مقالات

الحُبّ يتجاوز الحدود في رواية “النور يأتي من خلف النافذة”

قراءة الدكتورة روز اليوسف شعبان

للكاتبين حنان جبيلي عابد و ابراهيم جاد الله، 2020، إصدار دار الرعاة للدراسات والنشر وجسور للنشر والتوزيع. لوحة الغلاف للفنانة العراقية ثائرة المياحي.

أهدى الكاتبان روايتهما: إلى كل من يخاطبه الحبّ، إلى جميع القلوب التي لا تدرك معنى الحياة دون شغف الوجود.
بطلا هذه الرواية زكريا وإلياء. اللذان تحديّا عادات المجتمع وتقاليده فأحبا بعضهما رغم بعد المسافات وفارق الدين بينهما ليثمر هذا الحب عن زواج مرهون بتأشيرات الاقامة وجوازات السفر بين مصر وإسرائيل.
زكريا باحث مصري غزير الانتاج في الكتابة المسرحية، على صعيد العالم العربي أكاديميًّا وصحافيًّا.
إلياء هي فتاة من مدينة الناصرة تعمل مرشدة سياحية. التقى زكريا بإلياء صدفة في شرم الشيخ، أمام الفندق وكان قد جاء لحضور فعاليات اليوم العالمي للمسرح، حيث سيقدم مداخلات خلال المؤتمر ودراسة، أما إلياء فكانت مرشدة سياحية من عرب الداخل، حضرت الى شرم الشيخ في رحلة سياحية ومعها مجموعة من النساء السائحات، التقت العيون واشتعلت القلوب من النظرة الأولى. تبادلا أرقام هواتفهما، التقيا معا وقضيا وقتا ممتعا . توطدت علاقتهما خلال اسبوع تواجدهما في الشرم، لاحظت صديقتها سوسن أن الياء منغمسة في الحب مع زكريا فنبهتها الى ذلك، فهو من بيئة وهي من بيئة، هو من طائفة وهي من طائفة، لكن الياء لم تكترث لكلامها.
استمرت العلاقة بين زكريا والياء بعد عودة كل واحد الى بلده، فتحادثا يوميًّا، وحدث ان زار زكريا رام الله للاشتراك في مؤتمر في جامعة بير زيت، وجاءت الياء الى رام الله لتلقاه ودعته الى الناصرة، وقد زار زكريا فلسطين مرة أخرى حين استلم دعوة من مركز محمود درويش في رام الله بمناسبة أسبوع المسرح الفلسطيني حيث أقيم مهرجان خاص لمدة أسبوع، وقد قام زكريا بمفاجأة إلياء وزارها في الناصرة حيث عرّفته على معالم المدينة العريقة: سوق الناصرة، عين العذراء كنيسة البشارة وغيرها. كما استضافته في بيتها وعرفته بأهلها..
وحين أخبرت الياء أهلها عن نيتها الزواج به، ثارت ثائرة الأم ورفضت ذلك، لكن والد الياء وقف مع ابنته في قراره رغم الظروف الصعبة وفارق الدين بينهما. كذلك والدة وأهل زكريا رفضوا فكرة الزواج، وقالت له أخته أنهم في مصر ينتقدونه لأنه يطبع مع اسرائيل ويتعامل مع أهلها ويزورها فكيف أذا عرف الناس أنه سيتزوج منها ايضا؟
بعد نقاش طويل بين زكريا وإلياء مع عائلتيهما قررت الياء أن تعتنق الاسلام لكن زكريا رفض، فالدين واحد والرب واحد ، وتم عقد القران في قبرص (زواج مدني). في نفس يوم الزفاف تلقى زكريا هاتفا من أخته تخبره أن والدته في المستشفى، فسافر في اليوم التالي الى مصر تاركا عروسته تنتظر عودته على أحر من الجمر. مكث زكريا بجانب والدته حتى فارقت الحياة، وجهّز تأشيرة دخول ( فيزا ) لعروسته للقدوم الى مصر، فاستقبلها أهل زكريا بحفاوة، وبعد أن انتهت مدة اقامة الياء في مصر، حزمت أمتعتها لتعود الى الناصرة، لتبدأ جولات أخرى من النضال من أجل لمّ الشمل والحصول على إقامة في مصر.
اللغة في الرواية:
تميّزت الرواية بلغة النسج السردي وبلغتها الحوارية.
لغة النسيج السرديّ: السرد هو الطريقة التي تروى بها أحداث الرواية وترسم بها شخصيّاتها؛ إذ يسعى من خلالها كاتب الرواية إلى إقناعنا، فنّيًّا، بما حدث، أو يزعم أنّه حدث. ولمّا كان السرد هو البنية الأساسيّة في النصّ، فإنّ الروائيّين المحدثين يحرصون كلّ الحرص على لغته، بحيث تكون أنيقة، رقيقة النسج وموحية، تتوفّر فيها المواصفات الفنّيّة المطلوبة كافّةً.( بعيطيش، 2016.)
من امثلة على لغة النسج في الرواية:” وسط فوضى أنيقة متتابعة متناثرة عند الساحة الواقعة أمام المدخل الرئيس للفندق، قفزت نظرات من عينين مدهشتين لم ير مثلهما من قبل، فاستوقفت شروده لمعات الجمال والبراءة فيهما” ص .7
:” عاودته صورة الباص والحقيبة التي لا تمحى من خياله، لعل الاسم الموجود على الحقيبة هو لشركة السياحة المنظّمة لزيارة الوفد السياحي القادم من وراء الأماكن التي تخاطب الروح والقلب ويحمل أفراده ملامح عربية أخّاذة”. ص 7-8.
:” كانت شمس منتصف النهار الساطعة قد تعالى أوارها رغم نسمات هواء ملساء قادمة من ساحل بحر قريب خلف الفندق الفاخر، اقيم بعيد عودة تلك البقعة للسيادة المصرية”. ص 8-9.
:” بعد أن أتمت إنجاز الاجراءات، صعدت الى غرفتها وأفكار تتكدّس وتداعب خيالها الغارق في اللا شيء، وما بين الدهشة والاستغراب كانت نسمات صيفيّة تعبر بكثافة داخل شرايينها الخاوية من الحبّ والشوق”. ص 12.
من الاقتباسات أعلاه نجد لغة أنيقة رقيقة النسج موحية، تحوي تشبيهات واستعارات ومجاز.
على أن اللغة الأبرز في الرواية كانت اللغة الحوارية وخاصّة الحوار الخارجي(ديالوج).
اللغة الحواريّة: الحوار هو بنية أساسيّة أخرى في البناء الروائيّ، وهو نوع من أنواع التعبير، تتحدّث من خلاله شخصيّتان، أو أكثر، حول قضيّة معيّنة. من أهمّ خصائص الحوار، بشكل عامّ، والحوار الروائيّ، بشكل خاصّ؛ الكشف عن أعماق الشخصيّات، سواء أرِوائيّة كانت هذه الشخصيّات أم مسرحيّة. فمن خلال تحاورها ثنائيًّا (شخصيّتان تتحاوران)، أو فرديًّا (من خلال الحوار الداخليّ للشخصيّة الواحدة)، تتّضح ملامح كلّ شخصيّة، ويتعرّف المتلقّي إلى طبيعة الشخصيّات في الأعمال الفنّيّة.( تاورتة، 2004، ص. 52.).
تميّز الحوار في هذه الرواية باللغة المحكيّة المصريّة والفلسطينيّة لتضفي على الرواية واقعيّة. كما نجد في الأمثلة التالية:” إنت عاوزة تشربي إيه؟ قهوة؟_ لا، أنا أصلا مبشربهاش.
_ بجدّ مبتشربيش قهوة؟ أمال بتشربي إيه؟
– _ عصير ليمون مع نعناع.
– _ إنت بتعملي إيه هنا؟ سياحة ولا شغل؟
– _ الصراحة، الاثنين. أنا بشتغل مرشدة سياحية، وطبعا حيكون أيام علشان نفسي للراحة، فهي شغل وسياحة.
– _ كويّس
– _ انتَ شو بتعمل هون؟ سياحة ولا شغل؟
– _ أنا مخرج وناقد مسرحي، وبعد بكرا عندنا مؤتمر” المسرح في ظل التحديات التكنولوجية” لمدة أسبوع، ولي مداخلات خلال المؤتمر، ودراسة أول مرة حعرضها، وحتتفاجئي بيها.
_ كثير حلو! بالتوفيق. ص 23.
وفي حوار آخر بينهما نجد اللغة المصرية المحكية واللغة الفلسطينية:” إيييه سرحتِ بإيه؟ نحن هنا.
_ لا أبدا، أنا معك.
_ مش باين.
لا أبدا. أنا تذكّرت أني أول مرّة بركب الجمل، وكنت خايفة كتير وخصوصا إنه كان يمشي قريب من البحر وعم يتمايل، يعني لو وقعت كان ممكن الموج يسحبني.
_ بعيد الشرّ عنك، انتِ فاكرة أنا كنت حسيبك؟ ص 29
كما تخللت اللغة تناصًّا وأمثالًا شعبية مثل:” أحيانا تجري الرياح بما لا تشتهي السفن” ص 85. :” أسوأ الحموات هن الخالات والعمات”ص 11.
السرد في الرواية:
“تميّز السرد في الرواية بما يسمّى “الرؤية من الخلف”: يتميّز السارد فيها بكونه يعرف كلّ شيء عن شخصيّات عالمه، بما في ذلك أعماقها النفسانيّة، مخترقًا جميع الحواجز كيفما كانت طبيعتها، كأن ينتقل في الزمان والمكان من دون صعوبة، ويرفع أسقف المنازل ليرى ما في داخلها وما في خارجها، أو يشقّ قلوب الشخصيّات ويغوص فيها ليتعرّف إلى أخفى الدوافع وأعمق الخلجات. (بوطيّب، 1993، ص. 72. ).
لقد كان السارد في هذه الرواية، عالمًا بكل خبايا النفوس، لكنه لم يستأثر بالسرد وحده، فكان السارد يسلّم الشخصيات دفّة الحوار، فيجري الحوار بين الشخصيّات، بسلاسة ولباقة، وكأن السارد يحيا مع الشخصيات ويتفاعل معها ومع مشاعرها ، ورغم ذلك لم يتح السارد لشخصيات الرواية الولوج في عالمهم الداخلي من خلال المونولوج، وإنما كان السارد هو من يتحدث عن دواخل الشخصيات وما يعتمل فيها من مشاعر، ولو أتاح للشخصيات أن تتحدث بنفسها عن عوالمها الداخلية لكان لذلك وقع أكبر على القارئ.

المكان:
يُعدّ المكان واحدًا من أهمّ المكوّنات السرديّة؛ فإنّ أيّ نصّ سرديّ يحتمل الوقوع ضمن وسط مادّيّ يشكّل خلفيّة للأحداث، ويُسهم، إلى جانب بقيّة مكوّنات النصّ السرديّ، في إيصال الرسالة النصّيّة.
يدخل المكان في علاقات متعدّدة مع مكوّنات العمل الروائيّ السرديّة، من شخصيّات وزمن ورؤية وغيرها، تجعل كلًّا منها مؤثّرًا في الآخر. ففي حين يُسهم المكان في صياغة الشخصيّات وبيان اهتماماتها ومستواها الاجتماعيّ والفكريّ، تعبّر الشخصيّة في مستويَيْها الاقتصاديّ والاجتماعيّ عن مكان سكناها، من غير الحاجة إلى الإسهاب في وصْف مكانها وتعليله.( الطويسي، 2004، ص. 167. )
إذًا، لا قيمة للمكان ما لم يحفل بالشخصيّات التي تمنحه المعنى وتُسهم في إغنائه بالدلالات، من خلال العلاقات المختلفة التي قد تدخل فيها هذه الشخصيّات مع المكان، كعلاقات التنافر أو الحياد أو الانتماء.( قاسم، 1984، ص. 76.) فالمكان “عنصر حيّ فاعل في هذه الأحداث، وفي هذه الشخصيّات، إنّه حدث وجزء من الشخصيّة، وهو الذي يؤسّس الحكي في معظم الأحيان لأنّه يجعل القصّة المتخيّلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة”( حميداني، 2000، ص. 53، 65.) لذا “فالمكان يكتسب أهمّيّة من خلال معايشة البطل للأمكنة والأحياء التي تمتُّ له بالصلة سواء من قريب أو من بعيد، فيكون المكان هو اللوحة النفسيّة التي عاشها وعايشها البطل”( محبك، د. ت.، ص. 55.).

في رواية النور يأتي من خلف النافذة نجد أن المكان شغل حيّزًا كبيرا وهاما في الرواية، فقد بدا وصف الأماكن، جزءًا لا يتجزّأ من أحداث الرواية، فالمكان الأول الذي جمع الحبيبين هو شرم الشيخ، بكل سحره وجماله.:” عند خليج نعمة وسط الموسيقى والأغاني الشعبية، ورائحة الشيشة والمارّة أمامهما كأنّهما في مظاهرة فنيّة لا تخلو من البعجة، وأصوات الضحك والهرج والمرج من كلّ حدب وصوب، وانتعاشة الحياة في ظلّ الحركة الدائمة، هناك كان شعور الفرحة المشتركة يغمرهما والبهجة بينهما لا توصف”. ص 31.
وقد ساهمت زيارة زكريّا لرام الله والقدس في توطيد العلاقة بين الحبيبين، وقد ساهم جمال المكان في تقريبهما وتعارفهما على بعضهما البعض أكثر وأكثر، وكأنه شخصية مركزية في الرواية يلعب دورا في تقريب العاشقين.
عن جمال المكان وتأثيره على الشخصيتين المركزيتين في الرواية، نجده في وصف زكريا لمدينة رام الله:” رام الله بجبالها والطريق إليها، من أهم الطرق وأجملها في فلسطين، وشوارعها ومبانيها ودوارها الشهير ورقة وشهامة شباب مبذورين في دروبها، وضريح الشهيد عرفات في المقاطعة، ومركز محمود درويش، وميدان المنارة…ص 93.
وعندما زار زكريا الناصرة كان مبهورا بجمالها:” كنيسة البشارة للاتين بازيلكا البشارة العريقة بلوحاتها، ذهل زكريا من جمال اللوحات المهداة للكنيسة وجمال أروقتها، والأجمل شرح إلياء التي اتّخذت لنفسها دورها الأساسي، كمرشدة سياحيّة وابنة البلد التي تعتنق جمال الأماكن بكل ما فيها”. ص 122.
:” انطلقن وكفها تنام برفق في كفّه متوجّهة من السوق نحو كنيسة القلايّة تلك الصومعة المشرفة على أشياء جميلة في الناصرة، وما فيها من جمال خلّاب، من هناك عائدة نحو إكمال الجولة بين أزقّة السوق القديم”. ص 123.
أما القدس فقد كان لها تأثير بالغ في روح إلياء، التي شعرت وهي في المسجد الأقصى وقبة الصخرة، أن الله للجميع، موجود في جميع الأمكنة، وقد ضاعف هذا إصرارها على الزواج من زكريا:” عندما صعدت إيلياء في طريقها إلى قبة الصخرة بجانب المسجد الأقصى، تأمّلت القُبّة الذهبيّة والزخارف الموجودة على الجدران، الترميمات التي تحيط المكان، هنا كانت لحظات من الانسلاخ تشبه صحوة اليقظة مما هي عليه، ركعت بوهن ورجاء على ركبتيها عند آخر الدرج، قبّلت الأرض التي تعشق وجودها فيها، عندها أزيلت تلك الغمامة العائمة في صدرها، وهي تتضرّع الى ربّ الكون وامتزجت أجراس الكنائس من حولها بأصوات المآذن وكلّ ما كان حولها يدخل في حالة توحد مع الذات”. ص 164.
رواية النور يأتي من النافذة ، تشرع أبواب الأمل لغد جميل خالٍ من العنصرية والتفرقة والطائفيّة وكلّ ما يمكن أن يفرّق بين أبناء الشعب العربي الواحد، مع اختلاف أماكن تواجده، ورغم الصعاب والمخاطر التي قد تواجه كل حبيبين، إلا أنّ الايمان بالحبّ المجرّد من الانتماء الطائفي، والاختلاف المكاني، كفيلُ بالانتصار، فالحبّ أقوى من كلّ الاختلافات.

المراجع:
بعيطيش، يحيى (2016)، “الخصائص اللغويّة في الرواية الحديثة: لغة عبد الحميد بن هدوقة نموذجًا”، جامعة قسنطينة، موقع إلكترونيّ.
الرابط: http://www.benhedouga.com.
بوطيّب، عبد العالي (1993)، “مفهوم الرؤية السرديّة في الخطاب الروائيّ”، مجلّة عالم الفكر، الكويت: وزارة الإعلام، مج. 21، ع. 4، أبريل-مايو-يونيو، ص. 32-48.
تاورتة، محمّد العيد (2004)، “تقنيّات اللغة في مجال الرواية الأدبيّة”، مجلّة العلوم الإنسانيّة، الجزائر: جامعة منتوري، ع. 21، حزيران.
حميداني، حميد (2000)، بنية النصّ السرديّ من منظور النقد الأدبيّ، الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ للطباعة والنشر.
الطويسي، محمود (2004)، “الفضاء الروائيّ عند غالب هلسا رواية (سلطانة)”، وعي الكتابة والحياة: قراءات في أعمال غالب هلسا، مجموعة كتّاب، عمّان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، ص. 166-195.
. قاسم، سيزا (1984)، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثيّة نجيب محفوظ، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.
محبك، أحمد زياد (د. ت.)، متعة الرواية: دراسة نقديّة منوّعة، بيروت: دار المعرفة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق