الرئيسيةمقالاتمنظمة همسة سماء
تنهيدة حرية لرولا غانم: الرواية كجسد يتنفس ومختبر ذاكرة
د. فاطمة أبو واصل إغبارية
الملخص
تشكّل رواية تنهيدة حرية للكاتبة الفلسطينية رولا غانم نصًا استثنائيًا يتجاوز القراءة التقليدية للرواية الفلسطينية، إذ لا يكتفي بتوثيق معاناة الأفراد أو تسجيل الذاكرة الجمعية؛ بل يحوّل الحكاية إلى جسد حيّ يتنفس، وإلى مختبر دائم لإعادة إنتاج الوجع الفلسطيني عبر الأجيال. إن وصول الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية ليس مجرّد إنجاز إبداعي؛ بل هو علامة فارقة على حضور الصوت الأنثوي الفلسطيني في قلب السرد العربي الحديث، وإصراره على صياغة المقاومة بلغة جديدة، جمالية ورمزية في آن واحد
أولًا: التنهيدة كبنية تنفّس جماعي
يُقرأ العنوان عادةً كزفرة شخصية مثقلة بالخسارات، غير أن النص يعمل بكامله على آلية «الشهيق والزفير»:
•الشهيق: استدعاء الماضي بكل مآسيه (النكبة، الأسر، الغربة).
•الزفير: الحاضر الذي تحياه الشخصيات، والمستقبل الذي تحمله الأجيال (بتول، وطن، مجاهد).
هكذا تتحول الرواية إلى رئة جماعية، يتنفس عبرها الفلسطينيون ذاكرتهم ويزفرون أملهم. الحرية ليست شعارًا مؤجلًا، بل فعل تنفس لا ينقطع.
ثانيًا: من الحكاية الفردية إلى شيفرة الجسد الجمعي
لا يمكن التعامل مع شخصيات الرواية كأفراد معزولين؛ بل ينبغي قراءتهم كأعضاء في جسد واحد:
•الجدة = الذاكرة/العقل.
•بتول = القلب الذي يخفق بين الحب والانكسار.
•حمزة = الجسد المقيد بالأسر.
•«وطن» = الدم الجديد في الشرايين.
بهذا يصبح النص بيولوجيًا، يُكتب فيه الوطن ككائن حي يُحب ويُسجن ويواصل الولادة.
ثالثًا: الغلاف كمخطوطة بصرية
الغلاف الذي صمّمه جمال بدوان ليس إطارًا خارجيًا للنص، بل «مخطوطة بصرية» تسبق القراءة:
•الأبيض = النقاء المفقود.
•الأحمر = الدم النازف.
•الأسود = حداد الذاكرة.
•الأخضر = البذرة المتجددة.
الوجه الأنثوي على الغلاف أيقونة للوطن الذي يتألم ويصمد في آن، فيتحول الغلاف إلى نص موازٍ يعكس جوهر الرواية.
رابعًا: الزمن كفخ سردي
رغم البناء الدائري، إلا أن جوهر الرواية يكمن في فخ الزمن:
•الجدة تعود إلى الماضي → تنهيدة.
•بتول تحاول نسيان الماضي → تنهيدة.
•الجيل الجديد يسأل عن الماضي → تنهيدة.
كل محاولة للعيش في الحاضر تُقاطعها تنهيدة تعيد الشخصيات إلى ماضٍ قاهر. التنهيدة هنا ليست حركة شعورية، بل آلية سردية تُجمّد الزمن وتعيد القارئ إلى نقطة الوجع الأولى.
خامسًا: اللغة كمقاومة أنثوية
في مقابل الخطاب الذكوري المهيمن على الرواية الفلسطينية (المقاتل/الشهيد/البندقية)، تصوغ رولا غانم خطابًا أنثويًا مقاومًا:
•الأمومة تتحول إلى فعل مقاومة (بتول تُسمّي ابنتها «وطن»).
•الحرية تُستعاد عبر التسمية والذاكرة، لا بالسلاح فقط.
•الحب ليس شأنًا فرديًا، بل أداة رمزية لإنتاج الأمل.
بهذا المعنى تعيد الرواية تشكيل الحرية كـ «مقاومة لغوية أنثوية» تنبثق من رحم الألم.
سادسًا: الرواية كمختبر للذاكرة
الرواية أشبه بمختبر تجريبي؛ حيث تعاد تجربة الألم الفلسطيني في عينات متفرقة:
•النكبة = اقتلاع الجذور.
•الأسر = تقييد الجسد.
•الغربة = عزلة الروح.
لكن النتيجة دائمًا واحدة: حلم الحرية. الرواية تُثبت أن المعاناة الفلسطينية، مهما تكررت، تبقى مرتبطة بإصرار لا يفنى على استعادة الوطن.
الخاتمة
رواية تنهيدة حرية ليست مجرد شهادة على النكبة أو الأسر أو الغربة؛ إنها نصّ متعدّد الوظائف:
•رئة جماعية تتنفس باسم فلسطين.
•جسد بيولوجي يعيد إنتاج ذاته.
•مخطوطة بصرية تسبق القراءة.
•فخ سردي يجمّد الزمن.
•مقاومة لغوية أنثوية.
•مختبر دائم للذاكرة.
بهذا تثبت رولا غانم أن الرواية الفلسطينية قادرة على أن تتحول من «حكاية» إلى «جسد حي»، ومن «ذاكرة ساكنة» إلى «تنفّس جمعي». إنها تنهيدة ليست فردية ولا عابرة، بل زفرة مؤجلة لشعب بأكمله، تواصل الحياة حتى يتحقق فجر الحرية

