مكتبة الأدب العربي و العالمي
أ. د. لطفي مَنْصُور (مِنْ جَواهِرِ اللُّغَةِ) الْواوُ الظَّريفَةُ:
مَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجُلٍ مَعَهُ ثَوْبٌ. فَقالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَبيعُهُ؟ قالَ: لا رَحِمَكَ اللَّهُ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: لَوِ اسْتَقامَتْ قُلُوبُكُمْ لَاسْتَقامَتْ أَلْسِنَتُكُمْ.
قالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلّا قُلْتَ: لا، وَرَحِمكَ اللَّهُ. اُنٌظُرُوا – عَافاكُمُ اللَّهُ – كَيْفَ يُعَلِّمُنا أَبْو بَكْرٍ ثَقافَةَ الْكَلامِ، وَأدَبَ الْجَوابِ بِإدْخالِ هَذِهَ الْواوَ لِتَمْنَعَ الِالْتِباسَ في الَكَلام، وَمَنْعِ أَداةِ النَّفْيِ أَنْ تَنْفِيَ ما بَعْدَها، في هَذا الْمَوْقِعِ ، فَتَنْقَلِبَ إلَى دُعاءٍ بِالسُّوءِ
كَذَلِكَ اُنْظُرُوا إلى بَلاغَةِ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّهْ عَنْهُ في قَوْلِهِ لِهَذا الْجِلْفِ : “لَوِ اسْتَقامَتْ قُلُوبُكَمْ لَاسْتَقامَتْ أَلْسِنَتِكُمْ”. الْمَعْنَى هُنا عَمِيقٌ جِدًّا. لَوِ اسْتَقامَتْ قُلوبُكُمْ بَالْإيمانِ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ – الَّتِي نَشَأَ بِها أَبُو بَكْرٍ وَتَرَبَّى عَلَى فَصاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَلاغَتِهِ، وَالْحَديثِ الشَّريفِ وَصَفاءِ أَلْفاظِهِ وَصِدْقِ حُجَّتِهِ – لَما وَقَعْتُمْ بِهَذا الْخَطَلِ الْمُؤذِي.
وَمِنْ مَواقِعِ الْواواتِ الْجَمِيلَةِ أَيْضًا واوُ الدُّعاء الْجَمِيلَ. قِيلَ إنَّ أَحَدَ الشُّعَراءِ الَّذِينَ بَلَغُوا مِنَ الْعُمُرِ عِتِيّا قَدْ دَخَلَ عَلَى الْوَ زيرِ الْقائِدِ عَبْدِ اللَّهِ بِنِ طاهِرٍ يَمْدَحُهُ، فَرَحَّبَ بِهِ ابْنُ طاهِرٍ، فَلَمْ يَرُدَّ الشّاعِرُ عَلَى التَّحِيَّةِ، فَقالَ لَهُ أَحَدُ الْجُلَساء: الْأَمِيرُ يُحَيِّيكَ وَأَنْتَ لا تُجِيبُهُ يا شَيْخُ؟!
فاعْتَذَرَ الشّاعِرُ بِهَذا الْبَيْتِ: مِنَ السَّرِيع
إنَّ الثَّمانِينَ وَبُلِّغْتَها
قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمانْ
فَأَجازَهُ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً لِلْمَدِيحِ وَأُخْرى لِلدِّعاءِ وَالِاعذارِ.
هَذِهِ الواوُ في التَّرْكِيبِ “وَبُلِّغْتَها” كَمْ هِيَ لَطيفَةٌ، فَقَدْ قَرَنَتِ الِاعْتُذارَ عَنْ ضَعْفِ السَّمْعِ لِكِبَرِ سِنِّهِ الَّذِي بَلَغَ الثَّمانِينَ، مَعَ الدُّعاءَ لَهُ بِبِلُوغِها
لِأَنَّ مَنْ تَجاوَزَ الثَّمانينَ في ذَلِكَ الْعَصْرِ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ.
واوُ ثَمانِيَةَ:
وَهِيَ مِنْ مُعْجِزاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَأْتِي بَعْدَ سَبْعِ صِفاتٍ لِتَصِفَ الصِّفَةَ الثّامِنَةَ.
فَالْعَرَبُ كانُوا يَقُولونَ:
واحِدٌ، اثنينِ ، ثَلاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ، خَمْسَةْ، سِتَّةٌ، سَبْعَةٌ وَثَمانِيَةٌ.
وَقَدْ وَقَعَ في الْقُرْآنِ مِثْلُ هّذا:
“التّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُون السّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْروفِ
وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ” سَبَقَتْ هَذِهِ الواوَ صِفَةَ الثَّمانِيَةٍ.
هَذِهِ الْواوُ تَأْتِ قَبْلَ الرَّقْمِ ثَمانِيَةَ.
“سَيقُولونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولونَ سَبْعَةٌ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُم”.
فَكَأَنَّ هَذِهِ الْواو تُنَبِّهُ عَلَى الرَّقْمِ ثَمانِيَةَ.
لا أَحَدَ يَنْفي قُدْسِيَةَ الرَّقْمَ ثَمانِيَةَ. فَفي الْقُرْآنُ:” وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمئِذٍ ثَمانِيَةٌ”.
إلَى اللِّقاءِ.