غادرنا الفنان الرائد المبدع مهنا الدرة الى الأبدية تاركا لنا إرثا فنيا تشكيليا غنيّا يستطيع الأردن أن يفاخر به على المستوى العالمي والإنساني. فمهنا الذي ولد في عمان العام 1938 استطاع أن يؤسس حركة تشكيلية محلية ويسهم في وضع اللبنات الأولى لهذا الفن من خلال مرسمه الذي أنشأه في وسط عمّان على ضفة سيلها الذي كان يجري قرب سبيل الحوريات، في فترة كانت الدولة فيها ما تزال فتية تخطو خطواتها الأولى التأسيسية في كل الحقول.
ربما يكون هناك بعض الرمزية في وفاة مهنا في هذا العام الذي يؤرخ لمئوية قيام الدولة الأردنية، إذ بوفاة هذا الفنان العملاق تطوى صفحة مشرقة من صفحات هذه الدولة التي استطاعت أن تكون إنموذجا للدولة الحديثة المطلة على ثقافات العالم والمعتزة بإرثها الحضاري الفني الذي تركه الأجداد على الأعمدة وجدران المدن القديمة والمعابد والطرقات.
وعلى الرغم من أن مهنا قد وضع قناع الدبلوماسي والسفير، والإداري ربما في فترات من حياته، إلا أنه بقي محتفظا بوجهه الحقيقي في الفن، منتبها انتباه الفنان الجاد الى المهمّة التأصيلية لحركة فنية حديثة بدأت تنهض في بلد فتي ومدينة تسعى لأن تكون مجتمعا “كوزموبليتيا” مستقبليا بما يصاحب ذلك من تغيرات عميقة بدأت تعصف بالمدينة وإرهاصات تشي بنشوء هذا المجتمع الذي انطلق من منطقة سيل عمان تلك التي شهدت ولادة مهنا الدرة وطفولته وتفتّحه على الفن ودراسته على يد جورج أليف الروسي ثم انطلاقته الأرحب الى الفنون الأوروبية والعالمية.
وفي مبادرة حملت معنى الوفاء والتكريم، قام المتحف الوطني للفنون الجميلة قبل ما يقرب من عامين بمبادرة من الفنانة الدكتورة وجدان الهاشمي بإقامة معرض استمر لأسابيع في صالات المتحف شمل اربعة طوابق المتحف كلها وقد كان المعرض إحيائيا يمثل استعادة للأعمال الفنية التي أجترحها الدرّة في مراحل مختلفة من حياته الإبداعية، وتوثيقها منذ تفتحه البكر على الحياة والتقاطه الحركة والرؤى البصرية في حركة المدينة الفتيّة، ومنذ أن أمسك بالفرشاة واللون.
ولعل ما يلفت انتباهي دائما كلما أتمّعن في لوحات الدرّة هو تمّكنه العالي من استيعاب نظرية اللون استيعابا ينعكس على تعامله مع الضوء والظل ومزج الالوان والذكاء في اكتشاف درجات غير مألوفة من الدرجات اللونية المعتادة.
ففي لوحاته يختبر فناننا السلوك المنطقي للضوء ويحاول أن ينقل هذا السلوك الى الكانفاس عن طريق الدهان السائل سواء كان زيتيا أو مائيا أو أكرليك.
إن الفنان الخبير يعرف بأن اللون السائل خدّاع حين تكون المهمّة هي نقل السلوك الضوئي للمرئيات الواقعية في الحياة الى اللوحة، وذلك بسبب أختلاف خصائص المادة اللونية وتغيّرها السريع. وهنا يلجأ الدرّة الى مهارته التقنية والى درْبَةِ عينيه ودرايتهما ومهارتهما في التقاط اللحظة وتثبيتها في متخيلّه الإبداعي أولا تمهيدا للاشتغال عليها لونيا وبصريا ومساحيا مع الاعتبار للزوايا والتشكيل. وهنا نلحظ أن هذا التكنيك وهذه المهارة بقيا يميّزان تجربته على اختلاف المراحل الفنّية التي مرّ بها.
ينطلق مهنا في اشتغاله باللون، اعتمادا على هذه النظرية، من فهمه العميق للهارموني اللوني في المرئيات ومهارته في نقل حركة اللون الإيقاعية الى اللوحة، ويتمثل هذا في استخدامه ضربات الفرشاة كنظام تقني ميّز كثيرا من لوحاته سواء تلك التي تنتمي الى المرحلة الواقعية أو المرحلة التجريدية.
ويتشكّل مفهوم الإيقاع هذا عند مهنا على هيئة توتر عالٍ يعصف بالفنان اثناء إرهاصات حالة الخلق الفني التي تلمُّ به، ويتأتّى هذا التوتر عن طريقين: أولهما على شكل إنشداه وحيرة وقلق أمام سطح اللوحة الأبيض قبل أن يباشر الفنان معجزته الفنية، وثانيهما توتر يتكون على سطح اللوحة أثناء طرقات الفرشاة والرسم بالأنامل وذبذبات النفس المبدعة التي تتصاعد لتصل من خلال أنامل الفنان الى وسيطه الفني من القماش واللون، وقد عبّر مهنا الدرّة عن ذلك صراحة حين قال: ” إن الرسم السريع بذبذباته يكشف صدق الحالة النفسية للفنان. فتارة يضغط على الخطوط وأخرى تراه وكأنه يحلّق فوق ألورقة”.
إن هذا التراوح ما بين الضغط القويّ والملامسة المباشرة لسطح اللوحة من جهة، وخفّة الطيران بشفافية قريبا من سطحها من جهة أخرى، هو الذي يشكّل تناوب الإيقاع اللوني والبصري في العمل الفني ويؤدي بالتالي كما يفعل عازف العود أو القيثار حين يشد أوتاره الى أقصى درجات توتّرها ثم يعمد الى المراوحة بين ضربات وحشية شديدة الوجع متبوعة بملامسة خفيفة لينّة سامية تنزع الى الاستغراق والتأمل والاستبطان الداخلي.
يقول مهنا في معرض تقديمه لمعرضه الأخير في المتحف الوطني:
“أملي أن أتمكّن من إبداع تأثير بصري، لا أن أروي حكايات”. ويبدو أن ذلك يصف بدقة حالة الدرّة الذي ينزع نحو الإيحاء الفني وتنشيط المتخيل لدى المتلقي عن طريق التجريد، بعد أن عبر مرحلة الواقعية الأولى.
يجمع مهنا الدرّة في أعماله مواضيع وثيمات شتى متعددة ومتباينة، منها ما هو مناظر طبيعية ومنها ما هو وجوه وشخوص وبورتريهات لشخصيات معروفة إضافة الى التجريد وسكتشات ورسومات المهرجين في عدد من اللوحات.
أما في رسوماته للشخوص والوجوه وخصوصا وجه البدوي فإن مهنا يجترح لون الرمل الصحراوي في إشارة الى مرجعية بصرية محددة تحيلك الى الرمزية السيكولوجية للصحراء. وفي رسوماته “للمهرج” ينقل الفنان حزن تلك الشخصية التي فجرت في دواخل فناننا إحاسيس عالية لكونه ذلك الذي يخفي ألمه وحزنه خلف القناع ليضحك الآخرين. وتتطور هذه الشخصية وتكبر في اللوحات المتتالية ويختلف التكنيك والتعامل مع اللون فيها حتى أن المهرج يشبه في لوحات متأخرة بعض ممثلي الكوميديا العالميين حيث الكآبة على الوجه رغم صناعة الفرح الذي يقدمونه، ويوازي ذلك، بطبيعة الحال، تكنيك يختلف من لوحة أخرى ووسيط فني مختلف، لكأن اللوحات تنتظم في خيط تشكل دراسة نفسية للشخصية التي أحبها ذات يوم وتذكرها حيث شاهدها في فيلم السينما الذي حضره في طفولته عن رجل طيب القلب اختفى خلف قناع ليضحك الآخرين رغم حزنه.
ثمة شخصيات تعامل معها مهنا فنيا بقدر من الكلاسيكية والانضباط الفني كابحا جماح الفنان التجريبي الخارج عن النص وتلك هي الشخصيات التي لها طابع سياسي او وضع إجتماعي، بينما نراه يجنح نحو ضربات أكثر وحشية لفرشاته وربما سكينه عابثا بشكل غرائبي أحيانا بالألوان والمساحات والخطوط لدى تعامله مع شخصيات أخرى.
ومما يلفت النظر في هذا الإطار لوحتان هما لوحة معلمه الأول جورج أليف وهي مرسومة بالاكريلك العام 1960 وجورج أليف هو فنان روسي ينتمي الى الكلاسيكية الحديثة، كان قد خدم في جيش القيصر وهاجر بعد الثورة البلشفية فعاش في عدة بلدان الى أن استقر أخيرا في الاردن. ولعل رسم مهنا لهذه الشخصية كان تعبيرا عن الوفاء، لكنّه عبّر بمهارة ايضا عما يعصف بشخصية شهدت مفاصل تاريخية كبرى في حياتها، وعانت الحرب الاهلية الروسية والهجرة الى أماكن عدة والولوج الى ثقافات متنوعة وعديدة.
أما اللوحة الثانية التي أشير أليها في هذا السياق فهي لوحة الشاعر الانجليزي أزرا باوند رائد الحداثة الشعرية في الشعر الإنجليزي الحديث، واستاذ الشاعر الأنجلو- أميركي ت. أس. أليوت صاحب القصيدة الشهيرة “الأرض اليباب”. وقد جمعت مهنا بعائلة أزرا باوند صداقة ومعرفة جعلت مهنا يقترب من عالم أزرا باوند وفهم حداثته الشعرية وبالتالي التناص مع هذه الحداثة تشكيليا تناصّا يعتمد على التجريب والإبداع القائم على التخيّليّة الخصبة التي تحيل الرائي سواء للوحة أو للنص الشعري الى مرجعيات نفسية عميقة تفسح المجال للخيال الأنساني لتتمة العمل الفني أو الأدبي في مخيلته ووجدانه وعالمه الجوّاني، فيقترب أو ربما يبتعد المتلقي من العمل الفني بحسب استعداده النفسي، لكنه بالتأكيد يقارب ويتقاطع وينشغل بالعمل بحسب الاستعداد الذاتي للتفاعل مع العمل. أما الاراء الفكرية والسياسية لازرا باوند فهي بعيدة كل البعد ليس عن مهنا كفنان إنساني كوني رحب، ولكن حتى عن كثيرين من شعراء العالم الذين تأثروا بأزرا باوند شعريا وخالفوه فكريا..
في رسم مهنا لإزرا باوند استبطان للغموض الذي يمسح الوجه والتجاعيد المكثفة والشعر الاشيب في ميل واضح الى اللون الازرق وكأنه تعبير عن الحزن والبرود.
هناك جرأة في التعامل مع الفرشاة والتقاطة ذكية لنظرة العينين، ولا يظهر الفنان في هذه اللوحة التضاد بين ألون اللوحة وخلفيتها بما يسمح بالتناقض اللوني على عادته في رسم شخوصه الاخرى، بل يجعل الخلفية أيضا من نفس لون الشخصية وكأنه يريد ان يمنح المتلقي شعورا بالحيادية أو الغموض أو القلق والحيرة أمام شخصية محيرة كإزرا باوند.
لقد نجحت اللوحة في رصد القلق الذي يعصف بشاعر مثل باوند وبالحزن الداخلي والشعور بالاهمية أيضا.
نودّع مهنا الدرة وداعا طيّبا مضمخا بالشكر لهذا الرائد الذي أرسى معالم الفن التشكيلي في فترة جد مبكرة من عمر الدولة الأردنية وهو الذي أنطلق الى العالمية فاقتنت المتاحف العالمية أعماله فحق لنا أن نفخر به فنانا أردنيا عربيا عالميا ونحن نحتفل بمئوية تأسيس الدولة الأردنية.
نحزن لفراق مهنا الدرة ولكن حزننا مشوب بالفخر والكبرياء. وداعا مهنا.
التواصل الاجتماعي
بقلم: جريس سماوي