عواصم ثقافيه

بعثة المارينز إلى فلسطين والأردن 1848: المشاركة في استعمار البلاد عمّار الشقيريالجمعة 24 أيلول 2021 رجل جالس على نهر الأردن.


رجل جالس على نهر الأردن، مأخوذة ما بين 1890- 1900. أرشيف مكتبة الكونغرس.

عام 1847، احتلّت البحرية الأمريكية مدينة فيراكروز المكسيكية بعد عملية قتل عشوائية للمدنيين[1] ضمن حربها على جزءٍ من أراضي جارتها المكسيك.[2] وحين عاد الضابط وليام فرانسيس لينش، قائد إحدى السفن الحربيّة وأحد المشاركين في احتلال المدينة، إلى بلاده طلبَ من حكومته تزويده بزوارق ورجالًا أمريكيّي المولد من أجل السماح له بالإبحار في رحلة «استكشافية علمية» إلى نهر الأردن والبحر الميّت.

غادر لينش الشواطئ الأمريكية مع بعثته يوم 26 تشرين الثاني 1847 متوجهًا إلى إسطنبول، مركز حكم الدولة العثمانية التي كانت تفرض سيطرتها على المنطقة، ثم تنقّل في بلاد الشام. وعندما انتهت البعثة، كان لينش قد دوّن يوميات أول بعثة أمريكية مدعومة من حكومة بلاده إلى المنطقة بالتفصيل، ونشرها في الولايات المتحدة سنة 1849.[3]

ظلّت هذه اليوميات غير مترجمة حتى نقلها إلى العربيّة المترجم جمال أبو غيدا تحت عنوان: «بعثة مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) لاستكشاف نهر الأردن والبحر الميّت 1848»، وقدّم لها المؤرخ الفلسطيني جوني منصور، وصدرت في آذار الماضي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 614 صفحة.[4]

يقدم هذا الكتاب، إضافة إلى مئات الكتب التي تتناول هذه المنطقة ونُشرت في أوروبا والولايات المتحدة، نظرة على أحد محرّكات الاستعمار في المنطقة، ويظهر التنسيق بين قنصليات الدول الأوروبية والأمريكية في زراعة بذور الاستيطان اليهودي في فلسطين قبل النكبة بمئة عام، كما يظهر كيف صوّر المستعمر سكان الأردن وفلسطين في منتصف القرن التاسع عشر.

أمريكيون مؤمنون، وبرابرة وثنيّون
حصل لينش في إسطنبول على فرمان خاص يصرّح لأعضاء بعثته بالمرور عبر الأراضي الخاضعة للسلطة العثمانية في بلاد الشام من السلطان العثماني عبد المجيد الأول (1823-1861). أبحرت سفينته التي حملت زورقين صغيرين إلى بيروت ثم شواطئ فلسطين، وهناك أُنزل الزورقان وجرّتهما الجمال برًا إلى طبريا حيث أبحر بهما أعضاء البعثة في نهر الأردن ثم البحر الميّت.

خلال هذه الرحلة، تجوّل لينش في فلسطين وعلى ضفتيْ نهر الأردن، وزار الكرك، وفي طريق عودته جال في سوريا وجبل لبنان وقابل السكان وتعامل معهم وذكرهم في يومياته.

اعتمد لينش في وصف السكّان في بلاد الشام بشكلٍ عام، والأردن وفلسطين بشكل خاص، على مشاهدته لهم، لكنه كان محكومًا بصورٍ مسبقة في ذهنه؛ صورة العربي الهمجي كما رسمها كتّاب أوروبيون مثل الفرنسي شاتوبريان (1768-1848)، وصورة العربي الذي يشبه الهندي الأحمر لحظة دخول كريستوفر كولومبس أرض أمريكا، وصورة العربي صاحب البشرة السمراء الذي يشبه السود الأمريكيين.

في الصور الثلاث، كان لينش يرى العرب كـ«غوغاء ورعاع»[5] كما جاء في وصفه لسكّان عكا، وملامح الفلاحين في فلسطين متوحشة، كما يصفها، ولون بشراتهم يماثل لون بشرة العبيد.[6] كما وصف الرجال في غور المزرعة بالأردن بأنهم «يشبهون الأفارقة بين البلاهة والخباثة»،[7] ثم يصف بعض العرب الذين التفّوا حوله لمشاهدة ساعته قائلًا: «قام معظم الحاضرين بتفحّصها بعناية وحرص، فكان حالهم كحال مجموعة من الهنود الحمر الذين يرون امرأةً للمرة الأولى في حياتهم».[8]

بالمقابل، ينصّب لينش كمعيار التطور الأمريكيين «الذين ابتكروا هذه الاختراعات الغريبة والميكانيكية المذهلة والماثلة بزورقينا ومسدساتنا ذات الطواحين السداسية الطلقات تارة أخرى»،[9] مستهزئًا بالبرابرة الذين رأوا الأسلحة والقوارب مع البعثة.

تُقدّم يوميات لينش لمحةً عامة عن بذور الأطماع الاستعمارية في المنطقة التي مهّدت لاحتلال فلسطين بعد مئة عام.

يصف لينش الأماكن في فلسطين والأردن بمفردات الرواية التوراتيّة؛ فمع أن بعثته كانت «علميّة» إلا أنه يصف أرض مؤاب بأنها «أرض سفاح القربى»،[10] ويعرّف مدن صفد وطبريا والقدس والخليل كأماكن مقدّسة لدى اليهود.[11] عندما انتهت بعثة لينش من أخذ قياسات البحر الميت وعمقه وقد أمضى فيه 22 يومًا قال: «أجمعنا جميعًا [أعضاء البعثة] على الإيمان بمصداقية وصحة النصوص التوراتية التي سردت وقائع تدمير المدن الآثمة في هذا السهل».[12]

تعدّ هذه اليوميات جزءًا من مجموعة كبيرة من الكتب التي تندرج تحت مسمى رحلات إلى الديار المقدسة، أو كتبها رحالة وحجاج ومكتشفون ومبشرون وقناصل جاءوا من أوروبا وأمريكا. وقد وصل عدد هذه الكتب إلى ثلاثة آلاف كتاب نُشر عن هذه المنطقة منذ القرن الرابع الميلادي وحتى نهايات القرن التاسع عشر، ألفا كتاب منها نُشر في القرن التاسع عشر وحده.

وفّرت أدبيات الرحلات في القرن التاسع عشر «مادة مساعدة لصناعة قرار ورسم سياسةٍ استيلائيّة فعلية مباشرة، وغير مباشرة وبطرق مختلفة على المنطقة وما حولها»،[13] وقد عُدّ القرن التاسع عشر بالقرن الكولونيالي بامتياز.

بذور الاستعمار
تأخرّت الولايات المتحدة في إيفاد ممثل دبلوماسي لها في المنطقة مقارنة بفرنسا وبريطانيا، وقد سعت الدولتان إلى إقناع السلطات العثمانية بعدم ضرورة إقامة علاقة مع الولايات المتحدة خوفًا من تعرّض مصالحها التجارية في المنطقة للمنافسة.[14]

ومع ذلك نشطت الرحلات والبعثات التبشيرية والعلمية الأمريكية المدفوعة بالروايات التوراتيّة إلى فلسطين منذ بداية القرن التاسع عشر، وكتب هؤلاء الرحالة والمبشرون والمكتشفون تقاريرهم ونُشرت في الولايات المتحدة وقُرأت على نطاق واسع. ودَفعت هذه التقارير الكثير من الأمريكيين إلى إنشاء مشاريع لتوطين اليهود في فلسطين، مثل المشاريع الزراعية للمجتمع اليهودي في القدس وبيت لحم،[15] مدفوعين «بتقارير عن إعادة توطين اليهود في فلسطين» منتصف القرن التاسع عشر. كانت دعوة لينش إحدى هذه الدعوات التي تلخصت بقوله: «لن يستدعي الأمر أكثر من النجاح في تدمير طاقة تلك الإمبراطورية [العثمانية] التي جثمت على صدر المشرق كالعفريت طوال قرون عدة، بغية ضمان إعادة اليهود إلى فلسطين».[16]

تواصل لينش خلال رحلته مع قادته في الولايات المتحدة من خلال رفع تقارير مفصّلة إلى وزير البحرية الأمريكية، وكان طوال الرحلة على تواصل مباشر مع قنصل الولايات المتحدة في بيروت جاسبر تشاسود، بالإضافة إلى تعاونه مع يهود طبريا خاصّة الأغنياء منهم. كما عايَن أحد شواطئ يافا بهدف الخروج بتوصية لمدى نجاح إنشاء ميناء فيها، بناء على طلب نائب قنصل الولايات المتحدة في يافا، غير أن علاقته مع القنصل البريطاني جيمس فِن في القدس والذي عمل بشكلٍ ملحٍ وجديّ على توطين اليهود في فلسطين كانت الأكثر متانةً.

أمّنت القنصليّة البريطانية الحماية لبعثة لينش بسبب عدم وجود ممثل قنصلي للولايات المتحدة في القدس، وقد بدَا ذلك جليًا في طريق عودة أفراد البعثة بعد الانتهاء من استكشاف البحر الميّت إلى شواطئ فلسطين عندما اعترض أفراد تابعون لإحدى الزعامات الفلسطينية في الخليل طريق البعثة فتدخل فِن لتخليصهم، بالإضافة إلى ذلك أمّن فِنْ بعثة لينش بالدعم اللوجستي.

كان فِن الذي تقلّد منصب القنصل البريطاني في القدس في الفترة (1846-1863) مهتمًا بتقديم الحماية لليهود المهاجرين إلى فلسطين، وصدّق على مراسلاتهم الخاصة بتلقي الصدقات الآتية لهم من أنحاء العالم، وتدخل فِن نفسه في فك أي اعتداء على اليهود في خلافات يومية مع الفلسطينيين المسلمين أو المسيحيين. كانت التعليمات التي وصلت لفِن من حكومة بلاده العام 1839 تقتضي تقديم خدمات الحماية لأي يهودي «نمساوي أو فرنسي أو من أي جنسية أوروبية أخرى، وإذا كان قنصل بلاد هذا اليهودي قد تخلى عن حقه بتقديم المساعدة له فيجوز للقنصل الإنجليزي أن يتولى قضية هذا اليهودي».[17]

عبر ما سبق، تُقدّم هذه اليوميات لمحةً عامة عن بذور الأطماع الاستعمارية في المنطقة التي مهّدت لاحتلال فلسطين بعد مئة عام. ومع الحذر الشديد، تقدّم كذلك لمحة عن التاريخ الاجتماعي في فلسطين والأردن.

كما تقدّم اليوميات صورةً عن أنماط الزراعة على ضفتي نهر الأردن، خاصةً في الأغوار الجنوبية حيث زراعة الذرة والتبغ وبعض النيلة والحنطة،[18] إضافة إلى صناعة الحرير من تربية دودة القز في سوريا، وطريق تجارة الملح على الجمال من البحر الميت إلى غزة، وبعض أنماط الطعام مثل انتشار أكل الأرز مع اللحم. كما شملت اليوميات معلومات جغرافية عن الحياة البريّة في نهر الأردن وعمقه وروافده، وعمق البحر الميّت والأودية التي ترفده وأبعاده وعمقه، والأنهار والأودية في فلسطين.

ووثّق لينش في الكرك التي زارها زيارة قصيرة تعداد سكانها من مسيحيين ومسلمين، وعدد الكنائس فيها، وشكل عمارة البيوت، كما توقع في زيارته هذه وجود اتحاد قبلي في المنطقة يهدف للتخلص من النظام التركي وتأسيس دولة جديدة.[19]

المترجم أبو غيدا: ثلاثة كتب من القرن التاسع عشر
ازدهر نشر هذا النوع من الكتب في القرن التاسع عشر في أوروبا والولايات المتحدة، وإضافةً إلى ترجمة يوميات لينش هذه، ترجم أبو غيدا كتابين آخرين تناولا الأحداث في هذه المنطقة منتصف القرن التاسع عشر، وهما: «أزمنة مثيرة: وقائع من سجلات القنصلية البريطانية في بيت المقدس 1853-1856» للقنصل البريطاني جيمس فِن عام 2017، و«الحياة في بيوت فلسطين: رحلات ماري إلزا روجرز في فلسطين وداخليتها 1855- 1859» عام 2013، وهي شقيقة نائب جيمس فِن.

يقول أبو غيدا لـ«حبر» إنه ترجم هذه الكتب بعدما وجد نقصًا في المعلومات التي تتناول المنطقة تلك الفترة، بالإضافة إلى أن المشروع الصهيوني في المنطقة لم يبدأ فعليًا بوعد بلفور 1917 إنما في أربعينيات القرن التاسع عشر. وهو يصف محتويات هذه الكتب الثلاثة بأنها أشبه بالخطط السياسية. وقد ترجم ونشر أبو غيدا كتاب لينش والكتابين الآخرين على نفقته الخاصة بعدما لم يجد من يدعمه في نشرهما كما يقول.

يُؤخذ على المترجم اعتماده على ويكيبيديا في وضع هوامش الكتاب، ويبدو أيضًا أن كثيرًا من بحثه حول الهوامش اقتصر على البحث في الإنترنت. يبرّر أبو غيدا ذلك بالقول إنه ليس مؤرخًا ولا مترجمًا محترفًا؛ «[أنا] هاوي ترجمة مش أكاديمي لأرجع لمراجع محكّمة. الكتاب عملته بحب وشغف [حتى] أعرف عن فلسطين اللي سيدي وأبو سيدي عاش فيها».

لم يحسم أبو غيدا أمره في ترجمة كتاب جديد من القرن التاسع عشر تناول وصف مناطق في الأردن وفلسطين كتبه جيمس فِن بعنوان «دروب غير مطروقة»، لكن نية الترجمة عنده موجودة كما يقول.

أخيرًا، يقدم كتاب لينش هذا صورة أولية عن بواكير الاهتمام الأمريكي بالمنطقة، وساعد الكتاب إلى جوار كتب أخرى في بلورة صورة فلسطين في أذهان الأمريكيين وصنّاع القرار في الولايات المتحدة على أنها وطن اليهود.

تظهر هذه اليوميات أن لينش تعامل مع مناطق الأردن وفلسطين كما تعامل الغازون الأوائل مع أرض الهنود الحمر، إذ وصلت العجرفة بلينش إلى حد تعامله مع المنطقة كما لو أنها لم تسكن من قبل، فتخيّل البحر الميت شارعًا في الولايات المتحدة وأطلق على حوافّه أسماء رحالة أوروبيين تخليدًا لذكراهم؛ رأس كوستيجان، ورأس مولينكيس.[20]

بعد نهاية رحلته، وصَف لينش مسير قافلة البعثة: «لقد بدونا كأننا نشارك في مسيرة النصر التي يمشيها أفراد جيشٍ عاد منتصرًا للتو».[21]

المراجع والهوامش
سجنان ومخيمان وعائلة: زكريا الزبيدي على خطى جدّه

سجنان ومخيمان وعائلة: زكريا الزبيدي على خطى جدّه
عمّار الشقيريالأربعاء 15 أيلول 2021
في بيتها في الأردن، تسمع التسعينيّة فوزة مصطفى (أم سمير) الأحاديث عن فرار حفيدها زكريا الزبيدي مع خمسة أسرى آخرين من سجن جلبوع الواقع غربيّ مدينة بيسان داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وتتذكر سيرة زوجها أبو سمير الجهجاه، الذي فرّ من سجن شطّة عام 1958 مع أسرى فلسطينيين وعرب.

كان محمد علي أسعد أبو جهجاه، المولود يوم 22 تموز 1918 في بصّة الفالق قضاء طولكرم، قد طلب يدها في أربعينيات القرن الماضي، فتزوجته وأنجبا ولدًا وبنتًا هما سمير وسميرة، وعندما وقعت النكبة لجأت العائلة إلى جنين، ثم انتقلت عام 1951 إلى منطقة وادي الريّان في الأغوار الشمالية في الأردن، حيث تسكن أم سمير الآن.

في الأيام الأولى للعائلة في بلدة وادي الريّان، قطع أبو سمير نهر الأردنّ وسار غربًا ثم تسلّل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، دون أن يعرف أحد من العائلة وجهته. وقد كان خطّ الهدنة بين الأردن وسوريا ولبنان ومصر من جهة، و«إسرائيل» من جهة أخرى، يشهد دومًا تسلل لاجئين فلسطينيين إلى ديارهم بهدف العودة، أو مهاجمة المستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت على أراضيهم.

آنذاك، أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي النار على المتسللين لمنعهم من العودة، فيما قُتل وجُرح 112 إسرائيليًا عام 1951 نتيجة الاشتباكات[1] التي وقعت بين متسللين وقوات حرس الحدود الأردنية من جهة، وجيش الاحتلال من جهة أخرى.

أسَرَ جيشُ الاحتلال من استطاع القبض عليه من المتسللين، وحكم عليهم بالسجن المؤبد، أو أحكام سجنٍ طويلة الأمد،[2] كان أبو سمير جهجاه واحدًا من الأسرى الذين نُقلوا إلى سجن شطّة، المخصص حينها للمجرمين الجنائيين الإسرائيليين والأسرى السياسيين العرب.[3]

وكانت سلطات الاحتلال البريطاني قد شيّدت سجن شطّة الواقع في غور بيسان كمقرٍ لقيادة شرطتها، إضافةً إلى مقراتٍ أخرى في رام الله والخليل ونابلس وعكّا، وحملت هذه المباني اسم «تيجارت» نسبةً إلى الضابط الإنجليزي المشرف على بنائها تشارلز تيجارت، ثم حولت «إسرائيل» المقر عام 1952 إلى سجن وضمّت له محطة قطار قريبة، وسمّي سجن شطّة نسبة إلى قرية شطّة الفلسطينية القريبة منه.

وبعدما طال غياب أبو سمير، جاء أهل أم سمير إلى الأردن لأخذها معهم، لكنها قالت لهم: «إذا ما أشوف أبو سمير ميت ويجيبوه قدامي ما أروّح، بدي أربّي سمير وسميرة».

أبو سمير في «خميس «إسرائيل» الأسود»
في حزيران 1958 كان في سجن شطّة 190 أسيرًا فلسطينيًا وعربيًا،[4] بينهم الأسير المصري أحمد عثمان،[5] بالإضافة إلى سبعة سجناء جنائيين إسرائيليين. وبحسب ما رواه أبو سمير لابن شقيقه خليل جهجاه، فقد كان بين الأسرى أسيران لبنانيّان، تراوحت أعمارهم بين 16 و17 عامًا.

في ذلك العام، كان العمل جاريًا على توسيع السجن وبناء سور خارجيّ له، وقد شغّلت إدارة السجن الأسرى في أعمال البناء،[6] فيما شغّلت الأسيريْن اللبنانيّين في تنظيف غرف ضباط السجن، كما روى أبو سمير لخليل. واستغلّت مجموعة من ثمانية أسرى قدرة الأسيرين اللبنانيّين على الوصول إلى غرف الضباط، ومعرفة بعض الأسرى في أعمال التوسعة بالسجن، في التخطيط لعملية فرارٍ منه.

ضمّت المجموعة المصريَّ عثمان، وفلسطينيًا من غزة عرف باسمه الأول صبحي، وآخر من الخليل، ومعهم سمير جهجاه، إضافة إلى أربعة أسرى آخرين، وضعت المجموعة خطة الفرار وحددت الساعة السادسة من مساء يوم 31 تموز 1958 موعدًا لتنفيذها.

حصَل الأسيران اللبنانيّان على مفاتيح القسم الذي يوجد فيه الأسير الغزيّ صبحي، فحرّر الأسرى في قسمه، وأعطوا إشارة بدء العملية لبقية أفراد المجموعة في قسمٍ آخر، ففتح عثمان الباب الفاصل بين أقسام الأسرى ومكاتب إدارة السجن، وتوجهت المجموعة إلى غرفة السجّانين وسيطروا على أحد الضباط، ثم «قطعوا خط الهاتف، وحطموا جهاز اللاسلكي لعزل السجن عن العالم الخارجي، وقطعوا التيار الكهربائي».[7] ومن أصل خمسة حراسٍ على أبراج المراقبة تواجد اثنان فقط في مكانيهما، فيما كان بعض السجانين في استراحة، والبعض الآخر في إجازاتهم الأسبوعية.

خليل جهجاه ابن شقيق أبو سمير رفقة أم سمير. تصوير مؤمن ملكاوي.

هكذا سيطرت المجموعة على مخزن الأسلحة، وتبادل الحرّاس والأسرى إطلاق النار، وكان أبو سمير قد حصل على بندقية من غرفة الحراسة وشارك في إطلاق النار الذي أدى إلى مقتل السجانيْن يوسف شيبح وإلكسندر ياغر وجرح ثلاثة آخرين، فيما استشهد الأسير الخليلي وأصيب الأسير المصري عثمان.[8] فرّ الأسرى وعبَرَ بعضهم إلى الأردن، أما أبو سمير فوصلَ إلى جنين حيث يسكن أولاد عمّه.

أعلنت «إسرائيل» أن عدد الأسرى الفارّين بلغ 66 أسيرًا، بعد أن قبَضتْ على بعضهم في السهول المجاورة للسجن. بحث جيش الاحتلال وقواته الأمنية عن الأسرى الفارّين، وفرض حظر التجوال في بعض المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، حتى وصل الحظر إلى مدينة شفا عمرو على بُعد عشرات الكيلومترات عن السجن، «وجرى تفتيش المنازل بدقة من دون إعلان السبب، وتناقل الناس لاحقًا القصص عن الهروب الكبير في سجن شطّة»،[9] فيما أطلقت وسائل الإعلام الإسرائيلية على ذلك اليوم: الخميس الأسود.[10]

شكّلت «إسرائيل» لجنة تحقيق في عملية الفرار برئاسة موشيه عتسوفي، قاضي المحكمة المركزية في حيفا حينها، «وهي لا تزال تجتمع إلى اليوم [2006]، وتعقد سنويًا حلقات نقاشٍ لبحث الموضوع واستخلاص العبر منه».[11]

حين وصل أبو سمير إلى جنين حقق معه الجيش الأردني الذي كان يدير الضفة الغربية آنذاك، ثم عيّنه مراقبًا على حاووز الماء في جنين كما يقول خليل الجهجاه.

«إسرائيل» لا تنسى أبو سمير
«هو زلمة قدْ حاله، زلمة إن عدّيت الزلام ينْعد منهم» تقول أم حيدر المصيعي؛ قريبةُ أم سمير، ومن سكان مخيم الحصن الذي جاء إليه أبو سمير -برفقة عائلته- عام 1967 ضمن جيش التحرير الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأقام فيه أربع سنوات.

تتذكر أم حيدر سنوات أبو سمير في المخيم: «المشاكل الي تصير بالمخيم هو يحلّها، زلمة متسلط على ابنه يحلها، [زلمة] يحط سلطته على بنته، على مرته، يحلها بالعقل».

أم حيدر المصيعي؛ قريبة أم سمير في مخيم الحصن. تصوير مؤمن ملكاوي.

كبرت عائلة أبو سمير، فإلى جانب سمير وسميرة المولوديْن قبل العام 1948، وُلد له كل من ذياب وذيب ونمر وسميح وأميرة. وعندما بدأت أحداث أيلول مطلع السبعينيات سافر أبو سمير وخليل جهجاه إلى ألمانيا للعمل هناك.

عمل أبو سمير في مدينة فرانكفورت عامل بناء فور وصوله، وتوفي عام 1973 أثناء العمل تحت ناقلة أسمنت، ونقل إلى الأردن ودفن في مقبرة شرحبيل بن حسنة بمنطقة وادي الريّان.

وقبل وفاته بعامين، تزوجت ابنته سميرة وانتقلت للعيش في جنين، وقد سعت منذ انتقالها للحصول على لمّ شملٍ، لكن الحاكم العسكري الإسرائيلي رفض كل محاولاتها بحسب ما يقوله لـ«حبر» ابنها البكر عبد الرحمن: «كل ما تطالب بلمّ شمل عند الحاكم العسكري (..) كانوا يقولوها إنتِ بنت أبو سمير أبو الجهجاه، ممنوع».

إضافةً إلى عبد الرحمن، وُلد لسميرة في مخيم جنين عام 1976 طفلٌ نحيفٌ اسمه زكريّا.

وكانت كلما انتهت مدة تصريحها تأتيها دوريات الشرطة الإسرائيلية وتطلب منها المغادرة إلى الأردن لإصدار تصريح زيارة كونها من حملة الهوية الأردنية، وهكذا أمضت سميرة، التي صارت تعرف بأم العبد، سنواتها بين الأردن ومخيم جنين. وفي العام 1980 حصلت أم العبد على لمّ الشمل، لكنها بعد ذلك أمضت حياتها «رايحة جاية» في زيارات السجون؛ فقد أمضى زوجها محمد الزبيدي، سنواتٍ طويلة من حياته في السجون، إذ اعتقل قبل زواجه بتسعة أشهر بسبب عضويته في حركة فتح، ثم خرج من الأسر وتزوج أم العبد، واعتقل بعدها، «وظل ينحبس من الـ89 حتى الـ93. صابه سرطان بالدماغ، وما رضيوا يعالجوه»، يقول عبد الرحمن. وسُجن ابنها يحيى 17 عامًا، فيما حُكِم عبد الرحمن بالسجن أربع سنوات، أمّا زكريا فسجن تلك الفترة لفترات قصيرة.

شكّلت «إسرائيل» لجنة تحقيق في عملية الفرار من سجن شطّة ظلّت تجتمع حتى عام 2006، و«تعقد سنويًا حلقات نقاشٍ لبحث الموضوع واستخلاص العبر منه».

وعند اجتياح مخيم جنين عام 2002،[12] وقفت دبابة إسرائيلية عند باب بيت أم العبد الذي تحوّل إلى ثكنة عسكرية، «كان في شباب كثير من التنظيمات يفوتوا ويطلعوا»، وفقًا لعبد الرحمن. وقد كان ابنها طه ضمن صفوف سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، أما زكريا فكان مع كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح.

انتقلت أم العبد وبناتها وزوجة عبد الرحمن إلى بيت جيرانٍ لهم في حارةٍ لم تشهد اشتباكات مسلحة، إذ كانت تحت سيطرة «الشباب» كما يقول عبد الرحمن. لكنّ قناصًا إسرائيليًا وقفَ على جبلٍ قريب مقابل البيت، «ومن على بعد 500 متر هوائي» أطلق رصاصة على أم العبد التي كانت تقف بجوار النافذة، فاستشهدت في آذار 2002.

وحين وصل خبر استشهادها، أقام لها أخوتها بيت عزاء في وادي الريّان بالأردن وفقًا لابنها سميح، وبعد شهرٍ استشهد ابنها طه الذي كان يقود حينها مجموعة من سرايا القدس. وقد أُسر أغلب أبناء أم العبد في فترات متقطعة بعد الاجتياح، فيما ظلّ ابنها زكريا الزبيدي مطارَدًا.

تزوج زكريا عام 2002 وهو مطاردٌ، وأنجب أول أطفاله عام 2004، وأسماه محمد تيمنًا بجدّه أبو سمير، ثم أنجب ابنةً سمّاها سميرةعلى اسم أمه.

وفي عام 2007 شمل عفو إسرائيليّ زكريا، لكن «إسرائيل» أسرته عام 2019، وحُبس في سجن جلبوع الذي أنشئ عام 2004 كامتدادٍ لسجن شطّة، وظلّ في الأسر حتى فجر السادس من أيلول، حين أفاقت «إسرائيل» على فراره ضمن مجموعة من ستة أسرى فلسطينيين.

بفراره من سجن جلبوع، أحيا زكريا ذكرى فرار جدّه أبو سمير جهجاه عام 1958 من سجن شطّة. طوال السنين الماضية لم تنسَ «إسرائيل» ما فعله الجدّ، ولا يبدو أنها ستنسى ما فعله الحفيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق