسها في الهندوكشمير وكلكتا.
تنقسم صفحة الغلاف الأولى نصفين متساويين اليمنىمنهما غلب عليها اللون البني الداكن الموشّح بما يشابهالغيوم الممطرة، وفي أحشاء الرحلة كلام عن طقسالهند وأجوائها الموسمية وما يرتبط بذلك من زراعاتوأعياد واحتفالات ومهرجانات ترتبط بمواسم المطر. تتوسط هذا القسم صورة أيقونة، هي في الأصلمنحوتة لما يُعبد من قِبَل بعض الناس في كشمير والهندوكلكتا. هذه الأيقونة التي تطالعك على غلاف الرحلةتختزل مؤشرات كثيرة دالة على الحضارة الهندية ومافيها من معتقدات وفنون، ودروب الحياة قديمهاوحديثها. والقارئ لهذه الأيقونة يرى أن صورة مجسمامرأة تشغل الحيز الأكبر من الأيقونة والغلاف. ومنذالبداية يتقافز إلى ذهن القارئ لماذا احتلت المرأة هذهالمكانة العالية في صورة المجسم ووقفت على خشبةالمسرح (ساحة العرض للممثّلين) ؟ هل هي الصورةالذهنية لما ارتسم في عقل المؤلفة عقب زيارتها للهند؟هل هو استفزاز من المبدعة لتعمل ذهن القارئ فيتحريك تساؤلات الحيرة والدهشة مما يرى في الصورةفتحفّزه لخوض غمار قراءة الرحلة؟ هل تَشي بمكانةالمرأة في الهند؟ هل لهذا المجسم وشائج قربى للفنونالهندية من شعر وموسيقى ورقص وغناء؟ هل هي رمزالحياة الهندية المسكونة بالعادات والتقاليد والمعتقدات؟إن العجائبية والغرائبية أول ما يسترعي الانتباه فيصورة هذه المرأة وما يحيط بها من قوى خارقة، بعضهاجسدي وبعضها روحاني. هذه المرأة تمتلك عشرة أيدموزعة على جنبيها، وكل يد تحمل رمزا روحيا من رموزما يُعبد في الهند وكشمير وكلكتا، إضافة إلى رموزالزراعة وأدواتها، وطوق من زهور غيندا البرتقاليةالمقدسة في كلكتا. ترتدي هذه المرأة حلة تراثية برتقاليةزعفرانية، وهو اللون الذي يقدسه الهنود خاصةالهندوس والبوذيين منهم، وتتزين المرأة بزينة النساءالهنديات من الخلاخيل والحناء والأقراط والعقود،والدمغة الدائرية في منتصف الجبين بين العينين وهيالعلامة الفارقة للمتزوجة عن العزباء في تلك الديار.
يقف خلف أيقونة المرأة مباشرة وعلى ذات المستوى منالمدرج مجسم أسد يلامس رأسه إحدى الكفوف اليمنىللمرأة، ومعلوم أن الأسد وكثير من الحيوانات مما يعبدفي الهند لكنّ اختيار الأسد هنا مما يستنهض بعضالمعتقدات الهندية التي تؤمن بالتناسخ بين البشروالحيوان، فكل روح بحسب زعم أتباع هذا المعتقد تحلفي حيوان يتناسب وأعماله الدنيوية. وبالنظر إلى ماخلف المرأة والأسد يطالعنا قوس أزرق يوحي لمتأملهأنه باب نُقشت عليه بعض رموز السلم الموسيقي،وبالطبع فإن الفنون الموسيقية والتمثيلية هي من أبرزخصائص الحضارة الهندية لا سيما في هذا العصرحتى نافست بوليوود الهندية مدينة هوليوود الأمريكيةفي هذا المضمار.
هذه المجسمات الثلاثة يحملها مدرج في إشارة رمزيةذكية إلى ما يسود المجتمع الهندي من طبقية مدمِّرةقاسية تهبط بالحياة إلى الدرك الأسفل من الإنسانية،تجلس على يمين الدرجات امرأتان تعزفان على آلتينموسيقيتين وإن أنت دققت النظر ترى أنهما آلتا (يازاهأو السيتار) وهما آلتان وتريتان تراثيتان تشابهانالعود، فيما تجلس امرأة ثالثة في وضعية الرقص علىيسار المدرج، وفي المشهد كذلك على الدرجة السفلىمن المدرج مجسم فيل وهو إضافة أخرى موحية إلىمعتقدات وعبادات في الهند، بينما تتناثر أشلاءأجساد على جنبات أرضية المدرج تصدم المشاهدوتُعدّه ذهنيا لما سيعيشه مع رحالتنا (بطبوطة) منمشاهد صادمة حين يغوص في الرحلة في بعضشوارع الهند ويرى معها الجثث من بقايا البشرمتناثرة مبعثرة هنا وهناك من طبقة المنبوذين حيث اللاإنسانية في أبشع صورها، وفي أسفل الصورة خيالاترؤوس محجوبة بأردية سوداء، وهي موحية بأن هذهالرؤوس هي جماهير تتابع عرضا مسرحيا، مما يشحذذهن القارئ على التفكير والتساؤل هل هذا المشهدالسوداوي للجماهير المغلّفة بأقنعة تحجب الرؤية عنهاهي إلماحة تلخص ماضي الهند وحاضرها من حيثبروز الطبقية والفقر وسيطرة العادات والتقاليدوالمعتقدات والخرافات متصدرة المشهد وتلعب أدوارهافي حياتهم بينما يكون الجمهور شأنه شأن نعامةتخفي رأسها في الرمال لا ترى واقعها الأسود المرير. أزعم أنها إيماءة نبيهة من الرحالة إلى أن الناس هناكلا دور حقيقي لهم سوى المشاهدة لهذه القوى تلعبوهم يجلسون في موقع المتفرج السلبي، وأن صوتالقانون والأصوات المصلحة ضعيفة محجوبة بغطاءسميك لا يمكنها المشاركة في صنع حياة جديدةتسودها العدالة والمساواة. يؤكد هذا ما قالته الرحالةحين حديثها عما رأته من أيقونات ذهبية لآلهة، وأبقارمصيّغة بعقود من ذهب ومعابد بنيت من الذهبالخالص والحجارة الكريمة ” أدركتُ أن الهند ليستدولة فقيرة، بل هي دولة في أمس الحاجة إلى ثورةبيضاء كاسحة نحو خرافاتها وجهلها العقديّ كيتستيقظ من سباتها الأزلي الذي يغمر أمة بأكملها، ولايستثنى من ذلك إلا قلة قليلة … تجرّ الهند بأكملهابصعوبة في ركب الحضارة والتقدم والازدهار“
أما القسم الثاني من الغلاف فتوشّح جميعه باللونالرمادي وهو لون ناتج عن تمازج اللونين الأبيضوالأسود ، لون يومئ إلى رؤية الرحّالة ومشاعرهاالمتصارعة ما بين العشق والإعجاب والدهشة الإيجابيةلبعض ما رأته في الهند وكشمير وكلكتا وهو الجانبالأبيض من اللّون الرمادي، والكره والاشمئزاز والدهشةالسلبية لكثير من الممارسات والسلوكيات التي تصلحد العجائبية والغرائبية والوجوم والبكاء المرير علىواقع ما زال ممتدا حتى القرن الحادي والعشرين وهوالجانب الأسود من اللون. وفيما أراه أن هذا اللونالحيادي المتوسط بين الأبيض والأسود جاء للإجابة عنسؤال كبير طرحته على ذاتي: هل وصفت الرحالة الهندفي رحلتها المدوّنة وصف عارف بالهند، أم أنها خرجتمنها غير عارفة بها؟ تختم (بطبوطة) رحلتها بقولها (لميرَ شيئا من يعتقد أنه قد رأى الهند كاملة)، رحالتناأخذت طرفا يسيرا من كل شيء في رحلتها جميلا كانأم قبيحا، فتجرّعتْ منها بِلّةَ عطشان لم يرتوِ بعدُ منمياهها.
وفي أعلى هذه المساحة من الغلاف وضعت رأس أيقونة لرجل بغطاء على رأسه، يوحي بأنه رمز لرجلرحالة وهي العلامة الفارقة لهذا المنجز الإبداعي لأدبالرحلة عن بقية منجزاتها الإبداعية، تلاه مباشرةملحوظة تشير إلى أن هذا المؤلَّف حائز على جائزة ابنبطوطة في أدب الرحلات. أما في الثلث الأخير منالمساحة الرمادية فقد كُتب عنوان الرحلة، واسم المؤلفةمن أربعة مقاطع.
وبالانتقال إلى صفحة الظهر من الغلاف فقد أخذتذات اللون الرمادي بكل ما فيه من دلالات التوسطوالاعتدال بين أسود الحياة وأبيضها، يعلو وسطالغلاف شعار (السندباد الجديد) بخط مزخرف، تحتهمباشرة عنوان الرحلة والاسم الرباعي للرحّالة. ثم خطفاصل تليه فقرتان: الأولى منهما بقلم الدكتورة شعلانتوجز فيه رؤيتها في الرحلات، فتقول: “السفر فيالجغرافيا هو في حقيقة الحال سفر في التاريخوالثقافة والإنسان والتجربة والخبرات، كما هو اكتشافللذات؛ ففي كل مرة أسافر فيها أكتشف نفسي مرة تلوأخرى” ، أعقبه كلمة موجزة من دار النشر تضمتإشادة بأن هذا المنجز الصادر عن رحّالة أنثى، فيهجرأة المغامرة في عوالم كانت حكرا على الذكور. تلاهشعاران أحدهما شعار المؤسسة العربية للدراساتوالنشر، والآخر شعار المركز العربي للأدب الجغرافي.
فإذا تجاوزنا عتبتي الغلاف إلى الصفحة الأولى منالرحلة فقد أعادت المؤلفة كتابة المعلومات التعريفيةبالكتاب مع زيادة تركيب (ارتياد الآفاق) في زخرفهندسي، والزخارف الهندسية القائمة على خطوطمتداخلة هي مما أوردته الرحالة في حديثها عنالحضارة الهندية وما فيها من وشوم على الأجساد ومالها من دلالات نفسية وفكرية على من يختطها.
تلاها استهلال لمحمد أحمد السويدي في ستصفحات تحدث فيها عن جائزة ابن بطوطة في أدبالرحلات، مع وقفة قصيرة عن أدب الرحلات في الشرقوالغرب. ثم أفردَت الرحالة صفحة للعنوان (الطريق إلىكريشنا) وتحته رحلات في الهند وكشمير 2016- 2017 ، بعد ذلك وضعت مسردا للعناوين الرئيسةوالفرعية للرحلة.
الخوض في غمار الرحلة البطبوطية:
أخذت الرحلة صورة السرد الروائي بضمير المتكلم،وأطلقت الرحالة على نفسها اسم بطبوطة وكَنَّتْ أمهابأم بطبوطة في مقاربة مرحة من اسم الرحالة والجائزة(ابن بطوطة). وقد أهدت الرحالة هذا المنجز الإبداعيإلى روح والدتها المرحومة نعيمة المشايخ التي كانترفيقتها في رحلتها إلى الهند وكشمير وكلكتا، ثم قدمتفي صفحة لاحقة شكرها وامتنانها لمجموعة أسهموافي تدوين هذه الرحلة.
تعددت جوانب المنجز الإبداعي عند د. شعلان، فمنالرواية إلى القصة القصيرة والمسرحية والتمثيلية، ومعتعدد رحلات د. شعلان في مشارق الأرض ومغاربها،وأقصى شمالها إلى أقصى جنوبها إلا أن هذه هيالمرة الأولى التي أبحرت فيها مبدعتنا وخاضت غمارتجربة فن الكتابة عن رحلة قامت بها إلى الهند وكشميروكلكتا، وقد أوضحت المؤلفة في مقدمة رحلتها وجهةنظرها في الكتابة عن رحلاتها فقالت: “لا أحب الكتابةعن رحلاتي، لكنني أفضل أن أعيشها، وأن أنغمسفيها حدّ التلاشي في تفاصيلها دون أن أنشغلبتسجيل وقائعها، أو توثيق أحداثها في كتب خاصةبذلك … هذه الخبرات جميعها لم تغرني على امتدادسنين طويلة بتوثيق رحلاتي وأسفاري وخبراتي فيوثيقة سردية مكتوبة، إلى أن نجح صديقي اللدودالأديب والناقد العراقي عباس داخل حسن في أنيقنعني بذلك…”؛ فكان هذا المنجز الجميل لمبدعتنا.
نظمت المؤلفة سردها في أربع رحلات حسب عناوينهاكالآتي: الرحلة الأولى: أم بطبوطة تُصلي في جبالالهيمالايا (رحلة في كشمير وجبال الهيمالايا). الرحلةالثانية: أم بطبوطة تعاتب أبا بطبوطة (رحلة في آغرا). الرحلة الثالثة: أسعد وداود ابنا أم بطبوطة (رحلة فينيودلهي). الرحلة الرابعة: أم بطبوطة تفتح مدينة كلكتا. وقد تَفرَّع تحت هذه العناوين خمسة وثمانون عنوانافرعيا منداحا في دوائر سردية بحسب مقتضياتالوصف ومعاينة التجربة.
لعل شعلان من النساء القلائل اللواتي كتبن في أدبالرحلات، وربما تكون تجربتها هي من التجارب القليلةالمعاصرة في هذا المضمار، وفي بيان ذلك فإنني أتفقمع ذكرته شعلان في مقدمتها وهو أن أدب الرحلات فنذكوري بالدرجة الأولى من حيث التأريخ له، وسبب ذلكبرأيها “أن الرجل كان صاحب الحظوة والكأس المعلّىفي خوض غمار تجارب السفر بحكم ذكورته المسيطرةالتي فتحت الآفاق له، وتُركت المرأة محبوسة على رعايةالبيوت والأطفال والحقول” .
إننا حين نريد الاطلاع على تاريخ أمة ما في ماضيهاأو حاضرها السياسي أو العسكري فإن مرجعيتنا هيكتب التاريخ، بغض النظر عن مصداقية المؤرخ. وحيننريد الاطلاع على منجزها الحضاري والتعرف علىعلمائها وأدبائها ومبدعيها فإن الكتب العلمية وسيرالعلماء وتراجمهم وطبقاتهم مما يمكن أن تطاله اليدبسهولة، حتى كتب الاجتماع فإنها تخوض فيالخصائص العامة للمجتمعات وما يرد في هذه الكتبهو وصف يغلب عليه الجمود والطابع الأكاديمي، إننيأزعم أن ما يميز كتب الرحلات عن كل ما سبق منأساليب الكتابة وفنونها أنها تصدر عن نبض الحياةالاجتماعية فتبث الحياة اليومية وتضخ دماءها حارّة ثمتثمر سردا حيويا شائقا ماتعا جاذبا للقارئ كأنمايعايش حيوات تلك الجماعات ويغوص معهم فيتفاصيلها وفي أعماق أعماقها، فينزل أحياء الناسومساكنهم ويتذوق طعامهم وشرابهم ويعيش أفراحهمويتألم معهم في أتراحهم، يسمع صوت غنائهم وبكائهمويتجوّل في أسواقهم ويتحاور مع باعتهم.
ومما سهّل على رحّالتنا التوغل داخل تلك المجتمعاتومعايشتها أن معظم من تواصلت معهم كانوا يتقنونالعربية، وحين كانت تلتقي بفئات لا تعرف العربية ولالغتها كان معها رفاق من دارسي اللغة العربيةودارساتها إضافة إلى أساتيذ فيها ترجموا لها مايستعصي عليها.
تساؤل كبير راودني حين بدأت قراءة هذا المنجزالإبداعي، إنها المرة الأولى التي أقرأ فيها عن رحلاتامرأة، فهل ثمت خصوصية حين يكون أدب الرحلاتصادرا عن امرأة؟ وعلى رأي الرحالة نفسها “فهلللمرأة عينان مختلفتان عن الرجل في الرؤيةوالاكتشاف؟ ” أتفق والكاتبة بأن المرأة “تملك عينينمختلفتين؛ لذلك تكتب بشكل يختلف عما قد يكتبالرجل به في الشأن ذاته؛ لأنها ترى بطريقتهاالخاصة، وتحاكم العالم انطلاقا من حقيقة وجودهاوتكوينها، وتكشف كل شيء بحكم دهشتها، مفارقةالواقع المتكشف لاعتيادي تفاصيل حياتها“.
روح الأنثى تنغرس في كل تفاصيل الرحلة، فالكلام عمايتصل بالمرأة كثير ومتناثر بين صفحات الرحلة وهوحديث يكشف وضعية المرأة بحسب الطبقة التي تنتميإليها، وبعكس ما نراه في الأفلام الهندية حين يظفرالحبيب بحبيبته، ويهدم أسوار الطبقية إن كانت منطبقة دونه، فإن هذا غير متحقق على أرض الواقعهناك سوى في الأحلام والأفلام، هذه الطبقية متجذرةحتى النخاع لم يسلم منها مسلم أو هندوسي أو بوذي. ومن الخصوصيات التي ميّزت رحالتنا أنها دخلتالمجتمع النسائي وتماسّت مباشرة مع من فيه، وهومما لا يُتاح للرحالة الذكور، فقد حضرت احتفال زفاف،وقدّمت وصفا لملابس العروس الزاهية المزركشة البعيدةعن اللون الأبيض الذي هو لون الحداد على الميت فيالهند، واستمعت لغناء الزفاف ورقصَت مع الراقصاتفيه، ومما أضحكني جدا حديث بطبوطة عن امرأةاشترطت أن يكون مهرها مرحاضا في البيت وذلكلعدم توفّر المراحيض في بعض البيوت لشدة فقرها.
كما دخلت رحّالتنا المطبخ الهندي واطلعت على توابلهوبهاراته وعافت نفسها وأمها النوع الحار منها. وتذوقتأطباقا هندية، وأكلت نباتات لم ترها إلا في الهند. وعاينت المطاعم والمقاهي الهندية وتذوقت مأكولاتهاومشروباها، كل ذلك بفَرادةٍ تميز النكهة الهندية وتظهرالروح الأنثوية التي تجعلك فيه (بطبوطة) تغترف منصحنها وتشرب من كأسها وتتذوق معها الطعامالهندي في مشاهد حيّة.
كذلك وقفتُ مع (بطبوطة) وقفة متأنية عند الملابس فيالهند حتى تهيأ لي أنني اكتريت وإياها الملابسالكشميرية المزركشة الزاهية والحليّ والزيوت العطرية،وقد أشارت رحّالتنا هنا إلى ارتباط الملابس في الهندوتمايزها بما يظهر العقيدة والطبقة عند من يرتديها،فأبانت أن لباس المرأة المسلمة الهندية يكشفخصوصيتها العقائدية. كذلك لفتت انتباهنا إلى تميزالعلماء المسلين بملابس خاصة ترتبط بالتراث الهنديالمبهج للعين. ومارستُ هوايتي مع صديقتي الرحالة فيالتجوّل في الأسواق الهندية لا سيما الأسواق التييمكن دخولها بوصفها مختصة بملابس النساء.
وبالتساوق مع بعض أهداف رحلتها تدخلنا (بطبوطة)في مجالس العلم والعلماء في الجامعات والمراكزالعلمية والبحثية وأقسام اللغة العربية، فنتعرف علىقائمة من علماء العربية الذين التقتهم هناك وجالستهموحدثتهم وأعجبت بفصاحتهم واعتزازهم بإتقانهم اللغةالعربية، وسعيهم إلى تعلمها سعيا حثيثا مدهشا يمتدسنوات وسنوات، ويتنقلون بين جامعات عربية وأخرىهندية لأخذ علوم العربية وفنونها. ولا تقصُر رحّالتناالأمر على ذِكر من تحدثت إليهم أو استمعت لأحاديثهمفهي تقدم قائمة بأسماء كثير من علماء العربية فيالهند وكشمير وكلكتا ومراكز تعلم العربية وجامعاتها،وفي كل ذلك ترصد العلاقة بين التلميذ وشيخه الذييأخذ عنه العربية وعلومها، وكيف يُجلُّ التلميذ أستاذهأيما إجلال وإكبار، ومن أجمل ما ذكرته شعلان أنبعض دارسي العربية هناك ابتكر منهجا في تعلمالعربية يقوم على اختيار أديب عربي له باع طويل فيالعربية إتقانا وإبداعا؛ فيعمدون إلى حفظ مؤلفاته غيباويستظهرونها قلبا وقالبا ويهضمونها فكرا ثم يصدرونعنها في لغتهم وكلامهم وكتابتهم وبذلك يصيرونتلاميذ لهؤلاء الأساتذة دون الجلوس في حضرتهم أوالاستماع إليهم، فمنهم من أخذ عن المنفلوطي وآخرأخذ العقاد أو الرافعي دون أن يلتقيه وجها لوجه.
وهناك وقفات متعددة للرحّالة ومتناثرة بين جنباتالرحلة أشارت فيها إلى معتقدات الهنود ومللهم ونحلهممع تجنبها الخوض في فلسفة هذه المعتقدات معأصحابها حتى لا تتورط في حديث لا تستطيع أنتلملم أطرافه وتحدد أبعاده، فاكتفت بأن كانت تردد بينجنبات الرحلة أن لكل شيء في الهند إلها يُعبد ممايخطر على بالك أو لا يخطر، فهناك آلهة من البشروالشجر والحجر، ومن الحيوان المستأنس أو الحوشِيّ،ومن كواكب السماء ونجومها، إلى أعماق البحارولآلئها، ومن آلهة للفضائل وأخرى للرذائل، والعجبالعجب في كل هذا وذاك أنه يؤمن بهذه المعتقداتعلماء وصلوا أعلى الدرجات العلمية في مجالات الطبوالهندسة والفلك والرياضيات والفيزياء وغيرها من علومالطبيعة، كل ذلك غلفته رحّالتنا بسخرية خفية،فاخترعت لنفسها إلها صنعته من بنات أفكارها لكنهالم تعبده وهو إله الكذب، لكنها فوجئت بمن سبقها إلىذلك وعبد هذا الإله حقيقة على أرض الهند.
ومن ذلك انطلقت لتحدثنا عن الفرق، وخصّت طائفةالصوفية بحديث فيه بعض التفصيل، فعددت فرقهموذكرت أعلامهم، وتداولت أحاديث ذات شجون وفنونمع بعض أتباع تلك الفرق، وذكرت امتداد تلك الفرقإلى بعض الدول العربية، وثبتّت شيئا مترجما إلىالعربية من أناشيدهم التي استمعت إليها.
ومما يرتبط بالملل والنحل فقد طوّفت بنا الرحالة فيأشهر مقامات الهند ومزاراتها وبعض معابدهاومساجدها، وذكرت تقديس الهنود حتى المسلمين منهملبعض من يعتقدونهم أولياء صالحين، ومما آلمني وأناأقرأ الرحلة وكذلك الشأن بالنسبة لرحالتنا (بطبوطة) أنهذه المعابد هندوسية كانت أم بوذية فيها من التماثيلالذهبية والخبيئات في المخازن من الذهب والفضةوالجوهر ما يكفي لنقل الهند إلى مصاف الدول الغنيةولأطعمت أغنياء الهند وفقراءها والمشردين منهموالمنبوذين لسنوات وسنوات. ومن طريف ما ذكرتهالرحالة (مما نُقل إليها من قول) أن أحد التلاميذ العربتوجّه إلى دراسة الطب في الهند، وقد فشل في تحقيقمسعاه فجنح إلى تأسيس فرقة صوفية، ولأنه عربي،والمسلمون هناك يقدسون العربية؛ ولظنهم الحسنبأهلها فقد وجد آذانا صاغية وقلوبا متهافتة على اتّباعطريقته؛ فحسنت أحواله وكثرت أمواله بتجارته الرابحةمن تكوين أتباع يقدّرونه ويجمعون المال له بحجةالطريقة التي يتبعونه فيها، هذا الفعل من هذا الوليّالدَّعيّ حفز روح الرحالة المرحة وبداهتها التي يلحظهاكل من يعرف الدكتورة شعلان شخصيا في صنعالطرفة والفكرة فاخترعت اسم طريقة أطلقت عليها اسم(الطريقة البطبوطية) مندفعة إلى ذلك ومضطرة لتردعلى أسئلة كثير من أصحاب الطرق عن الطريقةالصوفية التي تنتمي إليها، وكأن الأمر فرض عين علىكل مسلم أن يكون له طريقة، وراحت تحاور فيطريقتها الوهمية بتمكّنِ وحماسِ مَن يتحدثون عنطرقهم، فتغلب حجتها حجة محاورها حينا لأنها القائدوالتابع والمؤمن الوحيد بهذه الطريقة، وتتراجع أحياناأخرى حائرة في الرد على سؤال، وهي تنظر في وجهوالدتها – رحمها الله – غامزة ألا تكشف سرّها في هذهالمسألة التي عاشتها أياما معدودات. وفي هذا السياقأستحضر طرافة رحالتنا وظرافتها الجميلة في عتبرفيقة دربها (أم بطبوطة) على زوجها في اتصالهاتفي لأنه لم يُعِدّ لها ضريحا على غرار ضريح تاجمحل، هذه الروح المرحة تعطي نكهة طيبة للرحلةفيتعايش القارئ مع (بطبوطة ) في حلّها وترحالهاوجمال روحها وعذب حوارها ولطافة مَشاهدها برغمقسوة المشهد أحيانا كثيرة.
وقد ركبنا مع (بطبوطة وأمها) في أشكال متعددةوأنواع لا حصر لها من وسائل النقل، لكن أبشع طريقةعاينتْها رحالتنا في سوق (نيوماركت) الذي أسسهالمستعمر البريطاني في الهند ليكرّس نظام الطبقيةوالتفرقة العنصرية، ورفضت وأمها ركوبها، هي وسيلةركوب أثارت غيظي وحنقي وقهري على إنسان ما زاليعيش عبودية ما قبل الحضارة الإنسانية والتحضرالبشري، وسيلة ركوب تسمى عربة الإنسان الحصان(ركشا يدويّ أو تانا) وهي عربة تتسع لشخص أوشخصين يجرها رجل بجسده العاري الناحل المعذب،إنسان ممتهن يتقاضى أجرة بالكاد تكفيه وأطفاله.
فإذا تركنا كل ذلك خلفنا ورافقنا الرحالة في رحلة إلىالطبيعة في الهند نتذوق سحرها من جبال وأنهاروحدائق غنّاء فلنا منها ما يريح النفس من عناء السفرومشقة الجسد والنفس إلى ما يبهج النظر ويخلبالألباب، وقد استهلت رحالتنا رحلتها من قمة جبالالهيمالايا حيث رفعت أم بطبوطة –رحمها الله – الأذانوصلّت ركعتين وشكرت الله وحمدته على نعمة الإسلامالذي يقدر المرأة أُمّا وزوجة وبنتا وأختا.
هذا غيض من فيض جادت به قريحة رحالتنا فيمنجزها الرائع الحائز على جائزة ابن بطوطة عن أدبالرحلات، وقد تجاوزتُ رحلتي الذهنية على الرحلاتالبطبوطية في ديار الهند عن جميل ٍكثيرٍ في هذاالمنجز المتميز ليكون ما قدمتُه في هذه الأوراق القليلةنوعا من البهارات الهندية الفاتحة لشهية القارئ ليعودإلى هذا السِّفر فيستمتع بتفاصيل كثيرة مبثوثة فيثناياه.