الرئيسيةمقالات

لمحة عن حالة الولايات المتحدة وتعلم العربية كلغة أجنبية

بقلم : عمرو ماضي محاضر في جامعة هارفرد

حالة الولايات المتحدة فيما نزعم هي الحالة الأكثر وضوحًا ومنهجية وتطورًا في مجال تعلم العربية كلغة أجنبية/ثانية، في برامج تعلم العربية كلغة للتواصل العام لا التواصل فقط مع أغراض خاصة (دينية- بحثية- مهنية- …) (١). فبرنامج مثل برنامج “كاسا”CASA هو برنامج فريد من نوعه ولا نكاد نذكر برنامج آخر شبيهًا له يقوم برفع كفاءة متعلمي العربية كلغة أجنبية من الأمريكيين غير العسكريين أو الدبلوماسيين(CASA, 2021) . وإن قاربه برنامج آخر فسيكون برنامج “فلاجشيبFlagship ” وهو برنامج أمريكي أيضًا(Flagship, 2021). ثم إنه لا يمكننا تجاهل برنامج كبير مثل برنامج “مدلبريMiddlebury ” الذي ألهم برامج لغات عديدة. وكذلك عند رصد تاريخ الدمج في البحوث الأكاديمية وفي مواد التعلم- وليس نقاش قضية الفصحى والمحكية- فإننا سنتجه كذلك إلى الولايات المتحدة، التي نريد أن نسلط الضوء بشكل عام على تطور تعلم العربية فيها لتكتمل الصورة لدى المتلقين(٢).
فدور الولايات المتحدة الذي جاء متأخرًا كثيرًا في التاريخ عن الدور الأوربي مع اللغة العربية، أصبح فيما أزعم ذا تأثير أكبر وأكثر انتشارًا في كثير من مؤسسات تعلم العربية كلغة ثانية/أجنبية من حيث منهجية التعلم ومواد التعلم ولوجستيات البرامج، بسبب واقعيته ومرونته وانفتاحه وعولمته لمعايير الكفاءة اللغوية، على الرغم من أنه حتى خمسينيات القرن الماضي كانت دراسة العربية في الولايات تقلِّد أوربا وتستورد كُتبها (راموني، ١٩٨٧).
ما أعنيه أن التجربة الأمريكية فرضت نفسها في تعلم اللغات على الساحة العالمية، ومن ضمن هذه اللغات، العربية التي حظيت باهتمام مضاعف جدًا بعد أحداث ٢٠٠١، وهذا ما يفسر تأخير اهتمام الولايات بتعلم اللغات الأجنبية وخصوصًا العربية. وقد تزامن هذا الاهتمام الأمريكي مع لمعان جيل جديد من المعلمات والمعلمين كان قد تخرج في ثمانينيات القرن الماضي وبدأ في التألق مع بدايات القرن الجديد، فضلًا عن سبب آخر وهو انتشار المعطى الذي غير العالم كله والاختراع الأكثر ثورية- برأيي- في تاريخ البشرية كلها وهو الإنترنت (٣).
ربما تكون أحداث ٢٠٠١ قد نبهت الشعب الأمريكي إلى وجود عالم آخر قد لا يدري معظمه عنه شيئًا. وكذلك التزايد المفاجئ- والذي أزعم أنه لم يكن مخططًا له- في أعداد المتعلمين المقبلين على تعلم العربية بعد أحداث ٢٠٠١، ربما نبه الحكومة الأمريكية إلى الفقر الشديد في إتقان الأمريكيين للغات أجنبية أخرى مقارنة بالأوربيين، ومقارنة بتدريس لغات أجنبية (ربما أكثر من لغة) في المدراس الثانوية في الصين وغيرها (Al-Batal, 2007, p. 269)، في حين أن أقل من ٥٠٪ من مدراس أمريكا تقوم بتدريس لغة أجنبية.
هذا التنبيه دفع الحكومة الفدرالية إلى دعم تعلم العربية وغيرها من اللغات الأقل شيوعًا في الولايات المتحدة، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن كفيلًا على الإطلاق بتوفير التدريب الكافي للمتعلمين، وتأهيلهم تأهيلًا أكاديميًا يكون على الأقل قريبًا مما ينبغي أن يكون عليه، فتوجهت الجامعات إلى تعيين أساتذة ربما كل مؤهلاتهم أنهم عرب (Al-Batal, 2006a, 2007; Al-Batal & Belnap, 2006)، كما أن العالم العربي حسب بحثي لم يكن فيه خريجون متخصصون في تعليم العربية كلغة أجنبية/ ثانية في مرحلة البكالوريوس، وربما يكاد يكون خاليًا من ذلك التخصص في الدارسات العليا قبل ٢٠٠١(٤) ، ولا حتى في الولايات المتحدة إلا في جامعة مشجن(Al-Batal, 2007, p. 269). ولذلك تم توظيف عدد كبير من الأساتذة في صفوف تعلم العربية كلغة ثانية، لكنهم متخصصون في الأدب، واللغويات العامة، والدراسات الشرق-أوسطية (٥) وربما غيرها من تخصصات بعيدة عن حقل اللغة (Al-Batal & Abdalla, 2012, pp. 5-6) ووجد هؤلاء الأساتذة أنفسهم أمام مجموعة من متعلمين يريدون أن يتعلموا العربية. وفي رأيي لم تكن هذه العشوائية لها جوانب سلبية فقط على بعض المتعلمين، ولكنّ بعضًا من هؤلاء الأساتذة أصبحوا مسؤولين عن تخريج جيل الأساتذة(٦) الجدد/الحاليين وتأهليهم!
وهذا لا ينفي بالطبع المجهودات التي بذلت للتطوير والعمل على توفير معايير واضحة لتعلم اللغات الأجنبية، وكذلك تدريب معلمي اللغة بشكل عام، ولكنّ خصوصية العربية فيما أدعي لم تقابل بالحجم والحسم الكافيين من البحوث والتدريب(٧)، واعتمد الأساتذة على خبراتهم القديمة، وكل اجتهد حسب رؤيته في عملية التعلم بكل تفاصيلها، بما فيها قضية دمج الفصحى والمحكية.
ندّعي أن ما سبق يؤكد أن كثيرًا من الآراء وربما البحوث التي تتناول قضية الدمج في عملية تعلم العربية هي آراء قد تكون مؤدلجة، وبعيدة عن تحليل الواقع اللغوي للعربية. وفي الحقيقة عندما نبحث الحالة الأمريكية مع تعلم العربية فإننا بشكل أو بآخر نختصر البحث في الحالة في العالم العربي وأوربّا، ذلك لأن كثيرًا من النظرتين مؤدلجتين برأيي؛ بين الأيدلوجية الاستشراقية- الموروث الأمريكي من أوربا- التي تجعل كثيرًا من المؤسسات الرسمية تفرض تعلم الفصحى فقط، والأيدلوجية غير الواقعية القائلة بأن العربية هي الفصحى فقط. وأساتذة العربية كلغة ثانية/أجنبية هم إما ناطقون بالعربية لغة أولى، وإما ناطقون بالعربية لغة ثانية، والنجاة من طريقة التفكير المؤدلجة والمعلّبة تتطلب الانطلاق من الواقع اللغوي وتحليل هذا الواقع، ثم التفكير في تطبيقه في عملية التعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) تكمن أهمية ذكر حالة الولايات المتحدة مع تعلم العربية في أمرين: فهي المكان الذي ظهرت فيه أهم بحوث “الازدواجية” اللغوية، وكذلك هي المكان الذي انطلق منه مبدأ الدمج، كما رأينا وسنرى ونوضح في السطور القادمة. لذا فقد رأينا أن ذكر لمحة تاريخية عن حالة العربية في أمريكا ربما يكون ذا أهمية لاكتمال الصورة عن الدمج والتكامل بين الفصحى والمحكية في التعلم.
(٢) ولتكتمل الرؤية بنبذة عن العربية في أوربا، يمكن لحضراتكم الاطلاع على ورقة كيس فرستيج، والتي يذيلها بفقرة خاطفة تلخّص كثيرًا من حال العربية في بعض دول آسيا وأفريقيا (Versteegh, 2006a). ومن الأوراق التي عرضت ملخصًا وافيًا للعربية في الولايات المتحدة منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية حتى القرن الواحد والعشرين دراسة قاسم وهبة (وهبة، ٢٠١٤).
(٣) ولكن كل هذا- بزعمي- لا يعني أن حال تعلم اللغة العربية بالولايات المتحدة لا تعاني، ولا تحتاج إلى مزيد من التطوير والمواكبة، بل هناك فقر شديد جدًا برأيي في الوعي التربوي البيداكوجي ومواد التعلم الأصلية المصممة بدقة منهجية تسهم في رفع الكفاءة اللغوية، وهناك موجات مضادة لتيارات التعلم الواقعي، ومعارك فكرية وأيدلوجية مستمرة قد تعيد العجلة إلى الوراء، أو على الأقل ستضعف التقدم المنشود إن لم تكن تضعفه بالفعل. وأزعم دائمًا أن الحال في الولايات المتحدة لا تختلف كثيًرا عنها باقي أماكن العالم، ولكن برغم كل العقم الذي أصف به نظام التعليم الجامعي في الولايات، فيبقى هو الأقل سوءًا برأيي- ربما- في العالم.
(٤) فضلًا عن تعقيدات السفر اللوجستية للعرب بعد أحداث ٢٠٠١ (Allen, 2004).
(٥) تشير دراسة البطل وعبد الله إلى أن المتخصصين في العربية كلغة أجنبية يشكلون حوالي ٥٪ فقط من معلمي اللغة العربية في الولايات الذين شاركوا في استطلاع الرأي للدراسة عام ٢٠٠٩ وعددهم- إجمالي المشاركين في الاستطلاع- ٢٠٩ من أصل حوالي ٤٠٠ معلمة ومعلم تقريبًا للغة العربية في مؤسسات الولايات المتحدة وقت الاستطلاع. وتشير الدراسة إلى أن نسبة المتخصصين في العربية كلغة أجنبية مضافة إلى نسبة المتخصصين في الإنجليزية كلغة ثانية واللغويات التطبيقية، هي أقل من ٢٠٪، مقابل أكثر من ٨٠٪ غير متخصصين في تعلم اللغات الثانية/الأجنبية أو اللغويات التطبيقية، فضلًا عن أن هناك حوالي ٨٪ هم غير متخصصين تقريبًا في الحقل اللغوي، بل في حقول أخرى كالقانون وعلوم الكمبيوتر والاتصالات وإدارة الأعمال (Al-Batal & Abdalla, 2012, p. 6).
(٦) أزعم أن هناك ٣ أجيال واضحة في مجال تعلم العربية كلغة أجنبية في الولايات المتحدة منذ بدأ في طريقه إلى التشكل، وهو معيار برأيي قابل للقياس عليه خارج الولايات أيضًا، الجيل (المؤسس) الذي أسس لبعض البرامج ووضع الكتب التعليمية الأولى التي سادت برامج اللغة العربية المحدودة في الولايات حتى منتصف التسعينيات وهو خليط من العرب والمستشرقين، والجيل (الرائد) الذي صنع بعضه فارقًا كبيرًا في رسم منهجيات أكثر وضوحًا وواقعية وأفادوا من تجارب الجيل الذي سبقهم وربما تلمذوا لبعضهم، وبعض هذا الجيل (الرائد) الآن هم خبراء المجال، والسواد الكاسح من هذا الجيل عرب، ثم يأتي الجيل (الحائر) الذي أدعي الانتماء إليه، والذي تلمذ لبعض الجيل الثاني.
(٧) ما أراه أن هذا الإهمال لا يتماشى وحرص الجامعات الكبرى في الولايات مثل هارفارد وييل وغيرها على إدخال دراسة اللغة العربية ضمن اللغات الأجنبية منذ القرن السابع عشر والثامن عشر (Allen, 1992; McCarus, 1992; Ryding, 2006). أقصد الفقر في التخصص الدقيق وهو “تعلم العربية كلغة أجنبية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق