نشاطات

الرؤية والتشكيل الجمالي في ديوان “نيرفانا” للشاعر/ رياض ابو رحمة أ.د.محمد صلاح زكي أبو حميدة

قد تتعدد الدلالات السطحية وتوحي بالاختلاف والتنوع، لكنها في العمل الأدبي المحكم البنيان تظل محكومة برؤية واحدة، وبدلالة واحدة في بنيته العميقة.

ومن يقرأ ديوان رياض أبو رحمة المحكم الدلالة والبناء، يظن أن الشاعر ينوع في موضوعات قصائده ليشبع حاجة القراء المتنوعين في أفكارهم وميولهم وحاجاتهم الفنية، فيتنقل عبر قصائده بين التصوف، والحرب، والقتل، والحب، والسلام، ومناجاة الذات، والشكوى من

العشق وناره .. إلخ.

ولكن ما إن يتعمق جوانب النص حتى يتكشف له خيط رفيع ينظم تلك القصائد في عِقد من اللؤلؤ المنتظَم بدقة وحكمة بالغة، ذلك الخيط هو عشق الوطن والهُيام في عالمه بكل أحزانه وأفراحه، وأحلامه وطموحاته، وحضوره وغيابه، ودفئه ووحشته.

وبنظرة تأملية لقصائده الشعرية نرى أن قصيدة ” نيرفانا” القصيدة الأولى التي اختار اسمها عنواناً للديوان، تلخص هذه الرؤية وتجسد التجربة الشعرية التي انتظمت صفحات الديوان، فلنقف بداية عند هذه القصيدة لنكشف عن تطور الدلالة فيها, والرؤية التي ينطلق منها الشاعر في نقل أفكاره وأحاسيسه.

يفتتح الشاعر ديوانه بقصيدة” نيرفانا” وهو اسم يثير كثيراً من التساؤلات لمن لم يطلع على الثقافة الهندية، التي تُحمِّله دلالاتٍ من التجليات الصوفية والرُوْحانية بالمفهوم الهندوسي, وليس الإسلامي.

إن الاسم في حد ذاته يقترح عدة احتمالات في ذهن القارئ منها:

نيرفانا: هي عالمُ الروح.

نيرفانا: اسمُ معشوقة الشاعر.

نيرفانا: اسمٌ لأحد الشخصيات الأجنبية.

نيرفانا: فلسطين.

نيرفانا : المرأةُ بمفهومها المجرد. إلخ.

كل الاحتمالات قائمة، ولها

من القرائن ما يعززها، ولكننا في ضوء الرؤية الشعرية التي تنبثق من تجربة الشاعر نرى أن “نيرفانا” لم تكن إلا فلسطين هذا المثال الخالد في وجدان الشاعر وفكره وعقله، يحاول أن يجسده واقعاً محسوساً، يَهيمُ في عالمه، ليُشبِعَ نهمَه، ويُطفئ لظى ظمئه، ويعيشَ في عالم الصفاء والطهْر والنقاء.

وبمعاودة النظر في القصيدة نرى أن الشاعر يدرك أن الكون يحكمه قانون التضاد والتقابل بين الأشياء، فكل شيء يستحضر نقيضَه: الخالق/ المخلوق، الفاني/ الأزلي، الروحي/ الحسي، الطهارة/ الخبث، ويرى أن الخلاص من عالم المادة وما يَعْلَق بها من شوائب إنما يكمن في مغادرة الروح لقمقمها، وتَوهُّج نورِ الإيمان داخلها، وعشقها لذات الخالق وقدسيتها.

إن سعي الشاعر للوصول إلى عالم الصفاء والنقاء والطهر أي عالم الروح، جعله يرى الحياة في ثوبها الجديد وحضارتها العصرية، يغمرها الشر على حساب الخير، وأن الخير يكمن في بساطة الأشياء وبداياتها الأولى، بدايةِ الخلق والتكوين البشري على هذه الأرض.

وهذا يذكرنا بموقف جان جاك روسو من الحياة المدنية، التي يرى أنها أفسدت الإنسان الذي هو خيِّر بطبعه، والخير كل الخير في القرية, والحياة البسيطة, والطبيعةِ بفطرتها التي فطرها الله ، إن الشاعر في هذا الإحساس العميق بعالم الإنسان، يكشف لنا عن عمق الرؤية الشعرية التي تتحكم في مجمل خطابه الشعري، وهي أن الإنسان بانغماسه في واقعه المادي ومدنيته الزائفة، يبتعد كثيراً عن قيمه الإنسانية، ويفقد حيِّزاً واسعاً من براءته وطُهره، فيكونَ أقرب إلى عالم اللاإنساني، ذلك العالم الذي تسوده قيم الشر: كالحقد والبطش وظلم الآخر؛ لذلك اتخذ من “نيرفانا” وسيلة للابتعاد عن المؤثرات الخارجية، والمشاعر السلبية التي ترهقه كالاكتئاب والحزن والقلق والخوف وغيرها، والاقتراب من صفاء الروح وخلوتها, من أجل تحقيق السعادة القصوى, والتخفف من المعاناة.

يبدأ الشاعر بالكشف عن رؤيته لواقعه الفلسطيني الذي يعيش التي غلَّفها بثوب الصوفي، تلك الرؤية التي تُبرِز قسوةَ الإنسان, وظلمَ الإنسان لأخيه الإنسان، ثم تعلو نبرة الشكوى، وتتوالى الأمنيات بتطهير هذا الإنسان، وتطهير الوطن من عنف الشيطان, ورعب الأشباح.

وبمعاودة النظر في الرمز الشعري الذي اتخذه عنواناً لديوانه الشعري” نيرفانا”, نرى أن الشاعر اتخذ تكتيكاً معيناً في إضاءة هذا الرمز, وكشفِ غموضِه، حيث ترددت الكلمة تسع مرات في قصيدة ” نيرفانا” مضافاً إليها عنوان القصيدة، وفي كل مرة تتكشف الدلالة شيئاً فشيئاً حتى يُدركَ القارئُ في النهاية أن” نيرفانا” هي المعادل الموضوعي لذات الشاعر التي هي ذات الوطن:

نيرفانا .. نيرفانا [1]

ها أُبصرُ ما كوني

يا أنتِ

إني أنتِ

وأنت سلافةُ كوني

يا أنتِ

يأ أبهى خفقاتِ الخلقِ

يفيضُ على الدنيا

لحناً .. عربياً.. صوفياً

تُنْشِدُهُ الأيام.        (الديوان:30)

إن الشاعر يكشف منذ مطلع القصيدة عن دلالة ” نيرفانا” الغائبة عن ذهن القارئ العادي، فيصرح بأن” نيرفانا” هذا الاسم الغريب, إنما هو مملكة الروح التي تشد الجسد الفاني نحوها، وهي العالم المقدس الذي يتطهر به عالم الإنسان، إنها النور القدسي الذي يشع بكل القيم الإنسانية الرفيعة في الوقت الذي تذبل فيه هذه القيم في العالم السفلي.

نيرفانا

يا مملكةَ الروح يقدسُها البدنُ

يا مهدَ الأزليِّ يصورُهُ الفاني

أصبو للنورِ القدسيِّ يطهرني

أصبو لسلامِ النفس يصورني

إنساناً ينهلُ من إنساني.  (ص: 9)

من هذا المفهوم ينزِع الشاعر نحو عشق الروح، ويكشف عن حاجته إليها، إذ يعيش غريباً مُوحِشاً حالَ بعده عنها, يقول:

نيرفانا

أحياكِ غريباً حتى الموتِ

ها يُغرقُني زمنُ الشجنِ الشمسيْ

يتعاظمُ حزني كالسافانا

تتهامسُ أوردةُ الكبتِ

يشحذُني التوقُ

هل ننجو؟!

يتشظى ظلي فوق وِهادِ الوقتِ

حتَّامَ ستصطادُ ظباءَ الودِّ فهودُ الدَّم الناري؟!(ص:13)

إن ” نيرفانا” الشاعر هي ملاذه، وأملُه في الخلاص من حالة التشظي المتفاقمة يوماً بعد يوم، لذا يعلو صوته في استفهام إنكاري, لحالة الظلم المستمرة التي لا يدرك لها نهاية.

ثم يتقدم الشاعر خطوة نحو وضوح الدلالة الشعرية، ليكشف عن البعد الوطني لنصه الشعري، وأن ما تعانيه الذات, إنما مبعثه معاناة الوطن, وتمزقُه.

نيرفانا

الوهلةُ تهربُ من زمني

تتمزقُ ذراتُ الوطنِ

سيف الحقدِ يشقُّ الروحا

صَدْعُ الجرفِ تعمقَ فينا

يا وطني المقسومَ أموتُ حنينا.  (ص:17)

لا شك في أن كلمة “المقسوم” في السطر الأخير تحمل دلالتين قائمتين في البنية العميقة، الأولى: هي تقسيم الوطن إلى فلسطين عام 1948م، وفلسطين في الضفة الغربية وغزة والقدس، والأخرى، تقسيم الوطن بعد حالة الصراع الداخلي بين فتح وحماس إلى قطاع غزة وسيطرة حماس عليه, والضفة الفلسطينية ومركزها رام الله. وانحسار السلطة الوطنية فيها، وكلا الأمرين من التقسيمين يحمل للشاعر هماً وشجناً وحزناً لاينتهي, وإن كان التقسيم الداخلي للوطن, يبدو أكثر إيلاماً للذات وأشدَّ قسوة عليها، إذ يقول:

ها ينبذُ في تيهِ الويلِ أباهُ

ها يقتلُ في حدِّ الجهلِ أخاهُ

تتمزقُ أشلاءُ الوطنِ

يتردّدُ في جوفِ المجهولِ صدانا . (ص:18)

وبذا يفقد الشاعر بوصلة الخلاص من واقعه الأليم، ويصبح ملاذه الأخير ” النيرفانا” عاجزاً عن إنقاذه من هذا العذاب المستطير .. يقول:

ماذا بعدُ..

ما عادتْ تُسعفُني النيرفانا

ما عدنا بحدودِ الزمنِ

كَوْني يتحقَّدُ كَوْني . (ص:18)

وعلى الرغم من أن الشاعر يدرك أن الـ ” نيرفانا” لم تعد قادرة على إخراجه من واقعه المر الأليم، وهو دليل على عظم مأساته، فإنه لا مناص أمامه إلا أن يناجيها، لتخلصه من عالمه السفلي الذي يشعر فيه بالوحشة، والخوف، والموت الذي يطارده في كل مكان, يقول:

 

نيرفانا

يا روحاً تشرقُ في قمة

أحتاجكِ

لا حِضْنَ حنانٍ يجمعني

أشلائي تتأهبُ

الزَّنَّانةُ عينٌ ترصُدني

الزَّنَّانةُ يقظى

صاروخُ الموتِ يطاردُني

هل أحيا سراً أبديا؟

هل أحيا كُنْهي إنسانا؟ (ص:21)

هنا تتبدَّى لنا ملامحُ العدو الذي يلاحظه بصورة أكثر جلاء ووضوحاً، إذ إن ” الزنانة” الطائرة بدون طيار التي تُعد من أكثر أدوات العدو العسكرية نجاعة وقدرة على ملاحظة المقاوم الفلسطيني وملاحقته، تكررت مرتين في المقطع الشعري, ليؤكد من خلالها، بالإضافة إلى صاروخ الحقد والغدر، أن الموت يخيِّم على المشهد الأرضي، وأن جسد الفلسطيني يتأهب للتناثر أشلاء في أي لحظة, وفي أي مكان، لذلك ليس أمامه سوى اللجوء إلى عالم الروح ” النيرفانا” التي تسكن في الأعالي, وتسمو فوق الواقع المادي المحسوس، ومن ثم يدرك واقعه الإنساني وإحساسه بإنسانيته التي يبحث عنها.

لذلك يرى الشاعر في ” نيرفانا” سكناً وسلاماً يخلصه من عذاب الموت والقتل الذي يداهمه في كل لحظة:

نيرفانا

يا روحاً تطحنُها نوءُ الحربِ

ها يسكنُني منك سلامُ

ها أتدفقُ

تعصرني الآلامُ  (ص:29)

ثم يصل في ختام نصه الشعري إلى لحظة التجلي والتوحُّد مع الروح ” نيرفانا”, فتفيض عليه الإحساسَ بالذات، وتخفق بكينونته العربية على مر الأيام.

 

إن فكرة الإحساس بالذات، والبحث عن طهرها، وحقيقتها، وكينونتها، في خضم الإحساس بالظلم والقهر، وغياب الذات, تكاد تكون من أبرز ما يلاحظه القارئ على ديوان الشاعر، فصوت الأنا/ الشاعر يرتفع في كل مفاصل الديوان وقصائده، مما يضفي على النص الشعري صفة الغنائية، التي يحاول الشاعر من خلالها أن يبوح بما يعتمل في داخله، من شكوى مريرة من الواقع المعيش الذي يحياه، وما آلت إليه الأمور من تراخ وانشغال بالذات، ومغريات الحياة، التي شغلت الإنسان الفلسطيني.. الإنسان العربي، عن همه الحقيقي, وهو غياب الوطن، بل ضياعُه.

إن حضور الذات في النص الشعري بكثافة سواء بضمير المتكلم، أو بصفاتها الجسدية والمعنوية، يدلل بوضوح على أن الشاعر يعيش تجربة حقيقية، تجربة حب الوطن والتغني بآلامه وأحلامه، وما يحيط بهذه التجربة من أفعال وممارسات سلبية تسللت إلى وجدان الإنسان العربي والفلسطيني خاصة، جعلته في حالة من الغياب والغفلة عما يجري.

وحين تتحرك الصياغة الشعرية نحو إبراز واقع الأنا، وما تعانيه من قهر وألم وضياع لا نراها تستسلم لهذا الواقع المرير، وإنما سرعان ما يعلو صوت التحدي، وحب التضحية في سبيل دفع هذا الظلم وقهره.يقول:

الحقدُ يجتاحُ النقاءَ بروحيهْ

فلتُنقذوا هذا الشقيْ

أو فاحذروا مني غداً

أنْ أستحيلْ

أطلالَ شوكٍ قاتلهْ .(ص:71)

فاعتداء الآخر وظلمه، جعل الحقد يتسللُ إلى نقاء روحه وصفائها، وحبها للخير. واستمرار هذا الظلم، لاشك، سيجعل منه إنساناً شقياً، وشوكةً قاتلة في طريق من تجرأ على حقه واعتدى عليه، وهو ما يذكرنا بقول محمود درويش:

أنا لا أكره الناسَ ولا أسطو على أحد

ولكني إذا ما جعت أكل لحم مغتصبي

حذار.. حذار.. من جوعي ومن غضبي.

وكأني بشاعر ينشد السلام والخير لبني البشر، ولكن حين يجتاح الحقد عالمه ويسلبه وداعته، لا مناص من أن يتحول إلى قنبلة في وجه أعدائه؛ لذا يقول:

للقلب مرفأهُ الوحيدْ

عهداً إذا الأيامُ تسقيني العنا

سأكرُّ أهتفُ للمنايا لا أَحيدْ.  (ص:87)

ولا يقف الشاعر موقف الرافض لعدوه فحسب، بل يكاد يصب جام غضبه على أمته العربية، وقيادته الفلسطينية، التي تتأرجح في خطواتها وقراراتها التي ينبغي أن تكون بحجم القضية، يقول:

مصباحُ شعلتِنا تؤرجحُه الكفوفُ الغاصبهْ

ظلي يطوِّحه انتصافُ الدائرهْ

ماذا سيبقي من سنا روحي إذا

نارُ العشيرةِ أحرقتْ حقلَ الطفولةْ

ما ينقذُ الروحَ إذا يكبُو البلدْ

هو الرمادُ سيعتلي جمر الأمدْ

وستغتني مني الليالي .. والزمانُ الهادرُ

لا شمسَ لا نورَ.. وأفقي شاغرُ

كفوا سرقتم عمري المسفوكَ قرباناً لكم

كفوا صغيري يرتعدْ

برداً وتيهاً

والعيونُ تقرحاتٍ من صهيلٍ ورمدْ.  (ص:83)

إن رياض أبو رحمة يتحرك دلالياً وفق أيديولوجية فكرية ورؤية بعيدة المدى، ترى أن الخلاص من الواقع المرير الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني، واستعادةَ حقِّه الذي ينشده، لا يكون إلا عبر القوة التي يملكها، قوةِ الإرادة، وقوةِ القوة مهما صغرت في نظر الآخرين، يقول:

الطلقةُ السوداءُ في قلبِ الأمومةِ غارتِ

ما زالَ يأسرُني جنونُك يا حجرْ

ذاكَ المحاورُ لم يذذْ سيلَ الخدرْ

حينَ انحدرْ

يطوي لهيبَ الثورةِ الحمراءِ في قلبي الصغيرْ

هيا فضميني إليكِ.

أشواقُ أغنيةِ الصبايا تشتعلْ

بركانَ وجدٍ عارمِ

ما نفعُ مرساتي الأسيرةِ للعواصمِ

ما نفع جيشي في البلاد مشردا

طوبي لسحرِكَ ياحجرْ

طوبى لأعناقِ البنادقْ

يلفُّها عزمُ الرجالْ.  (ص:35)

وعلى الرغم من أن شاعرنا يموج صدره بحب الانتقام، والقتل لمن اغتصب حقه ووطنه، فإن القيم الإنسانية، وحب الحياة، والحب بمفهومه المجرد يمثل إكسير الحياة عنده، الذي لا تستقيم الحياة بدونه، وأنه – أي الشاعر- برغم عنفوانه وثورته على الظلم ، يعشق الحياة ويزرع الأمل في القلوب, يقول:

عجباً / يا تلَّ جليدٍ / يا كتلةَ ملحٍ في صومعْ

كيف بلا حبٍ؟

أحلامُ الروحِ ستنتصرُ!

فالإنسانُ

نتساقاهُ الأورعْ .(ص:77)

ويقول:

أُنبيكِ:

تاللهِ بلا حبٍ

هذا الإنسانُ..

هلامٌ..

أحمقْ  .(ص:78)

وعندما يتغنى الشاعر بحب المرأة,  يتغنى به على استحياء في مقابل حب الوطن الذي يملأ وجدانه وكيانه وحياته، وكأني به يكرر تجربة محمود درويش الذي تخلي عن ديوانه الأول عصافير بلا أجنحة، لأنه كان مشغولاً بالحب والغزل في بواكير حياته عن الوطن، وعندما استيقظ، واستوى على عوده فنياً، ووجد نفسه تائهاً يغرد خارج السرب، عاد إلى ذاته، إلى كينونته.. إلى وطنه، وأصبح مجنوناً مطحوناً بحبه وترابه. كذلك كان رياض أبو رحمة، يرى حب المرأة حباً لا يرقى إلى حب الوطن، ولا يعادل قدسيته، لذلك كان لابد من تحطيم هذا الصنم الذي شغله عن حبه الحقيقي، ودربه القويم؛ درب الوطن, يقول في قصيدة ” صحوة”:

فتاتي حطِّمي صنمي

وسربَ الوهمِ في القِمَمِ

سأحيا منك ساعتَنا

نديماً ساطعَ اللغزِ

فأحسو صفوَ قهوتِنا

وأرجعُ اقتفي عجزي

وتبقى فيك تِرْكتُنا

هشيماً داميَ الوخزِ.   (ص:67)

إن الإنسان قيمة عظيمة في نظر الشاعر، ولكنَّ إنسان اليوم أصبح موزَّعاً بين التناقضات، غابت الإنسانية فيه، فغدا دموياً قاتلاً فاجراً ومخادعاً ( شيطانا يسكنه الديجور ومنه تفح النيران)، لذلك يبقى حلم الشاعر أن يعود الإنسانُ إلى إنسانيته.. إلى براءته.. إلى حبه لأخيه الإنسان ..

يقول في قصيدة ( هذا الإنسان):

هذا الإنسانُ

أنا

في رحلةِ كوني السفليِّ

أصلي توقاً

أن ينجوَ فينا الإنسانُ. (ص:54)

 

اللغة والأسلوب :

مما يلاحظ على بناء القصيدة عند الشاعر، أنه يقسِّم القصيدة إلى عدة مقاطع متتابعة، تحمل أحياناً أرقاماً، تُميِّزُها عن بعضها البعض، وأحياناً أخرى تأتي بدون أرقام، وكثيراً ما يقسِّم المقطع الواحد إلى مقاطع صغيرة, أو جمل شعرية, يترك بينها فراغاً طباعياً يسهم في تمييزها عن بعضها .

هذه الظاهرة التركيبية لها أهميتها في التأثير على القارئ، وحسن استقباله للنص الشعري، إذ إنها تيسِّر عليه التقاط الفكرة وتملُّكِها، وتمنحه استراحة زمنية قصيرة, تمكِّنه من التقاط أنفاسه، وتأملِ المعنى الشعري وتدبرِه في نفسه.

كما تتسم الجمل الشعرية عند الشاعر بقصر جملها النحوية، وترابط دلالتها، وتسلسل أفكارها، وتقديمها في صيغة سردية شائقة وممتعة، لا نشعر معها بأي ثقل تركيبي، أو غموض في التقاط أطراف المعنى, والإحاطة به. وكثيراً ما تأخذ الجمل النحوية داخل المقطع الشعري أو الجملة الشعرية، بنية التكرار سبيلاً لصياغتها، مما يسهم إسهاماً واضحاً في وضوح الفكرة وتأكيدها من ناحية، وتحقيق الإيقاع الموسيقي والتناغم الصوتي من ناحية أخرى. على سبيل المثال يقول في قصيدة “ست ترنيمات على إيقاع الموت” – الترنيمة السادسة :

 

ها أتركُ الدنيا ورائي

 ها تذرفُ الثكلى شقائي

ها تقطف البلوى رجائي

ما أعظم المطحون أعزلَ لم تدعْهُ الطائراتْ

ما أصغر المأفون إذ..

     يغتالُ حقداً نبضَ أشواقِ الحياةْ

الحرب شر مطلق .  (  ص: 46)

فالجملة النحوية في الأسطر الثلاثة الأولى جاءت على هذا النحو :

” ها التنبيه+ فعل مضارع+ فاعل+ مفعول  به+ ( الظرف في الجملة الأولى )”.

هذا التماثل التركيبي آزره تماثل في كلمة القافية (ورائي ، شقائي، رجائي )؛ مما أثرى الإيقاع  الموسيقي في الأسطر الشعرية ، وعزَّز الدلالة فيها.

وفي السطرين الرابع والخامس استنبطت الشاعر تشكيلاً نحوياً  آخر, يجدد من حيوية الصياغة الشعرية وتنوعها، وهو الجملة التعجبية على هذا النحو :

ما التعجبية + فعل التعجب ( أفعل) + المتعجب منه ، ثم بقية العناصر .

ولكنَّ الشاعر ولّد من التماثل التركيبي تقابلاً دلالياً بين الجملتين، فكانت الأولى تعظيماً لمكانة الضحية وبراءتها, والثانية تصغيراً لمكانة القاتل، واستخفافاً به . وفي قصيدة أخرى يقول :

 

النطفة يألقُ عنبرُها

الآية يسمو جوهرها

يا هذا المسحور بأسرار الخلق

ما أجدر أن يسبيك الإنسانُ

ما أبهى أن يسبيك الإيمانُ     (ص:47)

 

توالت الصيغة النحوية في السطرين الأول والثاني من المقطع الشعري على هذا النحو :

  • مبتدأ+ [ فعل مضارع+ فاعل + ضمير مضاف إليه] خبر
  • مبتدأ+ [ فعل مضارع+ فاعل + ضمير مضاف إليه] خبر

ثم يأتي السطر الثالث فيوقف هذا النمط التكراري, ويمهد لبروز نمط آخر يقلل من رتابة الصيغة, وسكون حركتها، على هذا النحو: ( اسم تعجب+ فعل تعجب+ أن المصدرية+ الفعل المضارع+ مفعول به (ضمير) + فاعل ).

هكذا يشكل الشاعر جُمَلَه النحوية داخل النص الشعري ، ليحدث توازياً وتماثلاً بين مكوناتها، يثري الإيقاع الداخلي للأسطر الشعرية، ويعمق الجانب الدلالي بينها ، دون أن تقع الصياغة في رتابة التكرار، وثبات نسقه.

الصورة الشعرية :

اتسم ديوان ” نيرفانا” بفضائه الدلالي المكثف، وخياله الواسع ، وإيحاءاته الثرة، تلك التي أسهمت في سمو الروح الشعرية وتألقها. وكانت الصورة الشعرية من أهم الأدوات الفنية التي استغلها الشاعر في الارتقاء بشعرية النص، فلا يكاد يخلو مقطع شعري، أو جملة شعرية من صورة مبتكرة، أو مجموعة من الصور المتناصرة والمتآزرة في تشكيل مشهد شعري ينبض بالحيوية والإحساس والتجسيد، ولنا أن نقف عند نموذج من هذه الصور الممتدة على مساحة مقطع شعري بكامله, يقول في قصيدة (نيرفانا):

الفانتوم في الآفاق تدورُ

عسسٌ

أسرارُ الأميينَ مشاعُ

فكأن حجابَ السترِ فضاءٌ مسفورُ

تتجبرُ قرقعةُ الصوتِ

قصفٌ .. قصفٌ

أطنانُ حديدٍ

ستمزقُ دنيا الأميينَ

ها يصلبُنا الشعبُ المختارُ

قرباناً للموتِ

يمتزج الأحمرُ والأصفرُ

نيراني تشتعلُ

أحياءٌ نحنُ ؟

أم أصداءٌ للبعلِ على وترٍ عدميٍّ يحتفلُ

يخبو الكونُ

تتضاءل أرجاءُ مجرتِنا

العَتَمَةُ تنتصرُ

ما أصغرَني

كوناً يتأوهُ في كوني.  (ص:25)

يصور الشاعر في هذا المقطع المشهد الإجرامي لآلة العدو الصهيوني, وهي تغتال النفوس الآمنة البرئية , فيبدأ المقطع بذكر طائرة “الفانتوم” التي تستبيح أسرار الأميين، الذين لا يملكون وسيلة لحماية أنفسهم, أو صون أسرارهم أمام هذه الآلة المتقدمة بأجهزتها وتقنياتها الحديثة في التصوير والرصد والقصف تحت أي ظروف. ثم تأخذ الأسطر الشعرية في تصوير مشاهدَ من عدوانها وترويعها للناس البسطاء الآمنيين في بيوتهم، فتحولهم أشلاء أو قرباناً للموت.

وقد جعل الشاعر من طائرة “الفانتوم” رمزاً لقوة العدو وسطوته وجبروته، ثم عزَّز هذه الدلالة بكلمات اختارها من معجم عنيف , هو الحرب والقتل مثل :” تتجبر، قرقعة، قصف، أطنان الحديد، ستمزق، قرباناً، الموت، الأحمر، الأصفر، نيراني، تشتعل، عدمي، يخبو ، العتمة، تتضاءل، يتأوه) ذلك كله من أجل أن يكتمل المشهد, ويتجلى في صورة حسية نابضة باللون والصوت والحركة, تنتشر أجزاؤها على مساحة تسعة عشر سطراً شعرياً, هي عدد أسطر المقطع الشعري.

 

******

[1] النيرفانا: هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق، فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق، أي يصبح منفصلاً تماماً بذهنه وجسده عن العالم الخارجي، والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة وقتل الشهوات، ليبتعد الإنسان بهذه الحالة عن كل المشاعر السلبية من الاكتئاب والحزن والقلق وغيرها. النيرفانا حالة الخلو من المعاناة .  ( ويكيبيديا).

مقالات ذات صلة

إغلاق