
كان الحديث عن العلاقات السورية – الروسية، يأتي سياق اعتيادي في السابق كون النظام البائد رسخ فكرة وقوف البلاد في المعسكر الشرقي من العالم، لكن مع سقوط النظام وما سبقه من وقوف روسيا معه في حربه ضد السوريين طيلة سنوات الثورة، لا سيّما منذ التدخل العسكري عام 2015، سيفرض واقعا جديدا على تلك العلاقات، سيما أن لروسيا لا قاعدة جوية في سورية ومصالح لا تزال تحاول المحافظة عليها من خلال إعادة بناء العلاقة مع السلطات السورية الجديدة.
في هذه المقابلة، سنحاول قراءة ماضي ومستقبل تلك العلاقات، مع البروفيسور محمد حمزة، الذي أقام في موسكو ودرّس في جامعاتها، ويعدّ من أبرز علماء الرياضيات فيها، غير أن له اهتمامات بالاستشراق وآرائه السياسية التي أثرت على وضعه في روسيا.
كان الروس مرغمين على التخلي عن الأسد، لكونهم لا يستطيعون فعل شيء من الجو، في حال لم تكن هناك قوات برّية نشطة على الأرض
– أنت بروفيسور دكتور في الرياضيات، وكبير الباحثين في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، وفي روسيا تُعرف عالم رياضيات. فيما يعرفك السوريون أبناء بلدك أكثر سياسيّاً وصاحب رأي، ومهتمّاً بالاستشراق الروسي بدرجة أقل.. ماذا يفهم من ذلك؟
نعم، أنا بروفيسور في الرياضيات، لكني في أثناء تدريسي الجامعي بدأتُ أهتمّ بتاريخ الرياضيات العربي في القرون الوسطى، ودراسة هذا الجانب من مخطوطات الرياضيات وبعض العلوم العربية. وربما هذا قادني إلى الاستشراق الروسي لكوني عملت فترة طويلة في الأكاديمية الوطنية للعلوم في موسكو، وتحديداً في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا وبالضبط عملت على دراسة المخطوطات الرياضية العربية، ونتجت من هذا الاهتمام مؤلفاتٌ كثيرة، سواء في تاريخ الرياضيات أو الاستشراق.
أما السياسة فقد بدأت الاهتمام بها لما كان عمري 16 عاماً، وانخرطت في الأنشطة السياسية طوال فترة الدراسة الثانوية ثم الجامعية، ثم انقطعت لدى فترة تدريسي في ليبيا واليمن، حيث اهتممتُ أكثر في العلم وإصدار المؤلفات والأبحاث. ولم يكن الجو العام مناسباً لمزاولة السياسة. ومع انطلاقة الثورة السورية، وحتى ما قبل ذلك بأسابيع، أي مع اندلاع الثورة في تونس ومصر وليبيا، بدأت أستعيد حلم شبابي بالحرية، بمجتمع يُحترم فيه الإنسان، وبلد حر وكريم، فانخرطت بكل قواي من مكاني في موسكو بتنظيم حركة معارضة ضد النظام، وكانت تجربة صعبة جداً لأن موقف روسيا كان معروفاً حيال الأسد، فكان هناك انزعاج وضغط روسي علينا ومررنا في ظروف صعبة. وفصلت من عملي، وهناك زملاء وأصدقاء تعرّضوا للموقف نفسه، أو مواقف مشابهة. لكن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يتجاوز ظروف بلده وشعبه، ويجب أن يكون وطنيّاً بامتياز، وأن يهتم بالشأن العام ويقدم شيئاً لوطنه وشعبه، فنحن لا نعيش في بروج عاجية ويجب ألا نكون، فإذا لم يهتم العالم والمثقف بقضايا بلده وأبناء شعبه فهذا نقص كبير في تجربته.
– لكن معرفتنا بك من خلال ظهورك على الشاشات سيّاسياً أو من مقالاتك السياسية، وعدم معرفتنا بك جيداً عالم رياضيات، هل يدلّ ذلك على نقص في اهتمام الشعب سوري أو أي شعوب عربية بعلمائهم وأبحاثهم وإنجازاتهم العلمية؟
تلعب الأنظمة دوراً كبيراً في التعتيم على العلماء، سيما الذين لا يمشون في مواكبها، وأعرف زملاء لي أنهوا الدكتوراه وجاءوا إلى سورية وتم تعيينهم مباشرة في الجامعات والمراكز المختصة لقربهم من السلطة، لكني كنت من جملة “المغضوب عليهم”. ولذلك عملتُ في روسيا، ومن سوء الحظ أن الوضع في روسيا بم يكن مريحاً للأسباب التي ذكرتها من خلال علاقة روسيا بنظام الأسد. ونأمل من العهد الجديد في سورية أن يعيد الاعتبار إلى النخب والباحثين والكفاءات العلمية في الخارج، ويعيدها إلى المساهمة في بناء البلاد وتعزيز مسيرتها.
– عشتَ طويلاً في روسيا وما زلتَ مقيماً فيها، وصرتَ تدرك الكثير عن السياسة الروسية فيما يخصّ الشرق الأوسط. ما الأسباب التي دعت موسكو إلى التخلّي عن حليفها بشّار الأسد؟
لا يرتبط الموضوع بتطورات المعارك الأخيرة التي أسقطت النظام، أي في نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، وإنما يعود ذلك إلى أشهر سبقت، فالخطأ الذي ارتكبه الروس أنهم وضعوا كل ثقلهم في دعم بشّار الأسد في المجالات كافة، ولم يتركوا خطّاً للعودة. وبالتالي، أصيبوا مع سقوط النظام بهزيمة كبيرة في سورية، وهم يعتبرون سورية أقرب دولة لروسيا في المنطقة وقد خسروها كما خسروا أوكرانيا.
أما لماذا تخلت موسكو عن الأسد، فيجب العودة إلى تسخير روسيا طاقتها السياسية والدبلوماسية للمصالحة بين الأسد وتركيا، ولديها منافع بذلك، أولها بقاء الأسد وبدء عملية إعادة الإعمار والاستفادة منها، والمحافظة على المصالح الجيوسياسية الروسية، لكن الأسد كان يعتقد نفسه منتصراً، وأن الجميع يجب أن يأتوا إليه ويقدّموا له فروض الطاعة، بمن فيهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي بدا كأنه يتوسّل من الأسد لقاءه وحل الأزمة بينهما، ولم يقبل الأخير. كما أن هناك اتفاقيات بين روسيا والنظام لم ينفذ الأخير منها أي شيء، وهذا جعل الروس غير مرتاحين لبشّار، ووصل الأمر إلى حد الانزعاج. وعندما قامت “هيئة تحرير الشام” بالعملية العسكرية واتجهت نحو حلب، بدأ الطيران الروسي بالقصف الجوي لمساندة القوات البرّية، لكن الروس عندما رأوا تلك القوات، ومعظمها من مليشيات جنّدها النظام وأخرى تتبع لإيران ترمي سلاحها وتنسحب، اتخذوا القرار بالتخلّي عن الأسد. وأعتقد أنهم كانوا مرغمين على هذا، وليس خيارا منهم، لكونهم لا يستطيعون فعل شيءٍ من الجو، في حال لم تكن هناك قوات برّية نشطة على الأرض.
– كنتَ معارضاً للنظام السابق، علناً وبوضوح، وذكرت أنك تعرّضت للفصل من عملك في روسيا بناء على مواقفك، لكن هل كنت تتلقى مضايقات أخرى في موسكو، سيما أن الدولة الروسية كانت أهم حليف للنظام؟
في البداية، نظّمنا عدة مظاهراتٍ ضد النظام، وكانت الحكومة الروسية ترخّص لها. ثم بعد العام 2012 بدأوا بتضييق الخناق، فلم يمنعونا فقط من التظاهر، وإنما أيضاً من إقامة اجتماع أو أي نشاط له علاقة بمعارضة النظام. وتخلّلت هذا ضغوط عديدة تجاه أشخاص معروفين بمعارضتهم للنظام، فجرى فصل موظفين كثيرين من وظائفهم، لا سيما في ووسائل إعلام حكومية ناطقة بالعربية أو الروسية، وأيضاً في الجامعات، ومن الذين تعرّضوا للفصل ابني فراس من قناة “روسيا اليوم”، فقط لأنه ابني، فلم يكن له ذلك النشاط السياسي الكبير سوى من تأييد الثورة والخروج ببعض المظاهرات، لكنه ليس سياسيّاً. كما كانت هناك ضغوط ضد رجال الأعمال السوريين والطلبة في الجامعات الروسية أيضاً، مثلا، وهذه الحوادث حصلت: كان بعض الطلاب المعارضين إذا رسبوا بمادة، تطلب منهم الجامعة أن يذهبوا إلى السفارة السورية لإحضار ورقة تسمح بإعادة تقديم المادة، لكي يُجبروا الطالب على تقديم فروض الطاعة في السفارة. وتصاعدت هذه المضايقات، حتى لم نعد نستطع أن نلتقي بوصفنا أربعة أشخاص أو خمسة معارضين، مع بعضنا، وأقفلوا وسائل الإعلام في وجوهنا. وعلى المستوى الشخصي، استمررت بالظهور على وسائل الإعلام، سيما العربية، حتى وصل الأمر إلى تلقي بعض التهديدات، فتوقّفت قليلا، وأعتقد أنني لو لم أكن ممثلا للمجلس الوطني (أول جسم سياسي للمعارضة السورية بعد اندلاع الثورة) في روسيا لكنت تعرضت لمكروه.
بوتين لن يسلّم بشار الأسد، لكن قد يتخلص منه أو يساوم على الأموال التي معه
– ما الذي يطلبه الروس من سورية الجديدة لتعزيز العلاقة القديمة بين البلدين وتعميقها؟
بعد أن اكتشف الروس أنهم فقدوا سورية التي صارت لحكومة ذات ميول إسلامية وتوجه غربي، يجب أن يقدّموا مبادرات حقيقية لإصلاح العلاقة. وأنا شخصيا بعد سقوط النظام بأربعة أيام ذهبت من الدوحة، حيث أقيم حاليا، إلى موسكو والتقيت برئيس قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الروسية وقدمت له أفكارا مهمة حول تصحيح العلاقة، وقلت له إنني مواطن سوري ومواطن روسي كوني أحمل الجنسية الروسية، وتهمني مصلحة البلدين، وبالتالي لا تنتظروا من دمشق أن تبادر لتقول لكم كيف تطبعوا العلاقات، بل أنتم (الروس) يجب أن تقوموا بذلك، لكن الروس كان بطيئين باتخاذ مثل هذه الخطوات وتأخر حضور ممثل الروسي في زيارة دمشق. وأعتقد أن المشكلة الرئيسية حاليا التي تعيق تطبيع العلاقات بين البلدين هي وجود بشار الأسد في روسيا، ومن المعروف أن جميع الأموال وأطنان الذهب التي نهبها نقلها إما إلى روسيا أو الإمارات، فضلا عن وجود مئات وربما آلاف الضباط المجرمين في روسيا فروا بعد السقوط، وأعتقد أن هذه المسائل طرحت خلال زيارة ممثل الرئيس الروسي إلى دمشق، لكن من الصعوبة للروس اتخاذ قرار في هذا المسائل لعدة اعتبارات، ويبدو أن دمشق متمسكة بحل هذه المسائل، سيما أن البيان الذي صدر من الرئاسة السورية بعد الزيارة تضمّن التشديد على تطبيق العدالة الانتقالية، وهذا يقصد بشّار الأسد والمجرمين، كما فتح الرئيس الحالي، أحمد الشرع، الباب لإعادة العلاقات مع روسيا، شريطة “تصحيح أخطاء الماضي”، وهذا يعني التعويض، وبالتالي الكرة في الملعب الروسي.
ومن واجبي أن أقول هنا أن لدى الطرفين مصلحة بإعادة العلاقات، فالوجود الروسي في سورية مهم لإحداث توازن في المنطقة بين الغرب والشرق، وألا نكون في سورية في حالة ارتهان للولايات المتحدة والدول الغربية. وبخصوص مستقبل تطبيع العلاقات، فالمسألة مرتبطة بما تستطيع موسكو من تقديمه، ولديها الكثير لتقدمه من سلاح وأنظمة عسكرية وغيرها من المجالات، رغم احتياج سورية في الأمور العسكرية للتقنية الغربية التي تفتقدها الصناعة العسكرية الروسية.
– هل تعتقد أن موسكو يمكن أن تسلّم بشار الأسد وأركان سلطته التي تداعت، ويمكن أن تعيد ولو جزءا من أموال السوريين التي نهبوها؟
هذا القرار بيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو دائما يصرّح إنه لا يفرط بحلفائه. وإذا كان قد تخلى عن الأسد رئيساً، إلا أنه جلبه إلى روسيا تحت بند اللجوء الإنساني. ومن معرفتي بطريقة تعامل الرئيس الروسي مع هذه الملفات، فإنه لن يسلّم الأسد، ولكن قد تكون هناك مساومة على جزء من الأموال. وإذا اضطر الرئيس الروسي للتخلص من الأسد فسيتخلص منه على مدى سنوات، بإبعاده عن روسيا أو تدبير حادثة تنهي حياته على ألا تكون مباشرة. أما الضباط فأعتقد أيضا أن تسليمهم صعب، لأن لديهم أموالا وذهبا أيضا، ومعلوماتي بأن ضباطاً للنظام يبيعون سبائك ذهبية في روسيا في السوق السوداء مثلا.
هل لديك فكرة أين يقيم هؤلاء، لا سيما بشّار، وكيف تتعامل معهم الحكومة الروسية، وهل بشّار ومن معه من مطرودين أو مخلوعين أوراق يمكن استخدامها مستقبلاً؟
نعم، هم أوراق يمكن استخدامها في أي وقت. بخصوص الضباط، تفيد معلومات بأنه تم وضعهم في منطقة جنوب روسيا في مبان شديدة الحراسة في شبه إقامة جبرية، وهؤلاء يمكن الاستفادة منهم مرتزقةً كونهم عسكريين، فقد يرسلون جزء منهم إلى أفريقيا أو إلى أي دول تتدخل فيها روسيا سيما عسكريا. وفي كل الأحوال، لدى هؤلاء أموال وينفقونها، وروسيا الدولة ليست متضرّرة منهم، إلا من الجانب المعنوي، وهذا مشكلة يجب أن تحلها موسكو.
تفيد المعلومات بأن بشّار في فيلا في موسكو تحت حماية شركة حماية أمنية خاصة يدفع لها من أمواله، بالإضافة إلى مراقبة من السلطات الروسية، وهو ممنوع من أي نشاط إعلامي أو سياسي. وجميع الرؤساء أو الشخصيات الذين كانوا حلفاء للحكومة الروسية يقيمون مثله في أماكن شبه معزولة، كون نشاطهم أو تجوالهم بشكل طبيعي سيسبب مشكلات للروس الذين أعطوه هو وعائلته اللجوء الإنساني. وهذا يفرض عليه قواعد عدم الانخراط بالنشاط السياسي أو الإعلامي، وإلا ستجعل مخالفة هذه القواعد الفرصة متاحة أمام روسيا لطرده.
– بعد أشهر على تحرير البلاد من نظام الأسد، هل أنت راضٍ عن أداء الإدارة الجديدة على المستويات المختلفة؟
أعتبر نفسي من الحكومة الجديدة، وأدعمها بكل ما أستطيع ومتفائل بها، لكن هناك أخطاء واضحة يجب تلافيها، سيما نقص الخبرة في العمل السياسي وإدارة الدولة. النيات الصادقة لدى الرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني اللذين يظهر من خلال خطابهما الوطني والموزون أن لدى الحكومة خطة لبناء سورية الجديدة التي يشعر فيها المواطن بكرامته. وهناك أخطاء ومشكلات خارجة عن إرادة الدولة، فهم استلموا الحكم في بلد مدمّر كليا، سواء البنية التحتية أو المجتمع، وهناك قوى في الداخل والخارج تحاول إثارة المشكلات، لا سيما النعرات الطائفية والعرقية إلى درجة خروج أصوات تطلب العون الإسرائيلي وتحاول الانفصال. وتصطاد هذه الأصوات غير الوطنية في الماء العكر، وتستغل ضعف البلد في الفترة الحالية خدمة للمشاريع الغربية، لكن الحكومة الحالية لا تزال تتعامل مع هذا الوضع بتأنٍّ وعقلانية، وليس لديها سياسة استخدام القوة والإجرام كما العهد السابق، لكن هناك من يريد جرّ الدولة إلى ردة الفعل وهذا ما لا نتمناه، بالنهاية الدولة هي المسؤولة عن ضبط الوضع الأمني والمجتمعي، وأرى أن الخروج من هذا المأزق يكون بانفتاح الدولة على الكفاءات وزجهم في مشروع الدولة من كل المكونات، فالمشاركة المجتمعية في الحكم من شأنها إسكات الأصوات التي تسيء لوحدة سورية وسيادتها.
– هل يمكن لروسيا أن تستغل مشكلة الأحداث ذات الصبغة الطائفية في سورية، لتبرز من جديد، وتدعم مثلاً مشروع إقليم في الساحل كون لديها قاعدة عسكرية جوية هناك؟
كانت هناك تصريحات لمسؤولين روس في السابق يدعمون فيها حكم أقلية في سورية ورفض وصول الأكثرية السنية إلى الحكم، وكلام وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، كان واضحاً في هذا الشأن عام 2012. للأسف، لدى الروس تصور أن الأقليات أقرب إليهم من الأغلبية السنية في سورية. وكنت أتوقع لو بقي الأسد وخسر دمشق والمناطق الداخلية كان سيؤسس دويلة علوية في الساحل، وهذا كان مطروحا وكان الروس سيدعمونه، فالروس كانوا متمسّكين ببقاء الأسد رئيساً، حتى لو اقتصر وجوده في اللاذقية. ولكن مع سقوط الأسد وهروبه، أعتقد أن الروس لن يؤيدوا أي إقليم على أساس طائفي أو كانتون انفصالي، لأنهم يدركون عدم جدوى دعم أي قوى معارضة أو رافضة للحكومة الحالية، بدليل الرسالة التي أرسلها بوتين إلى الرئيس الشرع، وأبدى فيها رغبة بلاده بالتعاون والدعم في كل المجالات، فالروس يسعون إلى الحفاظ على ما تبقى من مصالحهم، وليس لديهم مصلحة بدعم أي مجموعات تقاتل أو تستهدف الحكومة، لا سيما مجموعات الفلول في جبال الساحل، سيما أنهم يدركون أن بشّار الأسد لن تكون له عودة إلى سورية، ويعرفون تماماً أن الشعب السوري مستعد لتقديم ضعف الفاتورة التي قدمها خلال الثورة في سبيل عدم خسارة مكاسب الثورة وإزالة حكم الأسد. وأعتقد أن الروس وصلوا إلى قناعة أخيراً بأهمية التواصل والتعاون مع الحكومة الجديدة، لكنهم لم يجدوا بعد الطريقة المناسبة في تطبيع العلاقات والمشكلة لديهم وليست في دمشق.
في فترة الاتحاد السوفييتي، كانت هناك الأيدولوجيا الشيوعية مسيطرة، وكان توجه الروس إلى التفاعل مع الشعوب والدول العربية من منطلق سياسي
– بعيداً عن السياسة، يعرف القارئ العربي الثقافة الروسية جيداً، من خلال الأعمال الأدبية الرائعة لكتاب روس أمثال، تولستوي، وبوشكين، وديستوفيسكي. لكن هل يعرفوننا.. وهل هناك أسماء عربية في مجال الأدب والشعر والثقافة عموماً يعرفها القارئ الروسي؟
فعلاً، الأدب الروسي معروف في العالم العربي، وخصوصاً في فترة الاتحاد السوفييتي، فقد كانت هناك ترجمات هائلة للأدب الروسي إلى العربية. وإذا عدنا إلى القرن التاسع عشر، فقد ترجم فيه القرآن الكريم وكتب في السيرة النبوية وكثير من كتب التراث العربي والإسلامي إلى الروسية، وتركت هذه الترجمات أثراً كبيراً في الكتّاب والأدباء الكلاسيكيين الكبار في روسيا، وكان ذلك واضحاً في نتاجهم الأدبي. تولستوي مثلاً تأثر بالإسلام، وبوشكين كتب قصائد طويلة متأثراً بالإسلام، ولديه قصيدة سمّاها “محاكاة القرآن”، بالإضافة إلى كتاب آخرين، مثل ليرمنتوف وإيفان بونين وغوركي. وفي القرن التاسع عشر، قدم إلى روسيا نخبة من العلماء العرب في مجال الأدب واللغة العربية، ودرّسوا اللغة والتاريخ والأدب العربي في روسيا سنوات طويلة، منهم من توفي ودفن في روسيا، كالشيخ الأزهري محمد عيّاد الطنطاوي، والمترجم السوري جورجس مرقص، بمعنى كان هناك تفاعل عربي – روسي كبير في المجال الثقافي.
وبخصوص الترجمات العربية إلى الروسية فهي موجودة، لكن الروس العاديين قلما يعرفونها أو يبحثون عنها. ولدى النخب اهتمامات بالأدب والثقافة العربية، فهناك ترجمات لنجيب محفوظ، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وأشعار نزار قباني، ومحمود درويش، وكتاب وشعراء من العراق والشام ومصر والمغرب العربي، ربما تكون طبعاتها محدودة ومنتشرة في أوساط نخبوية. وللعلم، الترجمة في روسيا بعد الاتحاد السوفييتي أقل بكثير عما هو عليه الوضع في الغرب، فهناك عدد هائل من الكتب العربية المترجمة إلى الفرنسية، أما في روسيا اليوم فعدد عناوين الكتب العربية في المكتبات يكاد لا يذكر.
– ما نظرة الروس، وأعني الجمهور العام، للعالم العربي بشكل عام. هل هم على اطلاع واف على مشكلات الشرق عموماً؟
إذا نظرنا إلى فترة الاتحاد السوفييتي، كانت هناك الأيدولوجيا الشيوعية مسيطرة، وكان التوجه إلى التفاعل مع الشعوب والدول العربية من منطلق سياسي. وبالتالي، كان على المستوى الشعبي يوجد موقف إيجابي من الروس تجاه الدول والشعوب العربية، لكن هذا الموقف انقلب وتغيّر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فصارت العلاقة والتفاعل مع الدول والشعوب العربية سلبية، والعلاقة مع إسرائيل أولوية، لا سيما في التسعينيات وفترة حكم الرئيس بوريس يلتسن. ومع تسلّم الرئيس بوتين الحكم، تحسّن الوضع في هذا الجانب، خصوصاً بعد رفض الغرب انخراط روسيا في المجتمع الغربي، فعادت روسيا إلى التوجه نحو الشرق. واليوم روسيا عضو مراقب في منظمة التعاون الإسلامي، ولديها علاقات واسعة مع الدول العربية والإسلامية. أما المواطن في روسيا، فهو ينظر من منظار السلطة غالباً، علماً أنه قليل الاهتمام بالسياسة، ومهتم أكثر بأمور حياته. ولذلك قلما يهتم أيضاً بتشكيل هذه الانطباعات.
– هل قصّرت الثقافة العربية في مدّ جسور صلبة مع الثقافة الروسية، أم أن الثقافة الروسية هي المقصّرة؟
أنشأ الروس في فترة الاتحاد السوفييتي وما بعده جسوراً مهمة لمد الثقافة، لكن هناك تقصيراً عربياً، ربما يعود بعضه إلى أسباب عقائدية بإنشاء تفاعل مع الاتحاد السوفييتي الذي يحارب الدين مثلاً. وفي فترة التسعينيات، أهمل العرب روسيا بشكل كبير، ولم ينفتحوا عليها ثقافياً، ولم يسعوا إلى تعريف المجتمع الروسي بالثقافة والتاريخ الإسلامي والعربي. وكان الروس مقصرين في هذا الجانب، وركّزوا في ترجماتهم على السياسة والاقتصاد.
– أنت المتخصّص في الرياضيات، والمهتم بالاستشراق والباحث في تاريخ العلوم. أين تجد نفسك بعد هذه التجربة الحياتية الطويلة والغنية؟
هذا الحديث ذو شجون، لأني طوال فترة حياتي العلمية والبحثية، كنت خارج وطني سورية وما زلت، وهذا أكثر ما يحز في نفسي. رغم ذلك، لدي أكثر من 70 بحثاً علمياً و11 كتاباً في الرياضيات وتاريخها وفي الاستشراق. وعندما عملت في دول عربية وفي روسيا وجدت الاحترام والتقدير، لكني لم أجدهما في بلدي سورية، ويبدو أن لكل إنسان رسالة معينة، وأعتقد أنني تركت بصمة في العلم من خلال أثر مكتوب للطلبة في الجامعات والمهتمين بالعلم. وحلمي حالياً أن تنشر كتبي في بلدي سورية، فلدي خمسة كتب جامعية، وقاموسان في الرياضيات، وهي تنشر وتدرّس في بعض الدول ولا تدرّس في بلدي، لكنني سعيد بأنني طوال مسيرتي المهنية العلمية لم أهمل القضية الوطنية، وكنت دائم الاهتمام ببلدي وشعب بلدي وهم أهلي بطبيعة الحال، والحلم دائماً ببلد حر وكريم.. وأتمنى العودة والمساهمة في مجال ما ببناء سورية الجديدة.
نشرت في العربي الجديد