إبراهيم خليل يعتمد بهاء طاهر في روايته «نقطة النور»على نسق قوامه تقسيم الحكاية على أقسام ثلاثة، أولها بعنوان سالم، وهو أحد شخوص القصة، وحفيد الباشكاتب توفيق أفندي السعدي. والثاني بعنوان لبنى، وهي الفتاة التي شُغف بها سالم في السنة الأولى حقوق، على الرغم من عزوفه الغامض تجاه النساء، إلا من هذه الفتاة التي تعاني من إشكالات نفسية، لأن أباها شوكت بيك وأمها الدكتورة صفاء انفصلا بالطلاق. وعاشا متخاصمين، وبسبب تلك العلاقة المتوترة تعاني الكثير لولا مربيتها دادا سنية، والطباخ عم حسن. والقسم الثالث بعنوان الباشكاتب. وهو أحد الشخصيات الرئيسية أيضا إن لم نقل الشخصية التي تنشر ظلالها على الأقسام الثلاثة، فهي تتمتع بالحضور الدائم أو التبئير focalization في جل المتواليات السردية، سواء أكانت تتعلق بهذه الشخصية، أم بتلك. وثمة شخصيات أخرى في الرواية تؤدي أدوارا بارزة، منها شوكت بيك، والد لبنى وطليق دكتورة صفاء، طبيب يمتلك عيادة ومستشفى يدران عليه دخلا كبيرا. كان في شبابه منتسبا لليسار الشيوعي، قريبا من المعارضة أيام جمال عبد الناصر. أما الدكتورة صفاء فقد ضاقت ذرعا بيساريته، وشعاراته، وحديثه المتكرر عن الكادحين، ويا عمال العالم اتحدوا. وانتظرت أن يتغير، لكنه لم يفعل، ما دعاها للبحث عن رجل آخر يروي توقها للحب، فوجدت ذلك في صدقي بيك مورِّد الأجهزة الطبية. وانتهت علاقتها بشوكت بيك عندما اكتشف خيانتها له، واتفقا على الانفصال بالطلاق، على أن تبقى لبنى في حضانته هو. في المقابل ثمة شخصيات أخرى في مقدمتها شعبان، ابن الباشكاتب، الذي تزوج من سعاد، ولديه ابن (سالم) وابنة (فوزية) تكبر سالما بأربع سنين. تقع فوزية في حبّ فراج الذي يتابع دراسته في كلية التجارة، ويسكن في شقة صغيرة من غرفتين في الجِوار. ويعدها بالزواج فور الانتهاء من الدراسة. أما سالم، فقد نشأ انطوائيا خجولا كأبيه شعبان، الذي منعه مرارا من اللعب مع أولاد الحارة بحجة أنهم ليسوا من مستوانا، كذا قال. تعتاده وتتناوب عليه حالة من الذهان يفقد فيها التحكم بأعصابه، إذ يكون طبيعيا ثم فجأة تستولي عليه مشاعر الغضب، فيضرب ويشتم مستخدما ألفاظا بذيئة، وهو يرغي ويزبد ملوحا بيديه تارة، وبرجليه تارة، وتستمر هذه الحال بضع دقائق ثم تزول. على أن هذه الحال اختفت بعد تخطّيه المراهقة، أو لعلها اختفت بكلمة أدق. ولم يستطع الاستمرار في دراسة الحقوق، وكان في سنته الأولى قد تعرَّف على لبنى، ومال إليها كل الميل، على الرغم مما عُرف عنه من عزوف، وزهد في النساء، مذ فشلت علاقته بثريا ابنة الجيران وبالأرملة عنايات. وهي بدورها مالت إليه الميل كلهُ، على الرغم من أنها كانت تخشى فقدانه، إذا عرف من أيِّ طبقة اجتماعية هي، وما هي حكايتها مع مدرس الرياضيات؟ فقد كان هذا المدرس الذي يشبه نجيب الريحاني في فيلم «غزل البنات» (الأستاذ حمام) قد اغتصبها، وبقيت من ذلك الحين تخفي ذلك عن الطليقين. وعندما ساورها الشك في أنْ تخسر سالما بسبب تلك الحكاية، أخبرت أمها الدكتورة التي طلبت منها كتمان الأمر. ووعدتها بعملية جراحية بسيطة تعيد إليها غشاء البكارة الذي فقدته؛ فالطبّ يصلح ما أفسده الأستاذ حمام. وفي الأثناء نجح مرتضى ـ زميل في الحقوق- في إبلاغ الأمن عن بعض الناشطين في الكلية ممن يطبعون المنشورات، ويوزعونها، داعين للتظاهر ضد السادات. وكانت لبنى إحدى الطالبات اللائي يحتفظن بالمنشورات، وعلى الرغم من أنها تخلصت منها إلا أن الأمن قام باعتقالها أثناء المظاهرة. ووُضعت في السجن، وبقيت فيه أياما نجح خلالها شوكت بيك – الذي سبق له أن عالج زوجة النائب العام من داء يتهدَّدُها بالوفاة علاجا ناجحا – بالتحدث إليه على قاعدة التوسّط، فأفرج عنها. في الأثناء، كان سالم الذي لا يعلم شيئا مما تعرضت له لبنى، قد زار عيادة شوكت بيك، وانتهى اللقاء بطرده من العيادة بطريقة تنم عما يتصف به هذا الطبيب من كبرياء وتعجرف. وعلى الرغم من أن اللقاء فشل في أن ينشئ علاقة مع والد لبنى، إلا أن من نتائجه منعها من مواصلة الدراسة في الحقوق، لتغادر إلى إيطاليا. وهكذا كتب على العاشقين أنْ يفترقا دون أن يعرف أيٌّ منهما مآلَ الآخر. وتبدو الحكاية أكثر تعقيدا مما يُظن، فالأسرة التي تقيم في حيّ السيدة زينب في القاهرة، في عمارة من عدة طوابق، تتعامل كثيرا مع محيطها الاجتماعي. ولهذا لا تهتم في متواليات الراوي العليم بالشخصيات حسب، وما يقع أو يجري لأي من هذه الشخصيات في هذا الموقف أو ذاك، لكنها تتحول مع ذلك لمرويات تروي حكاية المجتمع في حارة من أقدم حارات القاهرة، وأكثرها عراقة. فهو على سبيل المثال يخصص صفحات لإحياء عيد المولد النبوي على الطريقة التقليدية، ويلقي الضوءعلى أسرار البيوت مما لا يعرفه الآخرون كبيت الجارة إنصاف.. وأسرة فراج وزوجته فوزية، وابنهما عاطف. ولا يفوت الكاتب أنْ يلقي الضوء على علاقات الموظفين بعضهم ببعض في المحكمة، قبل أن يتقاعد توفيق أفندي، وبعده. والتركيز على الصلة المتينة بين السنانيري (أبو خطوة) والباشكاتب. والسنانيري هذا يشبه في شخصيته رجل الدين الذي يتكرَّر في روايات نجيب محفوظ، فله كرامات، ولديه قدرة نادرة على تفسير الأحلام، وتوقع البشائر والنذر؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. تبدو الرواية كما لو أنها حكاية حبٍّ يخالطها شيء من التصوف. ولا تخلو في الوقت نفسه من تصوير دقيق للحياة في حيّ شعبي أكثر سكانه من البسطاء، الذين يتعايشون في تعاون وحب ضمن علاقات الإخوة، والمحبة الغامرة، والتعلق الصوفي بالجوار، وبالأماكن، وبالعادات، وبالتقاليد، وبالطقوس، التي تميز حيا عن آخر. لذا اسند المؤلف بحنكته، وبراعته، للسنانيري هذا وظيفة القرين Dabble الذي يلازم الباشكاتب ملازمة الظل لصاحب الظل. فكلما حزب الأمر، وضاق المآل، وأزفت الآجال، برز من عالم اللاوعي (أبو خطوة) ليخفف عنه، أو يُذكّرَه بنُصح، أو يبشّره بشيء مقبل مما يُحتسب في علم الغيب. وبناءً على هذا ينطلق الكاتب في بنائه النسقي لهذه الرواية من تقنية الفتح والإغلاق. ففي بعض المرويات يجنح للإغلاق بالتركيز على التأزّم، أو الأرق، أو المرض، أو غلاء الأسعار غلاء فاحشا، أو وقوع ما يشبه الزلزال كسقوط سحارة الجارة إنصاف في صوت ضخم سبب الهلع لدى السكان الذين هرولوا في هروب جماعي من البناية، قبل أن يتَّضحَ لهم ما جرى. أو شرخ ينتظم حائطا جانبيا فيها من أعلى البناية إلى أسفلها مما يتطلب كشفا هندسيا، وتقريرا ينذر السكان بضرورة إخلائها قبل أنْ تنهار، فهي بناية آيلة للسقوط. ولا يفيدها تصميم، ولا ترميم. وهنا يأتي ما يخفّف غلواء هذا. فيظهر السنانيري الذي كان قد توفي مبشرا بقرب الفرج. والصفح عما ارتكبه الباشكاتب من ذنوب في ماضيه، وأنه ذاهبٌ من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى نقيّا مطهّرا من الذنوب كيوم ولدته أمه. وتختلط المفارقات. فلبنى التي كاد ينساها سالم، يتذكرها جده، فيسأل عنها، وسط دهشة الشاب الذي لم يكن يعرف أن لدى جده دراية بعلاقتهما. أخبر جده أنه رآها في منامه. فقال الجدّ، كمن يقرأ في لوح محفوظ، وهو في النزع الأخير: ستأتي قريبا لأن الحبَّ يقرّبُ بين المحبين، ولا يباعد. ومن عجيب الصُدَف أنّ فوزية هي الأخرى تسأله عن لبنى وتقول له ذلك الكلام، مع أنه لم يخبرها سابقا بما كان بينه وبين لبنى. ففي إطار من الحوافز السردية الملائمة، فوجئ الجميع بلبنى تحْضُر، وتريد رؤية الباشكاتب الذي أخبرها شوكت بيك بقدومه للعيادة عندما كانت في السجن، وأنه طرده منها شرَّ طرْدَة. وفي الغرفة التي يستلقي فيها الباشكاتب على سريره بانتظار رحمة الله، يتمّ اللقاء الذي ينتهي بما يفتح به الله على العاشقين، فالحبّ يطهر الأرواح، وينقذها مما تعانيه. تلك كانت نبوءة السنانيري وقد تحققت. تبدو الرواية كما لو أنها حكاية حبٍّ يخالطها شيء من التصوف. ولا تخلو في الوقت نفسه من تصوير دقيق للحياة في حيّ شعبي أكثر سكانه من البسطاء، الذين يتعايشون في تعاون وحب ضمن علاقات الإخوة، والمحبة الغامرة، والتعلق الصوفي بالجوار، وبالأماكن، وبالعادات، وبالتقاليد، وبالطقوس، التي تميز حيا عن آخر. وطبقة اجتماعية عن أخرى. وانتقدت الرواية على الرغم من ذلك بعض الشرائح الانتهازية، التي ما إنْ تجري في أيديها النقود حتى تتخلى عن المبادئ والشعارات التي كانت تؤمن بها. كشوكت بيك مثلا. ومرتضى الذي وشى برفاقه في الحزب. وتسلط الضوء أيضا على فساد الإدارات الحكومية؛ فلبني التي أقامت في روما 3 سنوات عرفت خلالها الكثير عن فساد موظفي السفارة، والسفير زوج عمتها، فقد سمعتهم يتحدثون في صَلَف، وقلة حياء، عما يسرقون من الأموال، وما يتلقونه من الرشوة، فضلا عن التهريب، ولاسيما تهريب الكهربائيات، والعملات الصعبة. وذلك كله تحت سمع الحكومة، وبصرها، فموظفوها محصنون، ولا يجرؤ أحدٌ على مساءلتهم، أو تقديمهم للتحقيق. والمؤلفُ الراحل، في حقيقة الأمر، لم يردْ هذا كلّه من الرواية، بل يريد ما هو أولى بالاهتمام والانتباه، وهو التحليل النفسي الداخلي للشخوص. فالقارئ، بلا ريبٍ، يستمتع كثيرًا في تتبعه اليقظ لنفسية الباشكاتب، وما طرأ عليها من تقلبات في أطوارها المتباعدة. مثلما تعجبه تلك اللمحات التي صورها من نازلي هانم زوجة الباشكاتب السِرّيّة، وحرصها الشديد على المال، وشروطها الغريبة لإتمام الطلاق، على الرغم من أنّ زواجهما عُرْفي. ويروق له التحليل النفسي لشخصية شوكت، لاسيما في نوبة السُكر التي حاول فيها استعادة طليقته صفاء من صدقي. وتحليله لنفسيَّة الدكتورة صفاء التي وجدت نفسها وجها لوجه مع طليقها في انتظار ابنتهما الوحيدة في المَطار. وقد بدا المؤلف في هذا كله طبيبا نفسيّا لا تعوزه المَعْرفة، ولا تنقصُه الخبْرة. يذكر أن لبهاء طاهر الذي ولد عام 1935 وأحرز شهادته الجامعية في التاريخ عام 1956 وفاز بجائزة البوكر عن روايته «واحة الغروب» عام 2008 روايات أخرى كـ»الحب في المنفى» و»قالت ضحى» و»شرق النخيل» ورواية «خالتي صفية» و»الدير» و»لم أعرف أن الطواويس تطير» ومجموعة قصص بعنوان «أنا الملك جئت». ناقد من الأردن