مقالات
أ.د. لطفي منصور / الصَّمْتُ وَالْكَلامُ:
قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمِتْ”
صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ.
لا أَعْرِفُ دَرْسًا في الْأَخْلاقِ يُضاهي هذا، وَهُوَ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ.
الْكَلامُ الصَّحِيحُ يَكُونُ فِي مَحَلِّهِ زِينَةٌ الْمُتَكَلِّمِ. وَيَبْقَى الْمَرْءُ مَجْهُولًا حَتَّى يَتَكَلّمَ، عِنْدَئِذٍ يُعْرَفُ مِقْدارُ عَقْلِهِ.
الصَّمْتُ وَالْإصْغاءُ لِلْآخَرِينَ تَعَلُّمٌ وَدِراسَةٌ وَزِيادَةٌ في الْمَعْرِفَةِ وَالدِّرايَةِ.
لَيْسَ مَعْنَى هَذا أَنْ يَبْقَى الْإنْسانُ ساكِتًا صامِتًا مُسْتَمِعًا كَالْأَبْكَمِ. خاصَّةً في الْجَلَساتِ مَعَ الْآخَرِينَ في حِوارٍ أَوْ نِقاشٍ دُونَ أَنْ يُدْلِيَ بِدَلْوَهُ، وَيُثْبِتَ وَجودَهُ وَلا يَبْقَى كَالْكُرْسِيِّ الَّذي يَجْلِسُ عَلَيْهِ.
لَكِنْ إيَّاهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ لِمُجَرَّدِ الْكَلامِ، فَهَذا يُسْقِطُهُ.
الْكَلامُ فَنٌّ وَقَواعِدُ. قاعِدَةُ الْكَلامِ الْفِكْرَةُ الْمُتَبَلْوِرَةُ في الذِّهْنِ . بَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِكْرَةٌ أَوْ أَفْكارٌ يُعَبَّرُ عَنْها بِالْكَلامِ. الْفِكْرُ يَسِبِقُ الْكَلامَ كَالْبَرْقِ الْخاطِفِ، وَهَذا يُسَمَّى سُرْعَةُ الْخاطِرِ. الْأَفْكارُ لا يُعَبَّرُ عَنْها إلّا إذا نَضِجَتْ. وَما يَنْطَبِقُ عَلَى الْكَلامِ يَنْطَبِقُ عَلَى الْكِتابَةِ الْفَنِّيَّةِ. الْكَلامُ الْفَصِيحُ أَصْعَبُ مِنَ الْكِتابَةِ لِأَنَّهُ مُرْتَجَلٌ، وَعَلى الْمُتَكَلِّمِ أَنْ يُراعِيَ قَواعِدَ النَّحْوِ وَالْإعْرابِ، وَتَناسُقَ
الْجُمَلِ ، وَفَصاحَةَ اللِّسانِ وَجَهْوَرِيَّةَ الصَّوْتِ. وَلا يَقْدِرُ عَلَى هذا إلّا قِلَّةٌ مِنَ النّاسِ الْمُتَضَلِّعينَ في عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، الَّذِينَ يَمْتَطُونَ صَهْوتَها.
قالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: أنا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، أيْ لِأَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ. وَكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يُخاطِبُ الْوُفُودَ كُلٌّ بِلَهْجَتِهِ وَكُلُّها فَصيحَةٌ.
إذًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَعِيَ ما يَقُولُ، وَلا يُلْقِي الْكَلامَ عَلَى عَواهِنِهِ، أَيْ عَبَثًا.
لِذَلِكَ يَتَجَنَّبُ مُعْظَمُ الْخُطَباءِ الِارْتِجالَ خَوْفَ الرِّتاجِ أَوَّلًا، والسُّقُوطِ في مَهاوِي الْخَطَإ ثانِيًا، وَيَعْمَلُونَ عَلِ إعْدادِ خُطَبِهِمْ سَلَفًا.
وَأَوَّلُ مَنْ أُرْتِجَ عَلَيْهِ مِنَ الْخُلَفاءِ عثْمانُ بنُ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَبَعْدَ أَنِ اخْتِيرَ خَليفَةً مِنْ قِبَلِ مَجْلِسِ الشُّورَى – الَّذي اخْتارَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ وَفاتِهِ – صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَوَقَفَ صامِتًا قَدْ أُرْتِجَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْتَحِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ قالَ:
“أَيُّها النّاسُ أَنْتُمْ إلى إمامٍ عامِلٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إلى إمامٍ قائِلٍ، وَكانَ سَلَفايَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُعِدّانِ لِمِثْلِ هَذا الْمَوْقِفِ خِطابًا” وَنَزَلَ.
قالُوا لَوْ زادَها جُمْلَتَيْنِ لَكانَ أَخْطَبَ النّاسِ. لِأَنَّ الْعَرَبَ يَمِيلونَ إلى الْإيجازِ.
فَالْكَلِمَةُ تَبْقَى في سُلْطانِكَ ما دامَتْ في فَمِكَ. فَإذا لَفَظْتَها تَحْكُمُكَ أَنْتَ وَصِرْتَ مَسْؤُولًا عنْها. لِذَلِكَ قالَتِ الْعَرَبُ قَدِيمًا: مَقْتَلُ الرَّجُلِ بَيْنَ فَكَّيْهِ.
وَعَلَّمُونا صِغارًا الْمثَلَ السّائِرَ:
“لِسانُكَ حِصانُكَ، إنْ صُنْتُهُ صانَكَ، وَإنْ خُنْتَهُ خانَكَ”.
إلَى هُنا.