مقالات

رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة، عنوان السلسلة: * التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟

* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* عنوان المقالة: الطفل والتطبيقات الرقمية المختلفة: تربية مبكرة على التشوش والقيم المزدوجة(8)

مقدمة:
– هل يمكن أن يتعلم الطفل أن يكون شخصًا بشخصيتين، وعقلاً بعقلين، ووجدانًا بنبضين؟ هذا ما يحدث تمامًا في ظل الانكشاف المبكر على التطبيقات الرقمية المختلفة، نحن لا نعيش فقط زمن الشاشة، بل زمن “الهُويّات المبعثرة”، حيث يتربى الطفل على أن يكون شيئًا في الواقع، وشيئًا آخر في العالم الرقمي، دون أن يُطلب منه تفسير الفجوة بين الاثنين.
* البراءة الموصولة بالخداع:
– في سنوات الطفولة الأولى، لا يملك الطفل بعدُ قدرة على التمييز بين الحقيقة والتمثيل. لذلك، عندما تفتح أمامه شاشة هاتف فيها “يوتيوب كيدز”، أو لعبة تفاعلية فيها نظام مكافآت وشخصيات لامعة، فإنه يبدأ بتشكيل تصور للعالم يقوم على مفاهيم التسلية الفورية، والمكافأة اللحظية، و”أنا أستحق كل شيء لمجرد أني طلبته”.
– وهكذا، تُزرع فيه القيم دون وعي، لا من والديه، بل من الخوارزميات، ومن الشركات الكبرى التي تدفع الملايين لتصميم تجربة استخدام تدفع الطفل للرجوع مرارًا وتكرارًا، ليتعلم أن الانفصال عن الشاشة هو عقوبة، لا راحة.
* القيمة بلا سياق، والمعنى بلا عُمق:
– يُربى الطفل رقميًا على مجموعة من القيم “المنفصلة عن السياق”، مثل: كن لطيفًا (ولكن لا بأس أن تضحك على من يخسر)، كن جريئًا (ولكن بصراخ وتحدٍّ)، كن متعاونًا (إذا أعطاك الآخر ما تريد)، هذه القيم قد تبدو جيدة على السطح، لكنها مشروطة ومبنية على مفاهيم استهلاكية بحتة، لا أخلاقية.. ولا تراعي التربية من أجل التربية.
– ومع الوقت، يصبح الطفل في حيرة من أمره: لماذا يُمنع من استخدام كلمات قاسية في البيت، بينما تُضحك الجمهور مقاطع الريلز؟ لماذا يُعاقَب على التهكم في المدرسة، ويُكافأ عليه بمشاهدات في عالم اليوتيوب؟ هنا تبدأ التربية على “الازدواجية القيمية”، ويبدأ التشوش الوجداني بالتغلغل.. بل لا أبالغ إذا قلت: وعلى انفصام الشخصية
– الانفصال العاطفي المبكر:
لم تعد الطفولة لحظة اكتشاف تدريجي للعالم، بل لحظة ابتلاع من قبل واقع افتراضي مصمم ليكون أكثر إثارة من الواقع، وهكذا يُسحب الطفل عاطفيًا من محيطه الطبيعي (الأسرة، الطبيعة، المدرسة) إلى محيط اصطناعي (مقاطع مرئية، ردود أفعال مصممة، أصوات ملونة، شخصيات غير حقيقية)، فينمو لديه انفصال مبكر عن الحاضر الحقيقي، وينجذب إلى “واقع بديل” هو فيه البطل، المُتحكِّم، والمستحق دائمًا.
* من المستهلك إلى المفعول به:
في الظاهر، يبدو الطفل كـ”مستخدم نشط”، لكنه في الحقيقة يتحوّل إلى “مفعول به” تحت وقع تصميمات التطبيقات، فهو لا يختار ما يشاهده بحرية، بل يُساق خلسة عبر ترشيحات مدروسة، وإعلانات مموّهة، وتجارب مدمنة، هذا ما يجعل الطفل في قلب منظومة تعيد تشكيل إدراكه ومشاعره، وتُربّيه على استجابات سريعة لا تستدعي تفكيرًا أو تأملًا.
* خاتمة:
– إننا أمام نمط جديد من “اليُتم التربوي”، حيث لا يُربّي الطفلَ أبٌ أو أمّ، بل تُربيه واجهات التطبيقات، وإيقاعاتها، ومؤثراتها، وسلوكيات أبطالها، والخطر لا يكمن فقط في المحتوى، بل في “المنطق الخفي” الذي يحكم هذا العالم: التكرار، المكافأة، الجاذبية البصرية، غياب العُمق، وتطبيع الازدواجية.
– لن نحمي أبناءنا بمجرد تقليل ساعات الاستخدام، بل بحضور تربوي عميق، يعيد ربط الطفل بذاته، ويُعرّفه على القيم في سياقاتها الواقعية، لا الافتراضية، نحن لا نحارب التكنولوجيا، بل ندعو إلى تحرير الطفولة من أَسْرِ الخداع الجميل، أليسَ كذلك؟… ولكم مني كلّ تحيةً وسلام

* وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: ” الاستقرار النفسي في خطر: حين تصبح شاشة الجوال مصدر كل المشاعر ”

* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1938)
* 23. شوال . 1446 هـ
* ألأثنين. 21.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق