يوسف برون هامر بورغشتل Josef Freiherrvon Hammer-Purgstall
ولد يوسف هامر الذي أدهش معاصريه وتابعيه في سائر أوروبا، يوم ٩ يونيو سنة ١٧٧٤ بمدينة جراتس بالنمسا، وتوفي يوم ٢٣ نوفمبر سنة ١٨٥٦ بفيينا، دخل مدرسة الجمنازيوم بجراتس، وحضر إلى فيينا سنة ١٧٨٧ حيث التحق بالقسم التجهيزي بالمدرسة الإمبراطورية، وبعد الامتحان لدخول الأكاديمية قُبِلَ بنجاح، واستمر تلميذًا مدة تسعة أعوام، ودرس في السنين الأخيرة اللغة الفارسية استعدادًا للسفر إلى بلاد العجم، وقد كلفه السيد ينيش Ienisch في خدمة قضاها له، وكان ذلك لأجل إصدار القاموس العظيم المطبوع باللغات العربية والتركية والفارسية واللاتينية، والمعروف باسم مؤلفه مينينسكي Meninsky، وكلفه السيد ميلر Müller في البحث عن جميع المكتوبات والكتب الإفرنكية الخاصة بالشرق، وفي سنة ١٧٩٧ بعد عقد الصلح بين نبوليون بونابرت وإمبراطور النمسا فرانس الأول ببلدة كامبو فورميو عُيِّن هامر سكرتيرًا للسيد بتنش معتمد القيصر، وفي هذا الوقت نشر هامر نشرته الأولى، وهي ترجمة للشعر التركي في «الأمور الأخيرة»، ثم نشر شعرًا نظمه هو بنفسه، وعنوانه «فايد لنج» Weidling، وفايد لنج اسم لقرية لطيفة قريبة من فيينا واقعة بين الجبال، وقد اختارها مصيفًا له مدة عشر سنوات، وسنعود إلى ذكرها فيما بعد، ثم سافر إلى البندقية، وكتب ما رآه هناك في [كتابٍ] أصدره في برلين سنة ١٨٠٠ وسماه «تصويرات».
واشتغل في نظم «شيرين» أي الحلوة المشهورة بوفائها لشاه إيران الساساني، صدر في ليبزج سنة ١٨٠٩، وفي سنة ١٧٩٧ أرسله الوزير النمساوي طوغوت Thugut إلى الآستانة، وبما أنه كانت لدى هامر توصية للسفير النمساوي البارون هيربرت، فقد وجد منه كل مساعدة وإرشاد، وبعدما تمت المعاهدة بين الصدر الأعظم العثماني وبين الجنرال كليبير kleber الفرنساوي المقيم في مصر، وعرفها هربرت أمر لهامر في شهر فبراير سنة ١٨٠٠ بالسفر إلى البلاد الشرقية ليخبره عن أحوال القنصليات النمساوية، وعن الأحوال السياسية بالقطر المصري، ولكن لما كانت إنجلترا غير موافقة على قبول تلك المعاهدة، وتأخر من هذا المانع سفر هامر إلى الشرق؛ بقي حينذاك مقيمًا على ظهر باخرة النمر التي كان يرأسها سيدني سميث Sidney Smith وقد كان هامر ترجمانًا، وسكرتيرًا خاصًا للحملة الإنكليزية على مصر، وقد حضر وشاهد المخابرات التي دارت مع الصدر الأعظم في يافا، وذهب مع الإنكليز في الحملة إلى مصر، وقام بجميع المراسلات السياسية التركية، وتحرير المعاهدات مع المماليك، ثم سافر بعد تسليم الفرنساويين إلى إنجلترا، وقد ترجم أثناء إقامته في الشرق لأول مرة باللغة الألمانية «ديوان الحافظ الفارسي» وكتب كتابه Topographische Ansichten der Levantinischen Reise الذي صدر سنة ١٨١١ بفيينا. والكتبخانة الإمبراطورية الملكية تشكر له ترجمة رواية عنترة بن شداد العربية التي كانت مجهولة من قبلُ في أوروبا، ولما توفي البارون هربرت صدر إليه الأمر لمبارحة إنكلترا، ولاستلام الأشغال بالآستانة بصفة سكرتير للسفير البارون اشتيرمر.
وأثناء إقامته في الآستانة ترجم الأجزاء التي لم تكن تُرجِمتْ بعدُ من ألف ليلة وليلة، ونشر كتاب بوق الجهاد Pos aune des heil. Krieges وانتقل سنة ١٨٠٦ إلى وظيفة وكيل الإمبراطور في مدينة يسي، إلا أنه ترك هذه الوظيفة، وسافر سنة ١٨٠٧ إلى فيينا، حيث تعارف مع الأمير شفوسكي Rscevusky وقد ساعده الأخير ماليًّا عندما علم أن هامر يريد إصدار مجموعة عامة لجميع العلوم الشرقية، وقد صدر الجزء الأول من هذه المجموعة العلمية المهمة الشأن المسماة معادن الشرق العلمية Fundgruben des Orients سنة ١٨٠٩، وطبع في ستة مجلدات من سنة ١٨١٠ لسنة ١٨١٩، ولما دخل الفرنساويون في فيينا محاربين سنة ١٨٠٩ كان القيصر أمره ليلحقه، ولكنه تأخر عن لحاقه، وكان ذلك لعدم وجود خيل للسفر، وفي الواقع فإن هذا التأخير كان مفيدًا للنمسا؛ وذلك أن الجنرال دارو Daru الفرنساوي ومعه دينون Denon نهبا المتاحف والكتبخانات لأخذ كنوزها النادرة إلى باريس، وفيما نهبوه ثلاثمائة نسخة من الخطوط الأصلية الشرقية، فعارضهما هامر ومنعهما من ذلك، وقد تركا فعلًا مائة نسخة في فيينا، وأخذا معهما مائتين إلى باريس، لكن هامر سافر إلى باريس، وفاز بمساعدة صديقه سلفستر ده سازي لدى الحكومة الفرنساوية، فردَّت أيضًا مائة نسخة، وكان هامر سنة ١٨١٠ مشيرًا للسفير النمساوي في باريس وقت اقتران نبوليون الأول بالأرشيد وشس ماريا لويزا، وعُيِّن في سنة ١٨١١ مشيرَ ديوان الحكومة، وترجمانًا للإمبراطور فرنسيس الأول، واغتنم هامر فرصة فراغه من الأشغال الرسمية وأخذ يدرس بكل دقة أحوال الشرق، ونشر في سنة ١٨١٥ كتاب «أساس تدبير حكومة الدولة العثمانية»، واعترافًا بفضل هذا التأليف، فقد منحه إمبراطور الروس وملك الدانيمارك نياشين عديدة، وفي سنة ١٨١٦ كان له من العمر اثنتان وأربعون سنة، وتزوَّج من السيدة ابنة البارون هنكشتين، وعُيِّن في السنة التالية مستشارًا للإمبراطور، وهذا الامتياز هو قمة الافتخار الرسمي الذي ناله من جهة تقدمه الرسمي وارتفاعه العلمي، وكل ما نتج عن هذه التكريمات والإجلال، بل ونيله لقب بارون، لم يكن إلا لكثرة إلمامه في العلوم الشرقية. ولما رافق هامر سنة ١٨١٩ سفير العجم ميرزا أبي الحسن بفيينا لمخابرة الإمبراطور فرانس الأول بصفة ترجمان حصل على «صليب الفرسان» وهذا ملحق لنيشان ليو بولد العالي الشأن، أما السفير الإيراني أبي الحسن فأعطاه جوادًا كريمًا، باعه هامر واستلم ثمنًا له مائة قطعة ذهبًا صرفها في إنشاء قبره المصنوع تمامًا على طراز قبور المسلمين، وهو من الرخام الأبيض، ولم يشيد قبره إلا بعد سبع وثلاثين سنة في مقبرة قرية فيدلنج اللطيفة السابق ذكرها، وأقامها على نفس المكان الذي دفنت فيه حبيبة شبابه السيدة أليزة تينر. وهكذا فقد أحب هامر الشرق، وأعجب بفنونه وآدابه الجميلة، حتى جعل لنفسه تذكارًا خالدًا يبرهن على فرط ميله، وانهماك خاطره في عجائب ونفائس الشرق، وأقام لنفسه قبرًا شرقيًّا، وفي الحقيقة، فقبر يوسف هامر يجذب إليه أبصار جميع المارِّين به، والناس مُعجَبون شاخصي العيون مندهشين لرؤية أثر نادر؛ حيث لم يشاهدوا مثله أبدًا بتلك النواحي. وتَوجَّه كاتب هذه المقالة ذات يوم إلى قصر يوسف هامر المقيم على حدود الأستيريا إلى جهة المجر ببلدة هاينفلد الذي ورثه هامر من السيدة الأرملة بورغشتل، فرأى فيه في سنة ١٩١٣ من العجائب والزخارف الشرقية، ومن الخطوط العربية المنقوشة على مدخل هذا القصر الفاخر الحصين ذي الأربعة أبراج ما يدهش البصر، ولما دخل وجد في حجرة القبر ذات القبة قبرًا من الرخام الأبيض منقوشًا عليه كلمات بلغات كالعربية والفارسية والتركية، وسائر لغات أوروبا، ووجد في غرفة من الآثار المصرية القديمة والمومياوات والخطوط والكتب النادرة، وهذه هي صورة قبر هامر بفيدلنج المنقوشة بلغات الشرق، وصورة قصره في هاينفلد [انظر الصورة التالية]:
قصر هامر في هاينفلد.
قبر هامر في فيدلنج.
ومن سنة ١٨١٦ إلى سنة ١٨٢١ ألَّف هامر تاريخ الغساسنة، وأصدر كتاب رحلته إلى بروساو «إستانبول والبوسفور» ورواياتٍ دينيةً هنديةً فارسية، وتركية تحت عنوانMemnons Deriklang طُبعتْ بفيينا سنة ١٨٢٣، ثم سافر إلى إيطاليا لكشف الخطوط، وفي نفس هذه السنة صدر المرسوم من الإمبراطور فرانس الأول بإعطاء لقب «فارس».
واستلم هامر سنة ١٨٣٥ مكافأة من الأكاديمية في برلين لجوابه عن موضوع «كيفية تدبير حكومة الخلافة الداخلية» في كتابه Innere Verwaltung des chalifats طبع برلين سنة ١٨٣٥، فصرف هامر هذا المبلغ في سد نفقات ترجمة الشعر التركي كل وبلبل لفضلي طبع بودابست سنة ١٨٣٤، ولما قدَّم إلى شاه إيران كتاب «مذكرات مركوس أوريليوس الفلسفية» المطبوع بالفارسي واليوناني، أنعم عليه هذا الشاه بنيشان شيرو خورشيد، ثم ألَّف كتاب النظم الأقدم الفارسي Wamik wa.Asra طبع فيينا سنة ١٨٣٣، ثم أطواق الذهب للزمخشري طبع فيينا سنة ١٨٣٥، وكتاب Mithriaca طبع باريس سنة ١٨٣٣، وفي سنة ١٨٣٥ ورث هامر بناءً على توصية الأرملة السيدة بورغشتل صديقته التي ماتت عن غير ذُرِّية قصرَها السابق ذكره ببلدة هاينفلد.
ولهذا الحين كان يُدعَى هذا المستشرق يوسف هامر فقط، أما بعد هذا الميراث فقد أصبح اسمه بأمر الإمبراطور «البارون هامر بورغشتل»، ومما يُشكر هامر بورغشتل عليه تأسيسه «أكاديمية العلوم في فيينا» التي انتخب أول رئيس لها، وعندما احتُفل بتذكار مرور مائة عام على الأكاديمية الشرقية، فقد لقي هامر كل الاحتفاء والتكريم في ذلك الاحتفال؛ لأنه كان بلا شكٍّ تاج تلاميذ هذه الأكاديمية، ولما طَعن في السن لم يفقد قوته العقلية، بل إنها زادت، والدليل على ذلك أنه نشر، وعمره بين الستين والسبعين كتاب «قاعة تصويرات حياة أعاظم ملوك الإسلام» طُبع بدار مشتات سنة ١٨٣٧، وغير ممكن شرح جميع مؤلفات هامر لأنها تُعَدُّ بالمئات، وإنما نذكر نشرته «أقوال النبي محمد» طبع فيينا سنة ١٨٥٣، وكتابه في «الألفاظ العربية في اللغة الإسبانيولية» طبع فيينا، ثم مباحثه في «الأختام المنقوشة الإسلامية» وكتابه «يا ولد للغزالي» المطبوع بالعربي والألماني سنة ١٨٣٨، وميعاد للصلاة بالعربي والألماني، وتاريخ قبائل المغول، ولما كان عمره ٧٦ سنة ابتدأ بإصدار كتابه آداب اللغة العربية طبع فيينا سنة ١٨٥٤ إلى ١٨٥٦، وقد نال هامر خمسة عشر نيشانًا من معظم ملوك أوروبا، ومنحته جامعات جراتس، وبراغ لقب دكتور شرف، كما أنه كان عضوًا في خمسين شركة علمية، مثل شركة آسيا في إنجلترا، وفرنسا، وكلكتا وبومباي بالهند، وفيلادلفيا بأمريكا، وجمعية الشرق بلايبسج. وقد عاش بورغشتل ثلاثة وثمانين عامًا كلها مملوءة بالشغل والعمل والبحث. ومن المعلوم أن هامر قد وقعت له في كتبه كثير من السهوات اللغوية لعدم تتمة دراسة كل لغة إلى الحد الأخير منها، ومع أنه ليس من الأمور الصعبة [توجيه] مثل هذه الغلطات اللغوية بالنظر إلى المعرفة الهائلة العجيبة، وإلمامه جميع العلوم الخاصة بالشرق، والفنون، وأحوال وتاريخ الأجيال الغامضة التي نجح في حل بعضها، فإن المُقرِّظ المُنْصِف الذي يدرك فهم روح هامر العالية لا بد وأن يقول إن يوسف هامر بورغشتل لا يُنكَر فضله بأي حال من الأحوال؛ فقد كان مجددًا للعزائم، ومُحْيِيًا الهمة لدراسة الألسن الشرقية وأحوال الشرق، وقدوةً حسنة لتابعيه ليستزيدوا نشاطًا وجهدًا في الطريق الذي سلكه وسهَّله لهم؛ فلروحه جميل الذكرى. وقد مات هامر سنة ١٨٥٦، ودفن في فيدلنج. وترى في [الصورة التالية] صورة من الصور العديدة ليوسف هامر بورغشتل.
Josef Von Hammer. Purgstall.
صورة الختم الذي استعمله هامر بورغشتل
المرجع : يوسف جبرا
مستشرقٌ نمساوي، وعالمُ لُغَويات، وهو تلميذُ المستشرقِ الألمانيِّ أدُلْف فارمُند، ومن مؤلَّفاتِه «تاريخُ دراسةِ اللغةِ العربيةِ بأوروبا»،